ظلّ التانغو – ثورة بلا ثائرات لدلال عبد الغني
تاريخ النشر: 02/07/19 | 10:07 محمّد صفّوري – شفاعمرو
1. بين رقصة التانغو وظلِّها
يُحيل عنوانُ الرواية “ظلّ التانغو” إلى رقصة التانغو الشهيرة، وهي رقصة ظهرت أواخرَ القرن التاسع عشر الميلاديّ في أوساط الطبقات الفقيرة والمهمّشة في الأرجنتين. تعكس الرقصة انصهارَ المهاجرين في الحياة العامّة وانتزاعَهم الاعترافَ بوجودهم بأسلوب موسيقيّ راقص يجسّد أوجاعَ المضطّهدين وأنينَ المهمّشين. لقد وحّدهم الحزن كما وحّدهم الفقر. مع مرور الوقت تطوّر مفهوم الرقصة حتّى صار يعكس ثقافة الأثرياء في العالم، وانتشرت الرقصة بأنواعها المتعدّدةِ أبرزُها؛ التانغو الأرجنتينيّ، الفرنسيّ، والأمريكيّ.
تتميّز الرقصة بشهوانيّةٍ مفرطة، إثارةٍ، وانسجامٍ بين الراقص وشريكتِه، وقد اتُّخِذَتْ أسلوبَ حياة ونمطَ تفكير، وطريقةً في التعبير من خلال وقع الأقدام، لتصيرَ حشدًا لكلّ المشاعر المثارة. تأخذُ الراقصةُ الأنثى بيد الرجل ليصبحَ تانغويًّا، فتتغيّر المقولةُ إلى “وراءَ كلّ راقص تانغو امرأةٌ تحبُّه”.
ولعلّ في اختيار الكاتبة هذا العنوانَ دعوةً للمهاجرين العرب والفلسطينيّين خاصّةً للاندماج في الحياة العامّة الجديدة في السويد وغيرها، رغم كون هجرتِهم إليها إجباريّةً لا اختياريّةً؛ نتيجةً للحروب العديدة التي اجتاحت بلادهم، أو لطردِهم من البلاد العربيّة التي لجأوا إليها، أو هربًا من الأنظمة الجائرة في تلك البلاد إلى حيث الحريّةُ والمساواةُ، وعليه تدعوهم الكاتبة إلى الاندماج، التفاعل، والمشاركة في الحياة الجديدة حتّى لا يبقَوْا في الظلّ مهمّشين أو منسيّين دون أن يُؤثّروا أو يتأثّروا بما يدور في تلك البلاد، لا بدّ من أن يشاركوا في الرقص دون الاكتفاء بالمشاهدة!
2. ظلّ التانغو والأدب النِّسْويّ
تتوزّع الرواية على اثنين وعشرين فصلًا وتقوم أحداثها على ما تلفظُه صناديقُ ذاكرة الراوية وغيرها من الشخصيّات بعد تعرُّضِها للمثيرات التي تحفر في الذاكرة، فتستحضرُ أحداثَ الرواية؛ تنفيسًا عمّا يؤرّق الشخصيّةَ، أو توثيقًا لها خوفًا من الضياع والنسيان، وفي أحيان كثيرة تُضمّن تلك الأحداثُ نقدًا لجهة معيّنة على سبيل تقويم السلوك، أو تثوير المجتمع ونحو ذلك. يتمّ استحضارُ أحداث الرواية في فضاءات عديدة من أبرزها؛ كافيتيريا لجمعيّة نسائيّة، مقبرة المدينة، وغيرها، بذلك تهيمن تقنيّةُ الاسترجاع على جماليّات الرواية وفنّيّتِها، إضافة لتقنيّة الحوار التي تستحوذ على مساحة واسعة من الرواية، ليصيرَ الحوارُ عنصرًا أساسيًّا في معمار الرواية، ناهيك بآليّات فنّيّة أخرى كالاستفهام البلاغيّ، التجريد، وأسلوب الاعترافات والرسائل ونحو ذلك.
