سلسلة من أيامي 9: مازال الرجل يصدق في التذوق حتّى يسمّى صديقا
تاريخ النشر: 10/07/19 | 7:00الصدق هبة من الله تعالى يهبه من يشاء من عباده وهو من نعم الله على عبده يبدأ من الصغر ويستمر عبر المراهقة والشباب ويزيد ثباتا ورسوخا مع الأيام وصاحب هذه الأسطر يستحضر أيام الصدق التي أكرمه ربّه بها منذ الصغر ومنها:
1. عشت في عائلة كثيرة العدد وفي بيت ضيّق المساحة خاصّة بعد أن تزوّج الكبار وأنجبوا الصغار. كانت كلّ واحدة من “الك۫نٙايٙن۫” وعلى مدار سنوات تأخذ ملعقة من الأكل الذين يعملون على تحضيره ويقدّمونه لي لأتذوّقه وأنا طفل صغير ويطلبون رأيي فأجيب بسذاجة الطفل وبراءته: “مٙسُوس۫” أو “مٙالح۫” ويأخذون بذوق الطفل السّاذج ويتّخذون مايجب اتّخاذه لكي يكون الأكل على أحسن وجه من حيث الذوق الطيب المناسب. لم أسأل نفسي يوما عن سبب طلب “الك۫نٙايٙن۫” المستمر لأقوم بمهمة تذوق الطعام فقد كنت طفلا ساذجا لم يصل لمستوى أن يتساءل عن شأن الطعام ناهيك عن شأن تذوق الطعام. وأطلب من القارىء أن يتابع إلى آخر السطور ليقف على الأسباب التي وقف عليها الطفل بعد 43 سنة وهو الآن أب لأربعة.
2. عملت بأسبوعية “الصح –آفة” سنة 1991 أي منذ 28 سنة وكنت يومها شابا يافعا في 25 سنة من عمري وحديث التخرّج من الجامعة باعتباري تخرجت في جوان 1990 وأتذكّر أنّي تعرّضت لضغوط غير مباشرة تتعلّق بنوعية ماأكتب باعتباري كنت أكتب حينها عن المعتقلين في رڤان وعين امڤل و واد الناموس وأعترف أنّ هزّة اعترتني فذهبت إلى مقر “الصح –آفة” بوهران والتقيت بحبيب راشدين مدير التحرير وصاحب “الكاريكاتير” وخديجة والهوارية و آخرون والتقيت أيضا بعمار يزلي صاحب عمود “السوط الذهبي” ورئيس تحرير الأسبوعية وعرضت عليه مخاوفي وأنا يومها شاب طري فأجاب: لاتخشى شيئا فالجميع يعلم أنّك صادق وأنت بالنسبة إليهم مصدر معلومة صادقة ثمّ قال: والله، لو تأكدوا مرّة واحدة أنّك تكذب لكانت عاقبتك وخيمة. ونصحني وأنا يومها التّلميذ المبتدئ أن أستمرّ في عملي وأثبت على الصدق وأخذت بنصيحته الغالية وواصلت عملي إلى أن تمّ توقيف “الصح – آفة”.
3. منذ 15 سنة فيما أتذكر أخبرت أحد الجيران أنّ ابنه كاد أن يحدث كوارث دموية بسبب سوء استعمال السيارة التي وضعها أبوه تحت تصرّفه وبعد أسبوع وبالصدفة يحضر زوجته وفي حضورها يوجّه لي سؤاله: معمر، ألم تقل لي أنّ ابني كاد أن يقتل تلاميذ المدرسة بالسيارة ! ثمّ يتوجّه إلى زوجته وفي حضور: هاهو معمر أمامك واسأليه إذا شئت !. التزمت حينها الصّمت ولم أجب لأنّي لم أتوقّع هذا المشهد وانصرفت لشأني بهدوء. بعد أيام التقيت بأحد الزملاء رزق الحكمة وبعد النظر فأعدت على مسمعه القصّة من أوّلها وعلامات الحيرة بادية على لساني فأجابني بهدوء الحكيم: ألا تعلم لماذا تصرّف بهذا التصرف وأحضر زوجته في حضورك؟ لأنّ الزوجة لاتثق في زوجها وهو لكي يثبت صدقه دعاها لتسمع منك بنفسها والزوجة لاتصدّق زوجها إلاّ إذا استمعت إليك لأنّك لاتكذب.
4. عملت في جامعة الشلف من سنة 1992 إلى جوان 2016 تاريخ الاستفادة من التقاعد وأعترف أنّه لايوجد في الجامعة من طالب وأستاذ وموظف ومسؤول إلاّ وقال عنّي الصّادق وكلّهم يقبلون شهادتي في الرضا والخصومة ومع الصاحب والمنافس والمخالف وكلّهم يشهد بصدقي في القول والعمل حتّى أنّ البعض يعرفني من خلال تفضيلي للصمت أحيانا وفي ظروف خاصّة على أنّه علامة لتفضيل الصدق على قول الكذب. وما يجب ذكره في هذا المقام أنّ فترة 25 سنة من العمل في الجامعة من حيث العمل والتدريس لم تخلو من أخطاء اعترفنا بها في حينها ونظلّ نعترف بها لكن الصدق بقي ثابتا راسخا يزيّن صاحبه ويعرف به طوال الوقت.
5. أكتب منذ سنة 1990 تاريخ تخرّجي من الجامعة وممّا أفتخر به أنّ الصدق يزيّن حبري وأكتب بعد أن أتأكد من المعلومة والمصدر وكم من مرّة قمت عبر صفحتي ومقالاتي أصحّح الأخطاء التي ينبّهني إليها الزملاء والقرّاء والنقاد ومازلت أعترف بأيّ خطإ وبشكل علاني إذا تمّت الإشارة إليه ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن أنقل معلومة كاذبة. ومايجب الإشارة إليه أنّه قد يقع صاحب الأسطر في سوء تقدير أو خطإ مطبعي أو سوء نقل معلومة من مصدرها لكنّ يظلّ الصدق محورا ثابتا ينطلق منه المرء ويعود إليه دوما ولا يمكنه بحال أن يتعمّد الكذب.
6. خلاصة، الصدق بناء يبنى من الصغر ومن صدق في صغره ظلّ صادقا في كبره وأمسى الصدق لديه فطرة سليمة يعتمد عليها في أقواله وأفعاله ومع زملائه وخصومه ومع أترابه ومن دونهم ومن هم أكبر منه ومع زوجه والولد والقريب والبعيد ومع الجميع ودون استثناء.
معمر حبار