“هل يقرأ كتّابنا بعضًهم بعضا؟!” بقلم سعيد نفاع
تاريخ النشر: 01/07/19 | 20:38يًنقل عن سقراط قول، إنه سُئل: “كيف تقيّم المَرْء!”
فقال: “أسأله كم كتابا قرأت!”
القراءة عندنا نحن العرب تقاسي أزمة مستفحلة، وعلى هذا يوجد شبه إجماع إن لم يكن إجماع قلّما يوجد حيث يجب أن يكون في حياتنا. ترى النور بين الفينة والأخرى استبيانات لمعاهد عربيّةٍ وعالميّة وخصوصا منظمّةِ الأمم المتّحدة للعلم والثقافة – اليونيسكو، تُؤوّدُ أمامك فضائيّا، وإن أردت فأرضيّا، عمق الأزمة، ولا أعتقد أنّ متابعا غيورا على أمّته بمكوّناتها لا تصعقْه المعطيات.
لا أعتقد إنّا بحاجة للمعاهد ولليونيسكو ولا استبياناتِها كي نعرف إنّنا والقراءةَ عدّوان لدودان، اللهم إلا الحاجةِ لتبيان عمق “اللدوديّة” بيننا وبينها. وطبيعي إنّ مختصّين كثر في علم النفس والاجتماع تناولوا هذه العداوة ومحّصوها، ولست في صدد ذلك فلا أنا من هؤلاء ولا أولئك.
وجد هؤلاء وأولئك مئة سببٍ وسببٍ لهذه الأزمة عند السواد من ناسنا، ولاقوا لها مئة تبرير وتبرير ومئة تعليل وتعليل، ولكن الأزمةَ تتفاقم حين نحاول أن نجد لها الأعذارَ أو “نفتّش في السراج والفتيلة” لها عن أعذار. ومع هذا ربّما يستطيع المرء أن يتحمّل، ولو على مضض، هكذا وضعا ممنّيا النفس بتغيّر الحال مع تغيّر الأحوال.
التاريخ والحاضر يشهدان إنّ الأمم أنجبت ما اصطُلح عل تسميته نُخبا في شتّى مجالات الحياة، وهذه النخبُ ارتقت بأممها بعد أن شقّت أمام الصفوف الطرق. فأين موقعُ نخبنا اليوم من الصفوف بشكل عام وفي سياقنا بشكل خاص؟!
أدّعي أن نخبَنا بغالبيّتها العظمى، ليس فقط إنها ليست في مقدّمة الصفوف وإنّما في الخلفيّة منها وفي أحسن الأحوال في معمعانها، والحديث ليس عن المكان الجسديّ الجغرافيّ إذا صحّ التعبير (الصفّ الأول في المسيرات والندوات واعتلاء المنصّات)، الغالبيّة في هذه “قدْها وقْدود”، وإنّما الحديث عن المكان الذهنيّ فكريّا واجتماعيّا والغالبيّة في هذه تقبع في المؤخّرة أو “حاطّه رأسها بين الرؤوس”. ولا يتمنطقنَّ أحد الوطنيّة السياسيّة أو يجد فيها شفيعا، لأن الوطنيّة لا تتجزأ فمن ليس وطنيّا فكريّا واجتماعيّا لن يستطيع أن يكون وطنيّا سياسيّا وإن تلفّع فألف لِفاع ومِلفَعة.
أدّعي؛ إنّ واحدة من علامات هذا التموضع هي قلّة قراءتنا وعدم قراءتنا بعضنا إلّا لماما، وإن أضفت إلى ذلك غياب الغبْط واستفحال الحسد بين الصفوف والتقليل من الآخر ظنّا إنّ في ذلك إعلاء نفس، فالطامّة كُبرى. والأنكى هو حين يصير الواحد منّا يعتبر نفسه فحل وفارس القلم الذي لا يُشقّ له غبار وكلَّ من حوله راجلةُ في أحسن الأحوال، فما للراجلة وللفحول والفوارس؟!