تُعتبرُ الرواية، في تصوّري، صرخةَ احتجاج وثورةً نِسْويّةً ضدَّ المنظومة الاجتماعيّة الذكوريّة في المجتمعين العربيّ والغربيّ؛ إذ ترصد الراوية عبرَ ذاكرتها، أحداثًا عديدة تعكس عمليّةَ سحقِ المرأة وتهميشِها في هذين المجتمعين، وأخصّ بالذات المجتمعَ العربيَّ لما يقترفُه من جرائمَ في حقّ المرأة؛ كسلبِ حرّيتِها، حرمانِها من مزاولة الحياة بصورة طبيعيّة، حرمانِها من التّعلّم، حرمانِها من التعبير عن رأيها، اغتصابِها ومن ثُمّ قتلِها دفاعًا عن الشرف ليبقى المعتدي (الرجل) حرًّا طليقًا دون أيّ مساءلة أو عقاب. ثمّ تأتي الحربُ لتزيدَ من مآسي المرأة فتصبحَ عرضةً لاغتصاب الجنود، سرقةِ ما لديها من أموال أو مجوهرات، تشريدِها في البلاد، ومن ثمّ حرمانِها من لَمِّ شملِ أبنائها بعد لجوئها إلى بلد آخرَ، وهذا ما تشير إليه الكاتبة في استهلال روايتها، إذ تقول موضّحة سببَ كتابتها عن الحرب والنساء أو النساء والحرب بقولها: “لا يحقّ لي أن أنكر حقيقة كون النساء ظللْن موضوعًا مرتبطًا بالحرب من أقدم العصور إلى حاضرها […] والحرب ما زالت تقتصّ في كلّ ساعة وكلِّ يوم من إنسانيّتها، من وطنها، من انتمائها، ومن مستقبل فلذات كبدها. تلك الحرب التي ضيّقت الخناق حولَ عنقها حلْقةً تلو حلْقة حتّى أوشكت السلسلةُ على إغلاق الطوق. لم يبقَ لها مهربٌ سوى الكتابة”(الرواية: ص8).
يؤكّد كثير من الدارسين لأدب المرأة أنّ الهروب من العالم الحقيقيّ العدائيّ الذي تعيشه المرأة إلى عالم الكتابة، هو سمة بارزة من سمات الأدب النِّسويّ عربيًّا وعالميًّا، إذ تجد المرأة في عالم الكتابة متنفّسًا لها، فلا قيودَ ولا أغلالَ ترسف تحتها، بل إنّها فرصة لتحقيق ذاتها والتحرّرِ من وصاية الرجل المحبطةِ وسطوتِه عليها، وهذا ما تشير إليه الراوية قائلة: “إدراك العلاقة الجدليّة بين مدى إيمانِهنّ بأنفسهنّ وحقّ إنسانيّتهنّ عليهنّ ليست شعرةً وحسب، بل بوصلةٌ مؤشّرُها شعارُ النعيم الحقّ حيث تنمو للنساء أجنحةٌ ترفرف فتحلِّقُ معتنقاتُها ضارباتٍ عُرضَ الحائط بالوصاية الذكوريّة الماضية منها قبل الحاضرة. فارقنَ (نظريّة) ظلّ رجل ولا ظلّ حيطة”(الرواية: 101).
تجدر الملاحظة إلى هيمنة العنصر النسائيّ على فضاء الرواية وأحداثها، بل على كلّ مقوّماتها؛ فالمبدعة امرأة، والراوية امرأة، أمّا الشخصيّات الفاعلة فيها فمعظمها نسائيّة متباينةٌ أو متوافقةٌ في آرائها، ويكاد القارئ لا يجد شخصيّة ذكوريّة فاعلة اللّهمّ إلّا شخصيّةَ خالد المتّسمةَ بالسلبيّة والعدائيّة لكلّ ما هو أنثويّ، إنّه حامل لواء المنظومة الاجتماعيّة الذكوريّة التي تسعى بكلّ ما أوتيت إلى تهميش وتهشيم المرأة؛ لتبقى في حظيرة الرجل، وقد حُرمت من كلّ حقوقِها الإنسانيّةِ، كما تصرّح الراوية قائلةً: “أنا أنتمي إلى أمّة تُفْقِدُ شعوبَها حقَّها في إنسانيّتها”(الرواية: 69).
