هناك في جورة الذهب(6)
تاريخ النشر: 12/07/19 | 12:47د.حاتم عيد خوري
كان خضِر على قناعةٍ مطلقة وتصميم لا رجعة عنه، بانه لا يفرّط ولن يفرّط باملاكه في “جورة الذهب”، ولن يقبل تعويضا عنها. لكنه كان يفهم في الوقت ذاته، بانّ ثمن موقفه هذا قد يكون إبعادا عن الوطن، ممّا جعله يتساءل بينه وبين نفسه: “أمستعدٌ أنا لدفع مثل هذا الثمن الباهظ جدا؟ وهل يحقّ لي اصلا أن اتلاعب بمصير والدتي وزوجتى واولادي، واعادتهم الى المخيم؟”،. كان عليه إذن أن يقرر قبل وصوله الى مكتب الحاكم العسكري: “هل يرفض التعويضات فيُبعَد عن الوطن، أم يقبل بها، فيضمن امرين في آن واحد: بقاءً في الوطن وانفراجا ماديا؟”. فماذا قرّر خضر؟ وماذا ترتب على قراره؟
لقد قرر ان يرفض التعويضات قائلا لنفسه: ” وليكن ما يكون”، كما توقع ردّا عنيفا من الحاكم العسكري، ينطوي على إجراءات فعلية فورية كالإبعاد او التجفيف ماديا بواسطة إلغاء تصريح تنقله اي منعه من السفر الى مكان عمله مع المقاول، وبالتالي حرمانه من دخل يعيل به اسرته.. وهكذا ما ان جلس خضر امام الحاكم العسكري وافصح عن موقفه المعارض لقبول تعويضات، وراى ردَّ فعل الحاكم، حتى تاكد أنه لم يكن مغاليا في توقعاته المتشائمة. صحيح ان الحاكم العسكري لم يتفوّه بكلمة نابية ولم يتحدث بلهجة تنمُّ عن تهديد او وعيد، لكنه اخذ من خضر تصريح التنقل كما قام باستدعاء مساعده ومخاطبته بلغة لم يفهمها العرب آنذاك، ثم توجّه الى خضر طالبا منه ان يرافق المساعد.
خرج المساعد يتبعه خضر من مكتب الحاكم العسكري، واخذ بالسير نحو مرأَب السيارات على بعد بضع عشرات الخطوات. هذه الخطوات وإنْ كانت قليلة العدد، إلا انها كانت كافية لرفع منسوب التوتر لدى خضر الى اقصى درجاته، سيما بعد ان راى جنديين مسلحين ينضمان الى المساعد، فبات مقتنعا بان سيف الإبعاد سيهوى وشيكا على “عنق” بقائه في الوطن، وان السيارة ستنقله الان الى ما وراء الحدود.. لكنه عندما لاحظ ان السيارة انحرفت بعد دقائق معدودة من انطلاقها، عن مسارها على الشارع الرئيسي المؤدي الى الحدود اللبنانية، نحو طريقٍ جانبية غير معبّدة، ازداد قلقا مما ينتظره. لقد شعر وكأنه “انتقل من تحت الدلفة إلى تحت المزراب”. كان يخشى الإبعاد، فبات الان يخشى الخطر الداهم على حياته، قائلا لنفسه: ” لعلّهم عازمون الان على تصفيتي جسديا”. لقد بدا خضر معقود اللسان، مشلول الفكر وفاقد الارادة سيما بعد ان توقفت السيارة بصورة مفاجئة، وطُلِبَ منه النزول.
ترجل خضر من السيارة كمن يجرّ نفسه جرّا. شعر بان ساقيه تتهاويان تحته، سيما إزاء المنظر الذي بدا امام عينيه. لقد راى امامه دارا ذكّرته بداره في جورة الذهب، حتى وإن اختلفت قليلا قناطرُ واجهتِها، إلا انّها كانت مبنيةً من حجر احمر مدقوق ومكونة من طابق ارضي وبيت درج خارجي ملتفّ يؤدي الى الطابق الثاني. كما كانت هذه الدار محاطة بحاكورة واسعة اشبه ما تكون بالبيارة التي تحتضن دارَه في جورة الذهب. لم يطل وقوف خضر. كان عليه ان يذعن لإيماءةٍ من يد مساعد الحاكم، فتبعه نحو مدخل الدار الرئيسي. لكنه ما لبث ان عاد ليتجمد في مكانه مرة اخرى، وذلك عندما راى مساعد الحاكم يتجاوز العتبة دخولا عِبر بوابةٍ خشبية مخلوعة، وهو يتحسّس بين فينة واخرى مسدسا يتمنطقه. لقد ايقن خضر بان مساعد الحاكم يستدرجه الى داخل هذه الدار المهجورة كي يطلق النار عليه. فكّر بالفرار فحانت منه التفاتةٌ تلقائية الى الوراء، ليرى خلفه الجنديين المرافقين. ادرك للتوّ أن فرارَه سيكون لا اقل من انتحار مؤكد، فانصاع لامر المساعد ودلَفَ خلفه، بينما بقي الجنديان واقفين بمحاذاة الباب الرئيسي.
