رواية “وزر النوايا”: بين الممكن والمستحيل في التخيّل الأدبي
تاريخ النشر: 08/07/19 | 15:37د. كوثر جابر قسّوم
أود التنويه بداية إلى أن تأملاتي في هذه الرواية ليست نظرية ولا أكاديميّة بحتة؛ وإنما كُتبت من موقع القارئ في المقام الأول، وهي لا تخلو من انطباعات وانفعالات ذاتية. وأعترف أيضًا أن الرواية قد أدهشتني وحرّضتني وألهمتني!
الاستهلال:
أن تقرأ وزر النوايا للكاتبة نسرين طبري، يعني أن تقع على كتاب غير متوقّع، يقودك إلى دهشة غير مسبوقة، إلى اضطراب وريبة وتعب فكري ونفسي، إلى عالم فاتن من الأوزار والصور والنبوءات. بحثت طويلًا عن الخيط الذي شدّني إلى أسرار هذا العمل، وكنت قد قرأتها أكثر من مرة، حتى عدت واهتديت في النهاية إلى الأسطر الأولى.
الاستهلال، أو البداية… الأسطر الأولى، برأيي، هي القوة التي حدّدت مسار هذا المنجز الأدبي كلِّه.
يقول الناقد العراقي الفذّ ياسين النصير في دراسته الهامّة “الاستهلال: فن البدايات في النص الأدبي” (1993):
” الاستهلال من أصعب الصفحات في أي عمل فني يراد له أن يكون جيدًا، ويتطلب بناؤه عناية خاصة. […] الاستهلال هو الحاضنة لبنى وأفكار الفصول اللاحقة في الرواية. […] والمبدع لا يختار إلا الكلام الذي يُشحَن بمناخ النص كلّه، ولذلك فكل كلمة من كلمات الاستهلال خميرة لما تولّده من صور وكلمات وحالات جديدة في النص. ولن يكون المبدع خلّاقًا في الاستهلال إلا إذا كان ذا قدرة فائقة على تلخيص العمل كلّه في جمل أشبه ما تكون بالمعادلة الكيماوية”.
وبرأيي أن الكاتبة استطاعت ببراعة أن تشحن مناخ الرواية كله بتداعيات البداية أو الاستهلال:
“أفرغ في جوفه عددًا من الأقداح. تناول ريشته العاقر من فعل هجر الأصباغ لها، وبعينين مغمضتين، أخذ يرسم في الفراغ خطوطًا لا يراها سواه.
تغلغلت في سمعه ذبذبة نداءات تناشده أن يخلّد أثرها قبل أن يحين رحيلها. خال أن الأقداح نالت منه. نفض رأسه كقطّ ينتفض من بلَل، وعاد ليكمل لوحة الفراغ خاصته، غير ان الذبذبات عادت لتحاصره من جديد. ارتعدت فرائصه، انتابته ريبة من مغبّة الاستسلام للهلوسة، فتوسّد التراب. تكوّر محتضنًا رجليه بذراعيه كمن يتحقّق من ثباته، إلا أن الصوت لاومه واتخذ حضورًا واضحًا في مسامعه.
– ليس باستطاعة أحد سواك أن يحفظ أثري بعد ذهابي، قالت.
– عفوًا، يبدو أنّه شُبّه لك.
– بل قصدتُكَ.
– ضللتِ الطريق.
– أنتَ الطريق.
– لا أعرفك وأنت أيضًا تجهلين من أنا. قال وتمتم في سرّه: من أين لك أن تعلمي إذا كنت أنا نفسي لا أعرف الطريق!
– صادق، نادته باسمه بصوت واثق قطع شكّه باليقين.
ازداد تكوّرًا، أغلق أذنيه بكلتا يديه. “مرّ زمن طويل لم يأت فيه اسمي على لسان أحد. دعةني بالصبيّ، الولد، الغريب، بنيّ.. لكن أحدًا لم يدعني باسمي، سوى جدّتي وجميلة….” (ص11-12).