يبرز الحوار مُقوِّمًا مركزيًّا في شعريّة الرواية إلى جانب تقنيّة الاسترجاع الحاضرةِ في عودة الراوية إلى الماضي وفتح صناديق ذاكرتها كما قدّمنا. ينعقد الحوار في فلك قضايا حياتيّة مؤرّقةٍ أبرزُها مسألةُ اندماج المهاجرين العرب في المجتمع الغربيّ الجديد وموقفِهم من الغرب، العلاقةُ بين الرجل والمرأة وقضيّةُ المساواة بينهما، ذكوريّةُ المجتمع العربيّ والغربيّ، الصِّراعُ الحضاري الثقافيّ بين الشرق والغرب، توثيقٌ تاريخيّ يعكس تشرّدَ الشعب العربيّ الفلسطينيّ في الأقطار العربيّة والغربيّة، ونحو ذلك.
3. نظرة في المضامين
1. 3. مسألة الاندماج في الحضارة الجديدة
تناقش الرواية تباينَ الآراء في مسألة اندماج المهاجر العربيّ في الحياة الجديدة وموقفِه من الغرب، فحين ترى محاورة الراوية أنّ الغربة تجعل الراوية بعيدة عن دائرة الضوء ممّا يجعلها أكثرَ شفافيّةً وقادرة على البوح بمكنونات صدرها دون أن تطالها السياط؛ تخشى الراوية أن تتوهَ في حقول ذلك الوطن الجديد في طمأنينة مزيّفة! تقول: “قد نسكن إليه(الوطن الجديد) يومًا لنكتشفَ أنّنا كنّا وما زلنا أغربَ الغرباء في أوطان أجدادنا الماضية والحاضرة” (ص39). مقابل ذلك نجد بعضَهم من أمثال خالد يرفض الانخراط في حياة المجتمع الجديد رغم تأمين الحكومات للمهاجرين مسكنَهم و رواتبَ شهريّةً ليتمكنوا من العيش، مقابلَ انخراطهم في مدارسهم ليتعلّموا اللّغة ويتمكنّوا من التواصل مع الناس(الرواية 118). لا يكتفي خالد بالتمرّد على قوانين البلاد المضيفة والحاضنة لهم، بل يشرع في شتمهم: “الله يلعن أبوها من بلد، لا شتاءها بنقص ولا مصاريها بتزيد” أمّا أهل البلاد فهم في نظره: “باردين ما عندهم شرف، تصوّروا الأخ بشوف أخته ماشية مع واحد ما بزعل ولا بتأثّر، ما عندهم غيرة. والله ما عندهم صلة رحم، لا يزور الأخ أخاه أو أمّه إلّا مرّة في السنة”(الرواية: 43 – 44). تبدو هذه الأحكام على الغرب متأثّرةً بالنفس المأزومة، أو بالموروث الحضاريّ العربيّ، ولا تنمُّ عن تجارب حياتيّة، إذ تسأله السيّدة الصامتة إن سبق له وزار أسرةً سويديّة، أو هل لديه أصدقاءُ سويديّون، فيجيبها: “شو إلي فيهم عشان أزورهم! لا عاداتهم زي عاداتنا ولا قهوتهم مثل قهوتنا، ولا حتّى أكلهم مثل أكلنا. أنا بحالي وهم بحالهم”(الرواية: 44). يواصل خالد نقده للمجتمع السويدي قائلًا: “تصوّروا بطالبوا في المظاهرات إلّي اسمها برايد إنهم يتبنّوا ولاد كمان.. تحت اسم الحرّيّة الشخصيّة يُقِرّون أنّ لكلّ إنسان الحقَّ بجسده يعمل فيه زي ما بدّو. المصيبة أنّ الدولة مخلّيتهم على حلّ شعرهم. مش بسّ هيك حتّى الكنيسة أعطتهم الضّوء الأخضر..”(ص45).
