أسرى أحرار
تاريخ النشر: 02/07/19 | 9:58راقت لي فكرة زوجتي سميرة بزيارة أسرى يكتبون خلف القضبان ما دُمتُ مهتمًّا بما يكتبه السجناء وبأدب السجون؛ بدأت مشواري بزيارة أحمد وكمال وعاصم قُبيل عيد الفطر ممّا جعل للعيد مذاق آخر.
بعد تلك الزيارات دوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تواصل معي المئات، وشدّني ما كتبَتهُ الصديقة الكاتبة حنان بكير: “من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة”، وكتب لي العزيز د. يوسف عراقي: “الحريّة هي حريّة الأفكار…بالرغم من أنّهم خلف القضبان فإنّهم أحرار بعكس الكثيرين خارج القضبان والذين هم أسرى بمواقفهم”. نعم، إنّهم أسرى أحرار رغم القيود اللئيمة!
كاسك يا “ميلاد”
تعرّفتُ إلى الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي؛ شاعر وروائي فلسطيني يقضي حكمًا بثلاث مؤبّدات داخل سجون الاحتلال، له العديد من الاصدارات الشعريّة والروائيّة ومنها ديوان “طقوس المرّة الأولى”، ديوان “أنفاس قصيدة ليليّة”، رواية “مسك الكفاية ، سيرة سيّدة الظلال الحُرّة” ، “نرجس العزلة” و”خسوف بدر الدين”، عبر رواياته التي تناولتُ بعضها.
التقيته صباح الأربعاء 12 حزيران في سجن “هداريم” وقابلني بابتسامة طفوليّة بريئة (ابتسامة لم تفارقه لساعتين ونصف) وقبلات عبر “الحاجز الزجاجيّ” البغيض فسألته، بغرض كسر ذلك الحاجز، عن سرّ الابتسامة السرمديّة، فأجابني بعفويّة: “أشعر أنّ اليوم عيد ميلادي لأنني سجين منذ خمسة عشر عامًا وللمرّة الأولى يزورني “غريب” بسبب كتاباتي، أشعر حقًا أنني اليوم أصبحت كاتبًا!!!”.
تحدّثنا كثيرًا عن كتاباته، طقوسها ومشروعه الأدبيّ، الاغتراب الثقافي، التطبيع، متابعته لما أكتب وأسلوبي في الكتابة، الرواية المحليّة وأدب السجون على تعريفاته: التقليديّة النمطيّة والحديثة، عن دور نادي حيفا الثقافي في تنشيط الحركة الثقافيّة في البلاد، إشهار روايته الأخيرة في بيروت وافتقاده لصورة والده، رحمه الله، في حفل الإشهار، حيث فارق الحياة وباسم يقبع خلف القضبان، الحياة داخل السجن وتعرّفه عن كثب على الجناح الآخر للوطن: كريم يونس، وليد دقّة وباسل غطاس وغيرهم، والابتسامة تلازمه كلّ الوقت، ووجهه الذي يشعّ حياةً ويبرق أملًا، وعن نسيان وضياع قضيّة الأسرى.
عذرًا ايها الباسم، لقد خذلناك.
في طريقي خارجًا من غرفة المحامين لمحتُ الأسير كريم يونس يتحدّث مع محاميه، الذي كان متدرّبًا في مكتبي، استوقفني وتبادلنا أطراف الحديث وتطرّقنا لمقالة كتبتُها عن الأسر ولوحة د. يوسف عراقي التي رافقتها، وكانت مفاجأة سارّة.
وعدت باسم أن نرفع نخب “ميلاد” الموعود قبالة بحر حيفا، وميلاده حتمًا سيكون فأل خير على الحركة الأسيرة، ووفيت بوعدي.
لك عزيزي باسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي في حيفانا الباقية حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، المدينة الصامدة الحزينة التي تنتظر عشّاقها المشرّدين في الأرض رغم الذلّ والعنصريّة والاحتلال وهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
رسالة إلى “قمر”
أطلّ عليّ الأسير حسام شاهين ظهيرة يوم الخميس 20 حزيران بابتسامة طفوليّة قاتلة رغم الحاجز الزجاجيّ، المغبّش عمدًا لتشويش الصورة وتشويهها، حين التقيته في غرفة لقاء المحامين في سجن الجلبوع في منطقة بيسان. استفسرت منه سرّ تلك الابتسامة فأجابني دون تردّد: “أشمّ فيك رائحة حيفا الوطن”، حدّثني عن زيارته لحيفا حين أصابه مرض خلف القضبان وكانت شكوك بتعرّضه لجرثومة لئيمة، نقلوه بواسطة “البوسطة” البغيضة لفحوصات في مستشفى “بني تسيون” الحيفاوي وكم كان سعيدًا بأنّ الطبيبة التي فحصته عربيّة من جناح الوطن الآخر الذي يحلم به ليل نهار، وفي طريق عودته سمح له سجّانه بالنزول لدقيقتين كيّ يتمتّع ببحر حيفا وساحلها، فكانت “أحلى” مرضة في حياته لأنّها جعلته يزور حيفا، وها هو يلتقي بحيفاوي قادم للُقياه، دون سابق معرفة ولكونه أديب يكتب خلف القضبان.