لقد وضعني بريق السطور الأولى في ورطة قراءة هذه الرواية: شخصية محاصرة بمواقف كابوسية وهلوسة، سكر ومتاهات وهذيان، وذكريات قاسية من عنف وقتل واغتصاب، شخصيّة تقتحم عالم القارئ وتأخذه معها إلى رواية فانتازية مدهشة تتكشف أحداثها تدريجيا وبوتيرة ثقيلة ومركّبة أحيانًا، كان عليّ أن أجهد خلف هذه الأحداث للملمة خيوطها المتشابكة، وأن أجمع أحداثها بنفسي قطعة قطعة وأشكّل هيكل الرواية الهلاميّ.
صادق، فنان يعيش الماضي بكوابيسه وذكرياته المؤلمة بعد أن فقد كل النساء اللواتي أحبهنّ: جميلة، حبه الأول التي حاول أبوه الاعتداء عليها فتهرب، ليعثروا بعد ذلك عليها جثةً متفحمة في بيتها؛ أمه التي قتلها أبوه؛ مليكة؛ مراده في هذه الحياة، قضت ليلتها في فراشه وتسللت مع بزوغ الفجر تاركة له حذاء من الجلد البني صنعته خصيصا عله يكمل طريقه بعد رحيلها (ص32).
في القسم الأول من الرواية، تعيش الشخصية المركزية، صادق، حالة من العزلة. والعزلة الإنسانيّة ترتبط بالضرورة بزمان ومكان يبعثان على الاغتراب؛ حيث ينكفئ الإنسان على ذاته وينفصل عن الآخرين، ربّما لأنه إنسان “صادق” كما سمّته الكاتبة، وسط عالم من اختلالات مفزعة. ولذلك تصبح عزلته شكلًا من أشكال التعويض عن مأساة الذات. كذلك تعتري صادق حالة من العجز؛ وهذا العجز يتّخذ طابعًا معقّدًا؛ فهو غير قادر على النهوض من آلام ماضيه وتغيير واقعه باسترداد حبيبته مليكة. ولذلك يغدو معنى الاغتراب وفقدان الهويّة الذاتيّة أعظم. ويبقى صدى هذا العجز مرافقًا للقارئ الذي يروم منه تغييرًا ما حتى النصف الثاني من الرواية؛ حيث يقوم صادق من عجزه ، ويخرج في رحلة للبحث عن حبيبته مليكة بهدف التغيير والتعويض عن وجعه الروحي.
هكذا تصبح البداية وأبعادها مفاتيح دالّة على أحداث الرواية لاحقًا.
الفانتازيا
من التقنيّات المميِّزة للرواية إغراقها في الجو الأسطوريّ العجائبيّ؛ فالرواية لا تحيل إلى زمان أو مكان محددين، إنما تخلق الكاتبة عالمًا موازيًا للعالم الذي نعيش فيه! تدعونا نسرين وبجدارة الكتّاب المحدثين، أن نعي أن الواقع ليس فقط ذلك الواقع الخارجي الذي نعيش أحداثه وحقائقه بعقولنا؛ بل هو أيضًا ذلك العالم الغامض الذي يخصّ أرواحنا وعذاباتنا. الكاتب الواقعي يهتم أيضًا بوصف أحاسيس الإنسان، وخلجاته الداخلية وعواطفه وأفكاره، والقارئ يهتم، بل هو شغوف بقراءة ما يتعلق بروحه ودواخله.
أشير كذلك إلى أنّ الروايات التي تجعل موضوعها الأسطورة غالبًا ما تكون ذات طابع انتقاديّ يحيل على الزمن الوجودي المعيش.
تلجأ الكاتبة إلى تدمير المرجعيّة الجغرافيّة للمكان، مازجًة بين عالم الواقع وعالم الخيال. فصادق، وسائر شخصيات الرواية، بين تواجدها في القرية أو المدينة، في جهة الشمال أو الجنوب أو الشرق لا نملك أن نسقط عليها أيًا من ملامح المكان التي اعتدنا عليها، المحلية منها أو الفلسطينية أو حتى العربية.