في هذا المقام تستوقفنا شخصيّة خالد التي نتقصّى سلوكها في مواضعَ عديدةٍ من الرواية لتظهر شخصيّةً مستبدّةً، إنهزاميّةً، ومستغلِّة، بل متجرِّدةً من أيّ حسّ إنسانيّ، إذ يستولي على كلّ أموال أسرته ويبدّدها في تجارة خاسرة، أو على طاولات القمار، يغرّر بزوجته حين يسافر معها ومع أولادها في رحلة إلى تركيّا بمناسبة عيد ميلادها، لتُفاجَأَ صبيحة اليوم الثالث بمغادرته البلاد برفقة أولاده وزوجة أخرى انتحلت شخصيّةَ زوجته، وكسب منها مالًا كثيرًا وحضنًا نسويًّا جديدًا، يترك زوجته دون جواز سفر، وحين تعود إلى السويد يتّهمها بأنّها هي التي تركتهم، تعود إلى بيتها وأولادِها بعد مغادرة تلك الزوجة التي لم تُطِقْه أكثرَ من شهر، يحتدم النزاع بينهما، وعند تدخّل ابنتيه لفضّ الخلاف بين الوالدين يُلقي بهما من شرفة الطابق الخامس لتلاقيا حتفيهما، وقد فعل ما فعل نتيجةَ اضطرابِه النفسيّ، تفوّقِ زوجته عليه، إجادتِها للّغة السويديّة، حصولِها على شهادة الماجستير مقابل خساراته المتكرّرة وسلوكيّاته المشينة، كمحاولة اغتصاب زميلته آنية، خيانة زوجته مع نساء كثيرات، وممارسة العادة السريّة على الملأ، إنّه إنسان مأزوم، ضعيف، آثر التسلّقَ على حساب الآخرين فخسر كلّ شيء حتّى نفسه.
لا يتّفق كلّ المهاجرين العرب مع خالد، فهناك مَن يرى الوجه المشرق لتلك البلاد، ومن ذلك قولُ أحدهم: “بكفّينا في هالبلد عايشين بكرامتنا ما حدا بهيننا. لا حاكم ولا محكوم. لما بنروح على الطبيب بحسّ الواحد إنّو شفي من لطافتهم وحسن معاملتهم”، يؤيّده آخر قائلًا: “إذا بيروح الواحد منّا على مؤسّسات رسميّة بيحسّ إنّه له حقّ، وحقّه بياخذه بدون مَنّية.. يعني كيف، كلّ هالإنسانيّة مش مكفّيكوا! دعوا الخلق للخالق واتقوا الله، وإحنا في بلادنا وبلاد أجدادنا يا حسرة ما كان إلنا أيّ حقّ!”(45 – 46). هكذا تتباين الآراء في أوساط المهاجرين حول مسألة الاندماج في حياة تلك البلاد وموقفهم من أهلها وفق ما تنضحُ به نفوسُهم، أو اعتمادًا على الواقع الذي يعيشونه، أو خوفًا من حرّيّة المرأة وقوانين المساواة في البلد الجديد.
2. 3. العلاقة بين الرجل والمرأة – ثورة بلا ثائرات
يدور الحوار في جلسات أخرى حول علاقة الرجل بالمرأة تلك العلاقة التي أقرّتها وأرست قواعدَها المؤسّسةُ الاجتماعيّة الذكوريّة، فجعلت الرجل محور الحياة، والمرأةَ خادمةً مطيعةً له، لا يشغلُها سوى إنجابِ ذكور تشرّع القوانين المجحفةَ بحقّها، وتدمّر ما بقي من آثار حضاريّة دون أن يصدر عن المرأة أيّ احتجاجٍ أو محاولةٍ للتحليق بعيدًا عن الرجل طلبًا لحرّيّتها، الأمر الذي يثير حفيظة أمّ الراوية لتعلن عن كرهها لهذه النماذج النسائيّة(الرواية: 102).