هذه المقدّمة الطويلة العامّة، نتاج معايشة “طبقة” الكتّاب والشعراء في السنوات الخمس الأخيرة من عمري وعن قرب، وأنا الذي عشت بعيدا قريبا وقد أخذني صخب الحياة السياسيّة عنهم، بعيدا تنظيميّا قريبا قراءة وكتابة، ليس كما كنت أحبّ ولكن على الأقل وجدت للأدب وأصحابِه بين ذاك الصخب بعضَ متّسع. ولكن أبدا لم أتخيّل ولم يخطر لي على بال في خضمّ ذلك الصخب، إنّ الصخب الثقافيّ أضجّ، لا بل وأحيانا “أعجق”.
الكتّاب والشعراء، ولا فرق في سياقنا بين الكبار والمخضرمين والجدد والمتلمّسين الطرق، يقطّعون نياط عقولهم أولا ومن ثمّ جيوبِهم كي ينتجوا، وعند الكاتب والشاعر إنتاجُه يتشابه في الكثير من النواحي مع المولود معزّة، وتراهم يتأبّطون نُسخ كتبهم في كلّ ندوة يوزّعونها على زملائهم مجّانا. وإن أسعف بعضهم الحظّ أو الأصح العلاقات في “دار نشر” تسلخُه وتسلخ تعبه فلا يجد حتّى ما يهديه وعلى الأقل لكلّ من أهداه في غمرة التضخّم الذي نعيش. تطرح دور النشر في الندوات بعض النسخ، فترى الزملاء يمرّون أمام “كِشك الناشر” “المْصَفّتة” عليه النسخ شبه اليتيمة مرّ الكرام، وإن كنت “حُشريّ” واسترقت النظر تجد أنّ مرورهم كان تفتيشا عن شيء هناك ربّما بالمجّان، وإن وُجد تطير نُسخُه في أقل من “رمشة”، وتظلّ النسخ “المْصَفّتة” قابعة ترمق التطاير بنظرات ملؤها الغيرة، والألم يعتصر قسمات وجهها.
ولا تنتهي رحلة العذاب هنا، فتمرّ الأيام وربّما الشهور، ويلتقي الهادي والمُهدى إليه وربّما مع آخرين في سهرة “نرجيليّة”، وفي حمأة الحديث النرجسيّ يروح المُلتقون يذرعون أسماء كتب صدرت وكتّاب أصدروا، وما يعرفون عنها وعنهم إلا ما قرأوا هنا وهنالك لماما في عناوين المواقع، وما أكثرها، أو سمعوا عنها في ندوة شاركوا فيها مجاملة أو “كُرمى”، ورغم ذلك تراهم لا يجدون فيما قرأوا عجبا ولا فيما سمعوا عجبا. العجب كلّ العجب فيما كتبوا هم وتأخذهم الأحاديث وإذ وعرضيّا يدخل الحديثَ غير مستأذن كتابُ أحدهم الذي كان أهداه لمحدّثه، ومحسنا الظنّ بالمحدّث يروح يتكلّم عمّا كان في كتابه هو مثيرا للعجب مقارنة، وإذ به يكتشف أن قبيله لم يفتح الكتاب، وإذا امتلك القبيل ناصية جرأة الاعتراف، يردّ مبرّرا وعلى الغالب كاذبا: “متأسف لم أقرأه حتّى الآن لأنه لم يكن عندي وقت!”.
هذه ال-“لم يكن عندي وقت” لا أعتقد إنها موجودة في قواميس الشعوب، اللهم إلا تلك التي “تقاسي” فائض وقت ونحن منها. أي شعب أو ايّ مجتمع أو أي فرد؛ إن اختار أن يكون سيّد وقته فوقته سيكون عبدا طيّعا مطواعا يرجو رضاه، ولكن إن أختار أن يكون وقته سيّده فسيعاني من سيادة ظالم لا يرحم لأن هذا السيّد ساديّ حتّى النخاع، راحته وهدأة باله في تضييع من يقبل أن يكون له عبدا، لأنه وبطبيعته لا يستطيع أن يكون سيّدا إلا إذا سيَّده من وُجد أصلا ليكون هو سيِّده، فينتقم منه شرّ انتقام، ومن ألذّ أشكال انتقامه حين يصنع منه كاذبا يعرف إنه كاذب!