تنقل المساعد وفي اعقابه خضر في ارجاء الدار المتسعة، فمن ليوانٍ في مركز الدار الى غرفتين محاذيتين على اليمين والى غرفتين اخريين على اليسار ومن هناك الى غرفة المطبخ ومن ثم الى غرفة المائدة المجاورة والى غيرها من فضاءات الدار الرحبة والتي تشير بالدليل القاطع ان صاحبها كان من ميسوري الحال. كانت الدار خالية من الاثاث والتجهيزات باستثناء خزانتي ملابس مخلوعتي الابواب وكراسي مكسرة وصحونٍ محطمة وفرشاتٍ ولحفٍ ممزقة مبعثرة مما يدل ان هذه الدار لم تشهد تهجير اصحابها فحسب، إنما ايضا تعرضت لعمليات سلب ونهب وتحطيم. كان خضر يتحرك خلف المساعد بخطى متثاقلة وباعصابٍ مشدودة وبعينين منغرزتين في ظهر المساعد ومحملقتين بيده اليمنى القريبة من موضع المسدس، حملقةَ من هو مقتنعٌ بأنّ مساعد الحاكم العسكري سيستلُّ مسدسَه في كل لحظة ليطلق النار عليه. كان الوقت يمرّ بطيئا جدا فبدت كلُّ دقيقةٍ دهرا باكمله. شعر خضر انه في وضع ميؤوس منه، فهيأت له نفسُه فكرةَ الإنقضاض على المساعد وتجريده من سلاحه، لكنّه سرعان ما ادرك عبثيةَ مثل هذه المحاولة…لكنّ هذه الافكار السوداوية التي افرزها فكرٌ كبّلَه اليأسُ، ما لبثت ان اخذت بالانقشاع تدريجيا عندما لاحظ خضر ان المساعد يهمُّ بالخروج من الطابق الاول، مرورا بالجنديين المسلحين الذين لم يغادرا مكانهما بمحاذاة الباب الرئيسي، متجها نحو الدرج الملتف صعودا الى الطابق الثاني، ومومئا برأسه لخضر وكأنه يقول له: “هيّا اتبعني”، فتبعه خضر، متنقلا في اعقابه بين جنبات الطابق الثاني الذي بدا مشابها للطابق الاول وكأنه نسخة عنه. ولعل هذا التشابه، والادق التماثل، كان هو السبب الذي جعل المساعد ينهي جولته في الطابق الثاني بسرعة متجها نحو الدرج نزولا الى الطابق الاول ومن هناك الى السيارة التي كانت بانتظارهم… وما هي إلا دقائق حتى كانت السيارة تحطُّ بهم امام مكتب الحاكم العسكري..
جلس خضر امام مكتب الحاكم منتظرا إذنَ الدخول كي يستعيد تصريح التنقل. طال جلوسه. سرح بافكاره مستعرضا كل ما مرّ به، متسائلا عمّا يريدون منه؟ ولماذا اخذوه الى تلك الدار المهجورة إن لم يقصدوا تصفيته جسديا؟ ولماذا عادوا به الى مكتب الحاكم العسكري إن قصدوا إبعاده عن الوطن؟ ولماذا اخذ الحاكم منه تصريح التنقل الذي بدونه لا يستطيع العمل خارج “البلد” لتوفير قوتٍ لاسرته؟ وهل ارادوا مجرد إرهابه تمهيدا لابتزاز موافقته على بيع املاكه في جورة الذهب؟ وهل.. وهل..؟ لكن سيل التساؤلات هذه وغيرها قطَعَهُ صوتٌ ينادي: ” خضر وسيم مطلوب الى مكتب الحاكم”، فهبّ واقفا وتحرك مسرعا نحو باب المكتب… وما ان جلس قبالة الحاكم العسكري ومدَّ يده لاستعادة تصريح التنقل، حتى سمع الحاكمَ يقول له: ” لقد رفضتَ يا خضر أخذَ تعويضاتٍ نقدية عن املاكك المصادَرة في جورة الذهب، وها انا اعرض عليك الان استبدال مِلكٍ بمِلك”. لم يفهم خضر في باديء الامر ما قصده الحاكم، لكنه سرعان ما فهم ان الحاكم يعرض عليه هذه الدار المهجورة مقابل التنازل عن داره في جورة الذهب.
ذُهِل خضر ممّا سمعه فلم يحر جوابا ربما لان الكلام قد تجمّد على شفتيه وربما لان اعصابه كانت متعبة للغاية نتيجة صداعٍ كاد يفجّر راسه..لكنه ما لبث ان تمالك نفسه ليقول للحاكم، ولو تخلّصًا مؤقتا ممّا هو فيه: “بودي ان افكر بالامر، ارجو امهالي اسبوعا واحدا”. فقال له الحاكم العسكري وهو يعيد اليه تصريح التنقل: “حسنا. عُد إليّ مع هذا التصريح بعد اسبوع من اليوم”، ثم مضيفا بلهجة لا تخلو من محاولة إغراء : “الترميم على حسابنا”.
خرج خضر من مكتب الحاكم العسكري متعَبا ممّا مرّ عليه ومُثقَلا بمسؤولية اتخاذ قرارٍ ذي تداعيات مصيرية عليه وعلى اسرته. كانت تتنازعه وهو في طريقه عائدا الى بيته في “البلد”، مشاعر شتى ويُلحّ عليه ىسؤالٌ غير مهادن: “الاسبوع سيمرّ سريعا يا خضر. فبماذا ستجيب الحاكم؟ هل سترفض ايضا عرضه الثاني كما رفضتَ العرضَ الاول؟ وهل باستطاعتك ان تتحمل ما سيترتب على ذلك من سحب تصريح التنقل الذي بدونه لن تجد عملا يوفّر قوتا لاسرتك او حتى من رفضِ طلبك للإقامة الدائمة تمهيدا لإبعادك أنت واسرتك عن وطنكم؟ أم هل ستكونَ عمليا وواقعيا فتقبل العرضَ وتنال رضا الحاكم العسكري وكل ما ينطوي على ذلك من مغريات: حرية التنقل، وتوفّر الدخل والمسكن الجيد وضمان الاقامة الدائمة وغيرها من الحسنات؟”..
فماذا قرّر خضر؟ عن ذلك ساتحدث في الحلقة القادمة : “هناك في جورة الذهب(7)”.