تتعدّد المواقف من هذه المسألة بتعدّد الشخصيّات تقريبًا، فلا غرو من اتّفاق معظم الشخصيّات الذكوريّة على ضرورة خضوع المرأة للرجل الذي يعتبره الشرع قوّامًا عليها، ويراه العرف الذكوريّ عليها وصيًّا، فهو الأوّل وهي الآخر على حدّ تعبير المفكِّرة النِّسْويّة الفرنسيّة سيمون دي بفوار، أمّا الاعتراض على هذه النظرة ومقاومتِها في المجتمعات العربيّة فأمران مرفوضان، وفي ذلك تقول الراوية: “لم أتعلّم أنّ تحقيقَ أماني الرجال وعزفَ لحن الاعتراض مقطوعتان موسيقيّتان متنافرتان”( 13). ففي العرف الذكوري تُعتبر الأنثى ملعونةً قبل وبعد ولادتها، تُزوَّج رغمًا عنها ودون الأخذ برأيها، وتُحرم من أبنائها عند طلاقها لذا تخضع للرجل لتبقى حاضنة لهم، أمّا ما يثير الدهشة والعجب فهو أن يلتقي القارئ شخصيّاتٍ نسائيّة عديدة تضرب بسيف الرجل وتدافع عنه أمثال خديجة وهناء اللتين ترفعان سوط الرجل في وجه المرأة، إذ ترى خديجة ضرورة تزويج الفتاة صغيرةً دون حاجة لذهابها إلى المدرسة(32)، وترى هناء أنْ لا همّ للمرأة سوى خدمةِ زوجها وأبنائها وراحتهم، بيتها مملكتها، وبعدين طاعة الزوج من طاعة الربّ(51). هذه الآراء تجعل كثيرًا من النساء مكمّمات الأفواه يلتزمن الصّمت في حضرة الرجال، وبذلك تظهر المرأة أكثرَ قسوةً من الرجل على المرأة. لكن مقابل هذه الآراء الداعمة والمدافعة عن الرجل نجد نماذج نسائيّة أخرى تدافع عن المرأة، وتنكر انتماءها لنساء من طراز خديجة وهناء كالراوية التي تتساءل: “تُرى هل هو الماضي يعود بزمن وأد البنات؟ ما الذي يجمعني مع تلك النساء؟ كينونتنا الأنثويّة! الانتماء النوعيّ الاجتماعيّ! ما هي حقيقة هذا الانتماء؟ أيكون رفضي لذلك الانتسابِ ما يشعرني بالغثيان أو يجعلني أُشيحُ بفكري هاربةً كلّما دار حوار فيه!”(34). تلتقي أفكار المرأة الصامتة مع أفكار الراوية في دفاعها عن المرأة، فحين تعلن خديجة أنّ مصير المرأة التي ترفض جماع زوجها هو النار، تردّ الصامتة متسائلة: وهل يدخل هو النار إذا أرادت هي ممارسة الجنس وأدار لها ظهرَه؟(87). تتطابق آراء خديجة وهناء مع آراء الرجل ومواقفه من المرأة السويديّة أيضًا إذ ترى خديجة أن المرأة السويديّة تخرج من بيتها للصرمحة وقلّة الحياء، فتردّ عليها المرأة الصامتة: “شو بدنا بهالحكي والله فيهم نسوان الواحدة بمية زلمة، بتؤمر وبتنهي ولا الملوك. إحنا بس مش طالع بيدنا نعمل زيهن، عشان هيك بنكابر”(51).
تتّضح صحّة هذا الرأي من خلال علاقة الراوية بصديقتها السويديّة يوحنا التي ترى أنّ فعل الخير سعادةٌ لفاعله ومتلقّيه، وقد مضى على علاقة الراوية بها أكثرُ من ربع قرن، لم تجد من طرفها إلّا الخير؛ فهي تدعم الراوية عند افتتاح الكافيتيريا، تشتري منها بعض الحاجيّات التي لا تحتاجها، تستقبل الراوية وابنتيها في بيتها أحسن استقبال، تفتح لهنّ باب قلبها كما تفتح باب بيتها، فيشعرنَ بسعادة تغمر قلوبَهنّ في تلك الزيارة، وقد تكفّلت بنات يوحنّا بابنتَيْ الراوية فلم ترَ الراوية صغيرتيها إلّا عند مغادرة البيت، كما تدعو يوحنا أعضاء جمعيّة الخيّاطات للاجتماع في بيتها، وتقدّم المشورة والنصيحة لصديقتها كمعالجة طبيعيّة فيزيائيّة دون مقابل، لكنّ الراوية تستدرك نفسها لتعلن: “طبعا لم تكن كلّ نساء ورجال بلدي الجديد بإنسانيّة يوحنا، فهناك من يرى أنّ المهاجرين من أمثالي جنسٌ بشريّ أقلُّ درجةً، برابرةٌ يعيشون في خيام، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء رغم بترول بلادهم وعراقة تاريخهم، ظلُّوا يعيشون على نور سراج لا يُشْعَلُ إلّا في خلاء صحراويّ لا علم فيه ولا حضارة”(81).
