جدلية الفضاء والشخصية الروائية في رواية “راكب الريح”
تاريخ النشر: 21/07/19 | 9:19بقلم د. رياض كامل
ملخص:
تهدف هذه المقالة إلى دراسة فضاء رواية “راكب الريح” (2016) للكاتب الفلسطيني يحيى يخلف (1944-)، وإبراز الفوارق بين الأمكنة المتعددة فيها، وعلاقة ذلك بشخصيات الرواية، وبالذات بالشخصية المركزية. ترى هذه الدراسة أن تنقلات الشخصية المركزية في أماكن متعددة قد عملت على إغنائها وتطويرها لما اكتسبته من تجارب في كل مكان تواجدت فيه، فساهمت جميعها في صقلها ونموها حتى وصلت درجة النضوج. ننطلق في دراستنا من أن الفضاء الروائي أو الحيز، كما يسميه عبد الملك مرتاض، (ص141) هو الإطار الذي تتحرك فيه الشخصية/ات، ويرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا عضويا وثيقا، ويتبادلان التأثير والتأثّر.
لا تتوقف هذه المقالة عند جغرافيا الأمكنة وطوبوغرافيتها وصورها الخارجية وبنائها فحسب، بل إنها تدرس دلالاتها وأبعادها. فالروائي المتمرس يخلق المكان عن قصد وعن سبق إصرار، “فالمكان في الفن اختيار، والاختيار لغة ومعنى وفكرة وقصد”، (النصير، ص8) وهو أحد مركباتها الأساسية التي يستحيل أن تقوم رواية بدونه. فالفضاء في الرواية، إذن، أبعد من أن يكون محايدا، فهو يتجلى في أشكال ويتخذ معاني متعددة، إلى درجة أنه يكون، أحيانا، علة وجود رواية من الروايات”. (بورنوف وأويلي، ص88)
يبذل الروائي يحيى يخلف جهدا خاصا ومميزا لإبراز معالم الأمكنة المتعددة في الرواية، لتتناسب مع زمن الأحداث، ومع الشخصية المركزية التي تتبلور ضمن الأطر المكانية المتخيّلة للرواية، بكل مركباتها: الاجتماعية، الفكرية، الثقافية، العلمية، الفلسفية، عاداتها، تقاليدها وهمومها اليومية؛ العامة والخاصة، بحيث نكاد نشم رائحة الأمكنة ونسمع أصواتها.
يبدو لنا جليا أن يحيى يخلف يستحضر التراث العربي القديم، ويستلهم الكثير من فضاءاته، ومن طريقة ذلك السرد، وبالذات من كتاب ألف ليلة وليلة، ففيه خيال جامح، وقصص وحكايات مطعمة بالخرافات والأساطير والرموز والدلالات تصل حد الفانتازيا. وهو متأثر، أيضا، بالسير والملاحم الشعبية التي ترسم صورة خارقة للأبطال في تصدّيهم للعدو والخصم، وفي قدرتهم على المواجهة الفردية، وإنقاذ القوم وقت الشدة، وهو ما ينعكس على القوة الجسدية للشخصية المركزية. وله اطلاع واسع على القرآن الكريم، عامة، وعلى سورة يوسف، خاصة، التي استوحى منها اسم الشخصية المركزية وبعض ملامحها الخارجية في الحسن والجمال، حتى بات محط أنظار النساء على اختلاف انتماءاتهن.
تتفتح شخصية يوسف على الحياة في ظل مدينة يافا، فكانت فضاء مفتوحا على عوالم عدة محلية وعالمية، فتأثرت بهذا المحيط الغنيّ وباتت قابلة وجاهزة للانفتاح على عوالم أوسع. تكتمل شخصية يوسف بفضل تنقّلاته وقد حمّله الروائيّ كامل المسؤولية لإحداث التغيير المنشود، ولذلك رأيناه يخصص له الحيز الأكبر من صفحات الرواية، ليمثّل الإرادة القوية لهذه الشخصية، كنموذج قادر على التحدي والمواجهة مما يتطابق مع ما قاله جولدمان: “تصور الرواية هذا البطل وهو يتفاعل مع الواقع ويتحداه مع إدراكه محدودية محاولته أو صعوبتها، أو عدم فوزه في النهاية إلا أنه يواصل محاولته”. (جولدمان، ص104) بدأت رواية “راكب الريح” مع يوسف الفتى الصغير، وانتهت به في مواجهة كل العناصر السلبية في جيل الشباب.