تناولنا معًا روايته “زغرودة الفنجان” ومشروعه الثقافي وشظايا التجربة، قيم فلسفيّة أدبيّة تزداد قيمتها خلف القضبان، قصّة فقدان الخصوصيّة لأنّ الحريّة هي الأساس، كون السجن نموذجًا حيًا يمثّل الدي. أن. إيه للمجتمع الفلسطيني، قيمة الأشياء الصغيرة التي اكتشفها داخل السجن بسبب الحرمان. تلك الأمور الصغيرة تكبر في ذهن ومخيّلة الأسير القابع في زنازين الاحتلال، حرمانه من لقاء أحبّته وفقدان أعزاءه دون وداع، حرمانه من احتضان وتقبيل “قمره” أربعة عشر عامًا. لهذا يصبح للقائه بغريب مثلي نكهة مغايرة ذكّرته بأنكين هوتفلدت النرويجيّة، عرفها قبل أسره وبعد مضيّ سنوات سُمح لها بزيارته وحين التقته خلف شِباك السجن مدّت يدها لمصافحته لكنّ الحاجز المشبّك حال دون ذلك، تلامست أصابعهم فارتبك حسام وسألته أنكين بعفويّة ما سبب ارتباكه؟ أجابها أنّها المرّة الأولى منذ اعتقاله يلامس بشرًا “غريبًا” وحتى الأهل لا يستطيع ملامستهم واحتضانهم فصاحت به “touch”، “تاتش”، “touch”، “تاتش”، ممّا لفت انتباه السجّان فانقضّ عليهما موبّخًا ونقلها لغرفة ذات حاجز زجاجي دون “شبك”!
مرّت ساعتان بلمح البرق، تحدّثنا الكثير الكثير وكأنّنا أصدقاء قدامى، وكما قال صديقنا المشترك محمد صبيح : “حقًا، هناك وجوه فنيّة في السجن”.
إرادة عطرة
جلست في غرفة لقاء المحامين في سجن الجلبوع بانتظار لقاء الأسير سائد سلامة، بعد لقائي لساعتين مع الأسير حسام شاهين، وفي الممرّ، قبالة الغرفة، التقى الأسيران وتعانقا عناقًا حميميًّا استمرّ عدّة دقائق ممّا جعل عيناي تدمعان. كانت الغرفة حارّة جدًا، بينما في الغرفة المجاورة يجلس محامي زميل مع موكّله الجنائيّ بأريحيّة والغرفة مكيّفة واللقاء دون حواجز زجاجيّة أو غيرها. بادرني سائد التحيّة: “أهلًا بالجندي المجهول” وحين سألت قصده حدّثني عن دوري، دون أن أدري، في إصدار مجموعته القصصيّة “عطر الإرادة”، حيث عرّفت صديقي سعيد نفاع بصديقي الناشر نقولا عقل، بعد أمسية ثقافيّة في نادي حيفا الثقافي، وكان نتاجها إصدار كتابه.
حدّثني عن تعرّفه على عرّابِه الجرمقيّ الشامخ وكذلك أبو هند الحيفاويّ وحياة الأسير خلف القضبان، عن الحرمان وفقدان الإيمان بالذات، محاولات كسر وتحطيم الذات من قبل السجّان و”نوّابه” على الأرض، وعن هرميّة مُعيبة مقيتة داخل السجن.
حدّثني بحَرقة عن ثقل الفقد والحرمان، وعن ظُلم ذوي القُربى ومضاضته القاسية المؤلمة. الكتابة نتاج احتقان داخليّ قاتل، ومحاولات تدجين الحركة الأسيرة تمامًا كما هو هناك خارج القضبان، محاولات القمع التنظيمي والانهيار القيَمي، تصوير السجن كأكاديميّة ما هو إلّا تجنّي على الحقيقة، سحق المنظومة. إنّها مرحلة مفصليّة يجب توثيقها لئلا تضيع الطاسة ويذهب الصالح بعروى الطالح، يذهب نضال ذاك المناضل سدًى. كتب عطر إرادته بدم قلب يدمي على الوضع الذي آلت إليه حالتنا، وما يراه هناك خلف القضبان لا يراه زلُم أوسلو ورجالاتها، ويتمنّى أن يفيقوا من سباتهم العميق ليراجعوا أوراقهم من جديد.
مرّت الساعات مُسرعة، وإرادته تتدفّق عطرًا وصلابة… وأملًا بحُريّة قريبة.
لكم أعزّائي باسم، حسام وسائد أحلى التحيّات. الحريّة لكم ولجميع رفاق دربكم من أسرى الحريّة.
حسن عبادي
***الأسير باسم خندقجي من مواليد 1983، أُعتقل يوم 2 تشرين الثاني 2004 حكمت محكمة سالم العسكريّة بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد ثلاث مرات.
***الأسير حسام شاهين من مواليد 1972، أُعتقل يوم 28 كانون الثاني 2004 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن 27 عامًا.
***الأسير سائد سلامة من مواليد 1976، أُعتقل يوم 30 آذار 2001 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن 24 عامًا.