حين تتجرأ امرأة على خرق الأعراف الذكوريّة رغبةً في التحرّر من قيود الرجل، وسعيًا وراء تحقيق ذاتها لا يكون مصيرها إلّا القتلَ مثلما حصل مع نادرة التي أحبّت شابًّا، ومارست معه الجنس، ثمّ تنكّر لها، فزوّجت لابن عمّها بعد رتق غشاء بكارتها، ثمّ طلّقت منه لأنّها رفضت زواجه من أخرى، وتحوّلت إلى خادمة في بيت إخوتها، تابعت دراستَها حتّى تخرّجت من الجامعة وصارت محاضرة، لكنّها لوحقت من قبل أبناء عمّها الذين أصرّوا على تزويجها، فتركت بلدها آملةً بالحريّة، ومضت تفكّ قيودَها إلّا أنّها وقعت في الشرَكِ الذي أودى بحياتها، ومثل ذلك حدث مع فضيلة التي أحبّت شابًّا من صفّها، رفضه أهلُها، فهربت وتزوّجت به، لكنّ أهلها لم يتركوها حتّى نالوا منها بالخديعة، أمّا أخوها الذي اغتصب طفلة صغيرة فعوقب بالسجن لبعض الوقت، ولم تُعاقبْه القبيلة؛ لأنّه رجل لا يعيبه شيء، وهكذا لقيت ستّ إخوتها نفسَ المصير عندما عبّرت عن رغبتها في الخروج من بيتها/ سجنها الذي عزلها فيه إخوتها حفاظًا عليها، ولمّا أصرّوا على رفضهم أخبرتهم أنّها حامل، فانهالوا عليها ضربًا حتّى كادت تفارق الحياة، ولمّا سألوها عن شريكها أخبرتهم أنّها حملت من ثقب الباب، لكنّ ست إخوتها لم تخرج من بيتها ولم تكن حاملًا قطّ.
تُوجّه الرواية نقدًا لاذعًا للنساء العربيّات وتقرّعُهنّ على مواقفهنّ الانهزاميّة دون العمل على التحرّر من سطوة الرجل، تقول الراوية: “ما زلن يتّهمن ذاتَهنّ إذا ما اغتُصِبْن، يُسَلّمْن بشرعٍ لم يشرِّعْه الله، يعشقن الخنوعَ وهو الوجهُ الآخرُ للقوامة الذكوريّة، لقد استكثرن على أنفسِهنّ التمتّعَ بإنسانيّتِهنّ، وإلّا ما الذي يجعل النساءَ لا يتحرّرن من أزواجٍ أذاقوهنّ المُرّ” (الرواية: 99). تؤكّد الراوية استمرار خضوع المرأة للرجل في قولها: “أيقنت أنّ الكثير من النساء ما زلن كلابًا مربوطةً، مهما ابتعدَتْ يشدُّها سيّدُها فتطيع، تسير من سجن إلى سجن أكبرَ، من هناك مهما جالت سائرةً إلى أبعدِ منافي العالم، تظلّ تسير خلف منار عتيق إلى ما لا نهاية” (178). هكذا تبقى النساء خاملات، بعيدات كلّ البعد عن أيّ فعل لمقاومة السيطرة الذكوريّة وتقويضها، بذلك تصوّر الرواية ثورةً نسائيّةً بلا ثائرات يسعين لتغيير وضعهنّ في المجتمع.