يعود نجاح هذه الرواية، برأينا، لأسباب عدة أهمها قدرة الروائي على تشخيص المكان وجعله معادلا، في أهميته، للشخصية الرئيسية، وتمكنه من خلق حالة من التناغم الكليّ بين الشخصيّة والمكان. فعن أية أمكنة وعن أية أشخاص تتحدث رواية “راكب الريح”؟ وما هي خصوصيتها؟
مقدمة:
أصدر الروائي يحيى يخلف روايته الأولى “نجران تحت الصفر” سنة 1977، تناول فيها موضوع الحرب الأهلية في اليمن بين الجمهوريين والملكيين، فدخل عالم الرواية، منذ ذلك الحين، من أوسع الأبواب. كما أصدر رباعيته؛ “بحيرة وراء الريح” (1991)، “نهر يستحم في البحيرة” (1997)، “ماء السماء” (2008) و”جنة ونار” (2011) التي تناول فيها أحداث النكبة وأبعادها من تشرد وضياع، لكنه في “راكب الريح” يدخل عالما جديدا هو عالم فلسطين نهاية القرن الثامن عشر. فكيف يبدو هذا العالم في تلك الحقبة الزمنية؟ ومن هم ناسه؟
لقد بنى يخلف روايته وفق محورين هامين؛ فضاء يافا الذي يمثل البيت- الوطن، وفضاء دمشق وأضنة/الأناضول الذي يمثل الغربة، وجعل الواحد منهما يكمل الآخر لتنضج الشخصية الرئيسية وتكتمل فكريا في ظلهما. إن تشخيص المكان في الرواية يوهم بواقعيتها، ويجعل أحداثها في عين القارئ محتملة الوقوع، وهو كالديكور في المسرح، إذ لا يمكننا أن نتصور وقوع الأحداث إلا من خلال الإطار المكاني. ويكثر هذا التأطير في الروايات الواقعية، (لحمداني، ص65) إذ يرى مؤلفا “النظرية الروائية”، اللذين كانا من أوائل من اهتم بهذا الجانب، أن الاهتمام التفصيلي به يعود إلى عصر الرومانتيكية والواقعية، إبان القرن التاسع عشر. (Wellek & Warren, p 220)
يعمل الروائيون على خلق المكان المتخيَّل مستمدّا من الواقع، لكنه ينزاح عنه بحيث يتجاوب مع متطلبات العمل الفني، محافظا على كينونته الأهم؛ ارتباطه العضوي بالشخصيات وارتباطها به، في علاقة غير قابلة للانفصام، وجاهزة للتأثير والتأثّر. (موسى، ص313) وقد تتعدى سلطة المكان أكثر مما يبدو على السطح إلى أعماق التكوين النفسي للشخصيات. (حافظ، ص172) وهذا ما يتجلى بوضوح في هذه الرواية، إذ إن يافا، بكل مركباتها ومكوّناتها الفضائية، تعمل على بلورة الشخصية المركزية، فيتحول يوسف في ظلها إلى شبه سندباد متنقّل، تعمل الأمكنة كلّها على نضوجه واكتماله، جسديا وفكريا، وبالتالي يقوم هو أيضا بتأثير معاكس في المكان.
لم يلق الفضاء الروائي ما يستحق من عناية المنظّرين لفترة طويلة، رغم أهميته، حتى التفتت إليه السرديّات في بداية السبعينات من القرن العشرين، (بحراوي، 2002، ص5) وبتنا نرى دراسات توضح ما لهذا العنصر من أهميّة في الرواية، وفي غيرها من الفنون. (انظر: كتاب الفضاء الروائي، مجموعة من الباحثين) ولو دقّقنا النظر فيما قاله بعض المنظرين، وبالتحديد المنظر الروسي ميخائيل باختين في كتابه الشهير أشكال الزمان والمكان في الرواية، وما يقوله غيره مثل جيرار جينيت وجان بيير جولدنستين، فسنرى أنهم جميعا يتحدثون عن العلاقة الجدلية بين الزمان والمكان والشخصية في الرواية، وهم يرون أن القصة والرواية منذ بداياتهما كانتا توليان أهمية كبرى بالفضاء. وهذا ما ألفناه في الأعمال التراثية العربية التي اعتادت على بداية “الحكي” بالتعريف على البطل، ضمن الحيز الزمكاني.