وعندما يكون المكان مطلقًا فإنّه يكون قادرًا على تمثيل عدد أكبر من الأمكنة في بعده الأيديولوجيّ، كما أنّه يجيب على الأبعاد النفسيّة للإنسان أينما كان، من حيث فهم سؤال الهويّة واكتشاف علائق الذات مع الوجود.
أشير أيضًا إلى أنّ عدم التعيين الجغرافيّ الحقيقيّ للمكان يتيح للكاتب وللقارئ على حدّ سواء خوض كلّ مجالات التخيّل الممكنة والمستحيلة في الرواية، وبالتالي ينجح الكاتب في أن يكون المكان في روايته محورًا لفضاءات عامّة، وقابلاً للتواجد في أي مكان وزمان.
البداءة
ضمن الأجواء الفانتازية، تعرض الكاتبة مشاهد بعيدة، ضاربة في القدم، وكأنها ترحل بنا إلى مرحلة قبلية، إلى البدايات حيث الفطرة والبكارة. في الجزء الثاني والثالث، تكشف الرواية عن مجتمع قبليّ رعويّ، حيث تقوم الحياة المعيشيّة فيه على أساس بسيط قوامه صيد السمك وتربية الأغنام.
“كانت الجدة تتقدم القطيع قابضة بيدها على عصا يابسة، اقتطعتها من شجرة سنديان لها من السنين ما يفوق سنيها. أما هي زهرة ابنة مليكة، فكانت تسير في آخر القطيع خلف الأغنام صغيرة السن، قصيرة الخطى، ناعمة الصوف، حليبية الرائحة” (ص94)
كذلك تميل الكاتبة إلى اقتناص ما هو مشبع بالبدائيّة بالنسبة للشخصيّات، لدرجة أن القارئ لا يستطيع أن يعتبر هذه الشخصيات عاديّة؛ وإنّما يمكن اعتبارها بمثابة شخصيّات ملحميّة تجمع ما بين الفعل البشريّ والغيبيّ العجائبيّ. مَثَل ذلك شخصّية مليكة فيروزية العينين:
“لقبها الصيادون بطائر الحظ لكثرة ما كان يتدفق عليهم من خير إذا ما استهلوا صباحاتهم بغنائها العذب. ربّما خجلًا، أو لعلّها عفّة ووفاءً لمن تحبّ، كانت تحجب نفسها عن العيون وتتحاشى الاختلاط بالبشر إلّا نادرًا. شاع في البلدة أنها كانت تهوى مجالسة الطحالب وتموّجات الماء التي تخلّفها وراءها قوارب الصيد. ص62. ولكن مليكة ابتلع البحر غناءها ورائحتها، وقذفها كشجرة جفت أغصانها وعثروا عليها قرب الشاطئ (ص61-61).
أو مثل العرّافة التي قالت لجدته يومًا “لا تهدري نقودك عبثُا. لن يتغير لحفيدك حال. سوف يحظى بالحياة على هذه الأرض بعد أن يفارقها فقط” (ص15).
ولعلّ هذه الحياة البدائيّة تشكّل حنينًا لدى الكاتبة في إعادة العلاقة الطبيعيّة الصحيحة بين الإنسان والمكان، وإلى معايشة الأصول البدائيّة الخالصة للحياة الإنسانيّة في هذا الوجود.
اللغة الشعرية
لا يمكن كذلك أن نتجاوز لغة الرواية وغناها الشعريّ، بل هي أحيانًا لغة غنائيّة إنشاديّة تتّخذ مادّتها من الحلم والخيال؛ كلغة رسالة الجدة لزوجها (ص29)، أو الكلام الذي حفظته زهرة من جدتها عن القمر(ص105). واللغة الشعريّة الحلميّة إحدى خصائص الأسطورة التي ترقى بالمعنى إلى أبعاد مجازيّة رمزيّة. وكما يقال: لا توجد رواية عظيمة إن لم تكن شعرًا.
جاء في رسالة الجدة لزوجها:
“اقف في انتظار خطاك خلف الأبواب، رقيقة الوطء حميميّة، تغالب الحبّ عصابًا، فيرشح من ثناياها نبيذّا. يدب الشجن في الأعماق، فتطير فراشًا هائمًا في بساتين متضاربة الألوان زهيّة؟ […] أدل بدلوك يا القاطن عمق البحر حزينًا وثنيًّا، حميلًا جبليًّا، أمينًا وعتيًّا” (ص29).