هنالك حالات من اكتشاف قيمة المُهدى أصعب وهي كثيرة؛ كأن تجد كتابك المُهدى الذي كتبته بعصارة قلبك وأهديته من عصارة جيبك المعصورة أصلا، تجده مثلا وبالمصادفة وقد زحل من تحت مقعد سيّارة أو في صندوقها يئنّ بين ما هبّ ودبّ ممّا يُحشى عادة في هكذا أماكن. والأشدّ ألما هو إنه يصعب عليك إنقاذه متعاميا منعا للإحراج، فيعمى قلبك ألما ليس على مُقاساته حين شاركك المولود وإنما على جبنك عن إنقاذ المولود باسترداده “عينك عينك”، ولسان حاله يقول لك: لو لم تجبن وفعلتها، فسأحمل عنك وسأتحمل منك تمزيق الصفحة التي كتبت عليها إهداءك ورميها إلى جهنّم وبئس المصير. خصوصا وإنّه يبدو وبعد أن تشوّهت قيمة الهديّة؛ ف-“اللي ببلاش يروح بلاش”!
ويقول لك: سأغفر لك قلبك ذنبك بتعذيبك إيّاي معك، حين تجيب على السؤال؛ لماذا لا يقرأ نفر كثير من كتّابنا بعضُهم بعضا؟!
البعض من هذا النفر لأنهم من أمّة؛ اقرأ التي لا تقرأ، وعيب الخروج عن الأمّة!
وإن كنت من القراء، فحين تقرأ هؤلاء لأنك تدّعي أن الكلّ يستأهل أن يُقرأ، تكتشف سريعا عداوتهم والقراءة من قلّة العمق المعرفيّ في انتاجهم، والذي هو من أهمّ صفات الكاتب والشاعر.
البعض الآخر يقرأون، ولكن وبما أنّهم فحول القلم وفوارس الكلمة وكلّ من حولهم راجلة في أحسن الأحوال، فيقرأون مّن يعتقدون إنه فحل وفارس مثلهم والمهم أن يكون من خارج الحدود وجوة البحار وعمق التاريخ، وحين يكتشفون إنّ “الزلمة” ليس بفارس ولا فحل ولا يحزنون يكون الوقت قد عدّى!
هؤلاء وأولئك، “الله يكون في عونهم!”
ولكن “ثالثة الأثافي” هم هؤلاء الذين لا يقرأون زملاءهم اعتقادا منهم إنّهم بمجرّد أن قرأوهم، فهذا اعتراف ضمنيّ منهم إنهم يستأهلون القراءة، وفي “الإستئهال” هذا اعتراف إنّهم يجارونهم فحولة ومعاذ الله أن يوجد مثل هؤلاء! ولكن خوفهم أن يجدوا فيهم أفحل وأفرس منهم حتّى في اللاوعي فهذه طامّة.
هؤلاء لن يكفيهم: “الله يكون في عونهم”، لأنه لن يستطيع، وأستغفره استغفارا كبيرا!
“إن خِلْيِت بِلْيِت” هذا صحيح ولكن الأمر يقتصر على قلّة يقرأون زملاءهم لا بل ويحاورونهم فيما قرأوا إيجابا وسلبا، وأدّعي إنّي مصيب في هذه الخلاصة، وهؤلاء هم من وجهة نظري من ارتقوا من مرتبة الكتّاب والشعراء إلى مرتبة الأدباء، وشتّان ما بين الكاتب والشاعر، والكاتب الأديب والشاعر الأديب. وإذا كانوا نقّادا فجمعوا بين الناقد الأدبيّ والناقد المفكّر كما قال أحد كتّابنا في عدد “شذى الكرمل” الأخير فارتقوا وسيرتقون بمشهدنا الثقافيّ.
دفاعي عن نفسي أمام لائحة الاتهام هذه وأنا المحامي مهنة، هو الحديث الشريف؛ “من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد وأصاب فله أجران!”.
ولن أكون طمّاعا، فأكتفي بأجر واحد!
سعيد نفاع