يقول جولدنستاين، على سبيل المثال: “تقتضي البداية، في كثير من الحكايات، تحديد المكان والزمان، حيث يجري الحدث تحديدا إجماليا […] ونجد في القصص القصيرة، كذلك، تبيينا لمكان الحدث وزمنه”. (جولدنستين، ص19) ويضيف: “إن الرواية، بما تتسم به من سعة، تسند دورا حقيقيا لمقولتي الزمن والفضاء، مما يجعلهما حاضرتين بمختلف تمظهراتهما في كل موضع من الرواية […] ذلك أن الروائي أكثر تنبها إلى العلاقات التي توجد بين الشخوص التي يبدع، والعالم الروائي الذي يحيط بهم”. (ن. م.، ص20)
نلاحظ أن “راكب الريح” التي تستعير بعض أساليب السرد التراثية العربية تتطابق مع ما قاله جولدنستين وغيره حول بدايات القصص والروايات، فقد جاء الفصل الأول من الرواية تحت عنوان “يافا 1795″، واستهل الراوي سرده بالحديث المباشر عن يوسف، الشخصية المركزية، مقرونا بفضاء يافا في تلك الفترة بالتحديد، وعليه فكل ما سيقال في يوسف سيكون مقيّدا بتلك الزمكانيّة.
نجد في رواية “راكب الريح” الكثير من الواقع، والكثير من الأحداث التاريخية، والكثير من الخيال وبعض الفانتازيا، مما يتيح لها الاقتراب من تخوم “الواقعية السحرية”. (حول مفهوم الواقعية السحرية انظر: تنفو، النص العجائبي، بيلي، 24.12.2008) فيوسف الوسيم الجذاب محط أنظار النساء جميعا، منذ بدء تفتح جسده، يكبر ليصبح سندباد يافا وبطلا خارق القوة. ولو دققنا النظر في الحيز الواسع الذي خصصه الروائي لفضاء يافا، خاصة، لتبين لنا بشكل جلي أن يوسف هو ابن يافا بكل مركباتها، فالبحر في شسوعه يدعو إلى المغامرة والبحث عن المجهول، وحب يوسف لبحر يافا جعل القارئ يتساءل ماذا سيحدث هناك!؟ هذا الأمر يذكرنا بنظرية وولفجانج ايزر وحديثه عن الفجوات، ولذلك فإن الإسهاب في وصف البحر وعلاقة يوسف به يكشف لنا لاحقا عن حقيقة الشخصية المغامرة والجريئة.
لقد عمل يحيى يخلف على خلق فضاء روائي مكتمل، وأثّثه بكل ما يتجاوب مع الشخصية المركزية شكلا وجوهرا، حتى غدت مدينة يافا بلدا حضاريا منفتحا على عوالم عدة، وقادرا على التحاور مع الحضارات الشرقية والغربية على اختلافها، لا مكانا يسوده التخلف. هذا الفضاء يكشف أعماق شخصية يوسف وانفتاحه على أفكار وحضارات متعددة، منذ تفتح وعيه، مما أهله للتحاور مع أشخاص ينتمون لحضارات عدة.