غموض الرواية
في نهاية المطاف، نستطيع القول إن الرواية تتشكل في موضوع نفسي بالدرجة الأولى، ثم إن هذا الموضوع النفسي قد مُنح طاقة شعرية عالية لغةً. وهذه الطريقة تبدو ثقيلة على القارئ، لانعدام الفاصل بين الواقع والخيال. كما أن الأحداث تقدم بطريقة غير متسلسلة وغير مرتبة بل غير منطقية أحيانًا. ولعل ما يشفع للكاتبة هذا التعقيد، أن رواية اليوم تقوم على مقوّمات أخرى غير التي اعتدنا عليها في رواية القرن العشرين. رواية اليوم هي رواية إنسان في أزمة، هي رواية تعمِل الشك في كل شيء، رواية اليوم تعتزم سبر أغوار الإنسان بشكل أساسي، ولكي تحقق هذا الهدف، ينبغي على الكاتب أن يتناول كل الأدوات التي تمكّنه من ذلك دون أن ينشغل بتقنيّات تقليديّة؛ كالترابط والوحدة والوضوح.
أشار الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو في مقاله “الكاتب وكوابيسه” أن هنالك أسبابًا مختلفة تجعل الرواية في عصرنا أكثر غموضًا، وتقدّم صعوبات أكثر في القراء والفهم عن الرواية في عصور سابقة.
ومن هذه الأسباب التي نجدها في رواية “وزر النوايا”:
– لا يوجد زمن فلكي يكون هو الزمن نفسه بالنسبة للجميع، بل أزمنة داخليّة مختلفة.
– لا تمنح ذلك المنطق الذي كانت تمنحه الرواية القديمة التي كتبت تحت تأثير الروح العقلانية.
– هجوم اللاشعور واللاوعي، والعوالم الغامضة بامتياز.
(إرنستو ساباتو، موقع تكوين)
ونسرين طبري كانت على قدر كبير من الذكاء في تطويع هذه الأسباب وجعلها أدوات مميزة لروايتها، ولذلك جاءت روايتها ذات عمق فلسفيّ.
والحقيقة أن الرواية زاخرة بمحاور كثيرة يجدر بالنقاد والمهتمّين أن يتطرّقوا لها؛ كنموذج الرجل العاجز مقابل نموذج المرأة الفاعلة في الرواية؛ أو أشكال التناص التي تستدعيها الرواية في أذهاننا؛ فلا أستطيع إثبات حالات التناص في هذه العجالة؛ لكن أستطيع القول إن الاستهلال في الرواية ذكّرني بمونودراما “بيت الجنون” (1965) للكاتب توفيق فيّاض، حيث يعيش سامي حالة هذيان نتيجة فقدانه لحبيبته؛ ومشهد العشق في الرواية (ص57-58) الذي ذكّرني برائعة “كاماسوترا” لمحمود درويش، وكل مشاهد البحر التي ذكرتني بكتابات روائيّ البحر بامتياز حنا مينة، والأجواء العجائبيّة للمكان والشخصيّات التي ذكّرتني بروايات عزّت الغزّاوي.
وبعد،
كانت العرّافة في الرواية قد تنبأت بأن صادق سوف يحظى بالحياة على هذه الأرض بعد أن يفارقها فقط” (ص15). وهذه نبوءة كافية تلزم كاتبتنا نسرين طبري بكتابة الجزء الثاني من “وزر النوايا”. والوزر هو الحمل الثقيل المرهق والشاق، فأية أوزار ستحمّلها الكاتبة لذلك الشقي العاشق صادق في الجزء الثاني؟ بل أية أوزار ستحمّلنا نحن القراء من أسرارها الصعبة وإبداعها الغامض ولغتها المتوهّجة؟ يا مرحبًا بأوزارها إذا كانت بهذا المستوى.
(ألقيت المداخلة في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 04.07.2019)