لكن ما يبشّر ببارقة أمل لتغيير أوضاع النساء في المجتمع العربيّ هي مواقفُ الراوية وما تحمل من آراء تؤمن بها ولا تتخلّى عنها مهما واجهت، إذ تعلن في نهاية الرواية أنّها تُدعى فرح وقد استعادت اسمَها والتحَمَ جسدُها مع روح حوريّتها، وتجاوزت جدارَ الخوف، وتضيف معترفةً بثورتها وامتلاكِها بوصلةَ الحرّيّة وتحرّرِها من الخوف بكلّ أنواعه، تصالحِها مع الحياة، ابتداعِها للكافتيريا وجمعيّات النساء لكسر حلقاتِ الطوق، الطريقِ الوحيدةِ للخلاص ممّا يخنق النساء هي الانطلاق، وما عاد نُصبَ عينها إلّا شعارٌ واحد؛ على المرأة أن تقلبَ العالم وتعيدَ بناءه(198).
تحضر في الرواية خطاباتٌ عديدة أخرى لا تقلّ أهمّيّة عمّا ذكرنا، منها الصِّدامُ الحضاريُّ بين الشرق والغرب وخطرُه على العربيّ بصورة خاصّة، مثلما حصل مع فضيلة بعد أن أصيبت بحمّى الحضارة فسقطت وأوقعها الطيران في المحظور حتّى لاقت حتفها، معاناةُ المرأة الغربيّة من السلطة الذكوريّة كما حدث لوالدة لينا التي تدعوها الراوية رفيقة المقبرة، إذ نالت الكثير من صنوف عذاب زوجها واغتصابِه لها حتّى لم تطق الصبر على تلك الحياة، فوضعت حدًّا لحياتها منتحرةً شنقًا، استعراضٌ غيرُ مباشر لتاريخ الشعب الفلسطينيّ وتشرّدِه في البلاد العربيّة حتّى وصوله إلى بلاد الغرب من خلال ربط ميلاد أفراد أسرة الراوية بالأحداث التاريخيّة؛ إذ وُلدتِ الأمُّ يومَ وعد بلفور، ووُلد أخوها الأكبر يوم خروج الاستعمار البريطانيّ من فلسطين، وكانت ولادةُ أخيها الثاني يوم ابتلع “الشعب المختار” كلّ البلاد وأضحى العرب لاجئين، أمّا الراوية فولدت يوم أمّم عبد الناصر القناة، وهكذا.
4. ملاحظات على فنّيّة الرواية
من الملاحظات الفنّيّة التي تثير انتباه القارئ اعتمادُ الكاتبة أسلوبَ اللائمة، أو الحوريّة كما أسمتها، وهو أسلوب معروف منذ الجاهليّة في الأدب العربي باسم التجريد، إذ يسعى الكاتب أو الشاعر إلى تجريد شخصيّة من ذاته يخاطبها، أو يتّخذها بوقًا لنشر أفكاره خوفًا من المساءلة، أو لأسباب أخرى، وهذا ما تفعله الراوية التي تؤدّي دورين في الرواية، فهي الراوية التي تقوم بمهمّة السرد، وهي الشخصيّة المهيمنة على فضاء الرواية، فلا تتطوّرُ أحداثُ الرواية إلّا بحركتها، أو مع فتح صناديق ذاكرتها واسترجاعاتها العديدة، سواءٌ في الكافيتيريا أو المقبرة وغيرهما، تقوم الراوية بتجريد شخصيّةٍ من ذاتها تتّفق معها على أن تسمّيَها حوريّة، وتسند لها دورًا بارزًا في الرواية، إذ تحضر حوريّتها في كلّ مكان معها، وتُنبّهها إلى خطأ ارتكبته، أو تقوِّم سلوكها، وأحيانًا تحثّها على البوح بمكنونات صدرها وبنات أفكارها، وفي كثير من المواضع تأتي الحوريّة لتصوّرَ وضعَ النساء، تنتقدَه، أو تشجّعَ الراوية على موقف اتّخذتْه كقولها في نهاية الرواية: “كثيراتٌ مَن ظللْنَ في لجوء دائم لا جذور لهنّ […] الآن وقد انقلبتِ المعادلة، انكشفت الغُمّة، تجاوَزَتْ أحلامُكِ أَسطحَ البنايات وصنعَ الخيالات، طرقتِ باب الواقع، رفضتِ أن يكون جسدُكِ سلّةَ نفاياتٍ يرمي فيها الرجل قذارتَه”(195). يبدو أنّ الكاتبة تخشى من تبعة أفكارها فتتحايل على مَنْ يلاحقُها باستخدام هذا الأسلوب وقد صرّحت بذلك في مستهلّ الرواية، إذ تقول: “أدري أنّ ضياعِيَ القادمَ قد يضمّني إلى قائمةِ (الكفرة)، وقد يُترَكُ كتابي جانبًا من قِبَلِ البعض خوفًا من لعنةٍ يُصابون بها، ولكنّ الحقيقةَ ضروريّةٌ على مرارتها. تلك الحقيقةُ وذاك الضياعُ ألحَّا عليَّ بضرورة خطِّهما على الورق”(7).