ملخص الرواية
تبدأ أحداث الرواية، كما أسلفنا، في يافا سنة 1795، وتنتهي نهاية القرن الثامن عشر مع فشل حملة نابوليون على فلسطين، وما خلّفته من قتل وتدمير. وهي تتمحور حول شخصية الفتى يوسف وحيد أبويه. قامت والدته بهنانة بتربيته وأحسنت في ذلك، أما والده فقد اهتم بتعليمه وتطوير شخصيته وفتح مجالات الحياة أمامه. نبغ يوسف مبكرا، فأرسله والده أحمد آغا، تاجر الصابون إلى الجامع الكبير، الذي “كان يشهد حلقات تدريس من كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلم الفقه واللغة والعلوم، فعشق الخط العربي، ومنه انتقل إلى الرسم حتى أتقنه. كما أرسله إلى مدرسة الراهبات ليتعلم اللغة الفرنسية”. (الرواية، ص5) يُعرف عنه، منذ نعومة أظفاره، حبه للبحر والمغامرة، وبات أهل يافا ينتظرون قفزاته المميزة من أعلى البرج إلى البحر، و”ذات مرة، وجد نفسه بعد أن أتم قفزته وغطس، ثم سبح نحو عمق البحر، وجها لوجه أمام حوت”، (الرواية، ص10) ومن حسن حظه أن الحوت غاص في الماء واختفى، فعاد يوسف إلى الشاطئ بسلام، و”في تلك الليلة، كانت حكاية يوسف والحوت حديث المدينة، وحديث القصر ومجالس الوالي والأغاوات ونقباء الأشراف، ومجلس الجواري”. (الرواية، ص11)
يلفت يوسف إليه أنظار أهل يافا؛ كبيرها وصغيرها، بفضل نبوغه وعلمه وجسارته واكتمال أدوات فنّه، ووسامته التي شغلت صبايا المدينة وجواري القصر، فشبهت صديقات أمه جماله بجمال النبي يوسف. يدخل يوسف المراهق تجربته النسائية الأولى مع جارية حسناء أغوته، وما إن لامست شفتاه نحرها حتى احترق. يلتقي، كعادته، بالجميلات عند شاطئ يافا، ويتعرف إلى ماري الجميلة، ابنة قنصل الدولة العليّة في مدينة بوردو بفرنسا، وإلى أمها الطبيبة الفرنسية، اللتين قدمتا برفقة العائلة لقضاء عطلتهما الصيفية في يافا. مهّد هذا اللقاء وهذا التعارف الطريق ليوسف للسماع عن فرنسا والثورة الفرنسية الحديثة ضد النظام الملكي.
ولما رأى الوالد أن ولده مولع بفن الرسم اكترى له بيتا ليكون بازارا للرسم وتخزين الرسوم واللوحات وبيعها. لم يكتف يوسف بما تعلمه في يافا وعكا وحيفا، بل سافر إلى الأستانة، وطاف في بلاد الشام والعراق، واطّلع على رسومات لشعوب عدة، فتطورت أدواته ورسوماته وانتقل إلى الرسم بالفسيفساء. أقبل كبار موظّفي السراي والعائلات الغنيّة على البازار لشراء لوحاته الثمينة. وفي إحدى المرات تحضر ماري ووالدتها برفقة فتاة ذات حضور طاغ، وكانت تلك هي “العيطموس” المرأة كاملة الأنوثة والجمال، الأميرة القادمة من الأناضول التي اقتحمت خياله ولبّه. كانت تسكن في أحد القصور قريبا من قصر الوالي والسراي، فتقربا من بعضهما، وعرف عنها كل ما كان مستورا، واتفقا أن يرسمها مقابل قُبلة.
يلفت يوسف إليه الأنظار ويتّسع تأثيره على من حوله، فيحاول رجال الإنكشارية المعروفون بتزمتهم أن يحدّوا من فكره وتأثيره فيتواجه، في إحدى المرات، معهم جسديا، فأوسع فيهم ضربا وتغلب عليهم منفردا، فكان عقابه النفي وإبعاده عن يافا مدة سنتين. يترك جميلته “العيطموس” الشبيهة بالأندروميدا ويصل، وفق الاتفاق، إلى الشام حيث يدخل في “مدرستي ملوكي سلطاني” ليدرس هندسة العمارة وتزيين القصور، فتزداد ثقافته ومعلوماته. يلتقي هناك بفتاة غاية في الجمال هي “ذات السن الذهبية”، ويمر معها بمغامرة كادت أن تودي بحياته، تستدرجه وتخدعه فيقع في قبضة الجنود وينجو بأعجوبة، بعد أن تعرض لصفعاتهم ولكماتهم الموجعة، لكنه لم يتوقف عن المغامرة في كل مرة كانت تظهر فيها فتاة أشبه في جمالها بحوريات البحر الساحرات.