ممّا يثير الانتباه أيضًا فنّيّةُ تشكيل الكاتبة لبعض شخصيّات الرواية، كشخصيّة خالد وخديجة، إذ تعمد إلى خلق انسجام وتآلفٍ بين مظهر الشخصيّة الخارجيّ وبين أفكارها ليدلّ مظهرُها على جوهرها، تقول الراوية واصفةً خالدًا: “رجلٌ ضئيلُ الحجم، قصيرُ القامة، يقف مقوِّسَ الظهر إلى الخلف، يرتدي بنطالَ جينز متّسخًا، رغم تلاشي المؤخّرةِ ورُفْعِ الساقين، بدا بنطالُه يتذمّر ضيقًا بكرشِ صاحبه. في أسفل الساقين حذاءٌ يتدلّى لسانُه إلى الأمام مائلًا جهةَ اليمين واليسار دون رباطٍ يشدّه. قذارتُه صعّبت على الرائي تحديدَ لونِه، وكأنّ صاحبَه التقط فردتَيْه من حاوية قُمامة على الطريق”(48)، إنّ المتأمّل في سلوكيّات خالد وأفكارِه التي تقدّمَ ذكرُها، يدركُ مدى التوافقِ بين صفاته الظاهرة والباطنة، فهو لم يترك أيّ سلوك مشين إلّا اقترفه ممّا يثير امتعاضَ القارئ بعد أن دمّر حياتَه وحياةَ أسرته، خان زوجتَه وتنكّر لها، واختتم أفعالَه بجريمةِ قتلِ ابنتيه دونما سبب اقترفتاه.
تنهج الكاتبة نفسَ النهج في تصويرها لشخصيّة خديجة التي تؤكّد من خلال أقوالها تَبنّيها للمنظومة الذكورية والدفاع عنها حتّى صارت سوطَ الرجل النازلَ على كاهل النساء، وفي ذلك تقول الراوية: “تذكّرتُ رائحة عرقِها، فتساءلْتُ عن الفرق بينه وبين رائحة آرائها وأفعالِها، دون أن أنسى كرمَها،[..] في البداية ظننت أنّه كرمٌ خالص لكنّني ومع مُضِيِّ الوقت واستمرارِ ذلك الكرم، شككْتُ في حاتميّته”(88)، كان هدفُها من ذلك الكرم جذبَ عيون رجل إليها، ورغبتَها في إيجاد مكانة لها بين النساء الأخريات، وتنفيرَ الزبائن عن شراء طعام الكافيتيريا.
تعكس الرواية تنوّعًا واضحًا في مستويات اللّغة؛ إذ يأتي السرد بلغة عربيّة فصيحة، تتحوّل إلى لغة محكيّة باللّهجة الفلسطينيّة غالبًا وذلك عند استعراض حلقات الحوار التي كانت تدور بين شخصيّات الرواية؛ لتُوائمَ الكاتبةُ بين اللّغة ومستوى ثقافة المتحاورين، ولتكون أقربَ إلى الموضوعيّة والواقعيّة، لكنْ ما يُؤخذُ على لغة الرواية كثرةُ اللّحن وانتشارُ الأخطاء اللّغويّة على اختلافها؛ نَحْويّةً، إملائيّةً، تجاهلُ رسم الضوابط وعدمُ التمييز بين همزة القطع وهمزة الوصل ونحو ذلك، ممّا يحتّمُ على الكاتبة أن تعمل على تنقيح لغتها، لتأتي الرواية متكاملة لا يشوبها شائبة.
(ألقيت المداخلة في أمسية إشهار الرواية في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 27.06.2019)