يعاني يوسف، منذ نعومة أظفاره، لأن “قرينا” يسكنه وينغص عليه حياته، ولا يعرف كيف يتخلص منه. يعرض حالته على شيخ وعلى إمام، كما لم يتردد في عرض حالته على رجلين هنديين التقى بهما في بلاد الشام، أحدهما سيخي والثاني مسلم فيعرضان عليه صفقة؛ أن ينسخ بخطه الجميل “مخطوطا” عن حكمة الشرق، مترجما إلى اللغة العربية، من تأليف حكيم، فيلسوف وطبيب هندي، عالم بالفلك وخبير بالموسيقى الروحية، مقابل تخليصه من “القرين”. يرافقهما إلى حيث يقيم الطبيب إقامته المؤقتة في جبل من جبال الأناضول، فيشفى بعد تلقيه العلاج، ويتعلم منه القدرة على التحكم بطاقته واكتشاف جوهر ذاته. وما إن سمع بحملة نابليون على فلسطين، وبالتدمير الذي لحق بيافا حتى عاد على عجل تاركا الأناضول، فينضم إلى المقاتلين الذين يحاربون جيش نابليون الغازي. يكتشف أن والديه قد قضيا نحبهما مثل آلاف القتلى الذين فتك بهم نابليون وجيشه. كما يرى أن الطاعون قد تفشى بين الناس، بسبب كثرة القتلى المنتشرين في كل مكان.
يعمل مع المقاتلين والمتطوعين على إعادة بناء المدينة الجريحة، ويتمكن، بفضل الحكيم الهندي وإشرافه، أن يشفي “العيطموس” من الطاعون. ينال منها قبلته الموعودة لقاء أتعابه في رسم اللوحة، لكنها كانت “قبلة النوايا الحسنة”، كما قالت السيدة العيطموس، إذ “اقترب من اللوحة، مد رأسه نحوها، ألصق شفتيه بشفتيها، وأطال التقبيل، ثم ابتعد، واستدار نحوها، وقال: هكذا تكونين قد سددت دينك”. (الرواية، ص343) تغادر “العيطموس” يافا، ويتابع يوسف والشباب في ترميم المدينة وتقديم المساعدة لأهلها.
زمكانيّة العنوان والغلاف
قبل الخوض في دور المحطات المكانية نرى لزاما علينا أن نشير، بشكل موجز، إلى زمكانيّة العنوان وعلاقتها بالشخصية الرئيسية. يشير العنوان، بشكل مباشر، إلى أنّ الشخصية المركزية في الرواية هي العنصر الأهم. و”راكب الريح”، في معناه المباشر، يبوح بفضاء مفتوح مكانا وزمانا، وهو متحرك في الزمان، وغير ثابت في المكان، مما يتلاءم مع تحركات الشخصية المركزية، ليس فقط على صعيد المحسوس، بل على صعيد الجوهر، فتحركات يوسف وجولاته تمكنه من اكتشاف جوهر ذاته. كذلك فإنّ اختيار الاسم يوسف يحيلنا إلى قصة النبي يوسف، ليس في وسامته، وفي قصصه مع زوجة العزيز، واللواتي قطّعن أصابعهن، فحسب، بل لأنّ النبي يوسف راكب للريح أيضا، إذ انتقل من أرض كنعان إلى أرض مصر وتعرَّف على بلاد أخرى وحضارة أخرى، تأثّر بفنّها وعالمها الرحب الواسع، واكتملت شخصيته بفضلها وفي ظلها، فأصبح هذا الفتى الصغير، بفضل نبوغ عقله، وقدرته على تفسير الأحلام والألغاز، وزيرا لعزيز مصر، فتمكّن من إنقاذ أهله من القحط والجوع، وتزويدهم بكل ما يحتاجون من دعم. وهكذا فإن يوسف بطل الرواية، قد تجوّل في بلاد عدة وكبر حتى اكتمل إدراكه ووعيه، وعاد إلى أهله وإلى بلده يافا، فأنقذها من الطاعون والجوع، ومن براثن نابليون وجيشه الذي عاث فسادا. إذن فالعنوان “ليس مجرد تكملة أو حلية، بل إنها، من منظور بعض محللي الخطاب، نقطة انطلاق كل تأويل للنص”. (الماكري، ص253) لذا فإن اختيار يحيى يخلف عنوان الرواية، واختيار اسم الشخصية المركزية لم يكن محض صدفة، فقد جعل الواحد منهما يكمل الآخر.
يعلن الأدباء، سواء كانوا روائيين، شعراء أو قصاصين، أنّ العنوان يأتي لاحقا بعد الانتهاء من العمل، وذلك بعد أن يثوب عقل الأديب إلى رأسه، على حد قول الباحث عبدالله الغذّامي، فيكون ذلك عصارة فكره، بعد أن يكون قد ارتاح من عناء الكتابة. (الغذامي، ص58) إنّ العلاقة الوثيقة بين جميع عناصر الرواية، والمبنى المتين للأحداث، وارتباطها بالشخصية المركزية في “راكب الريح” جعلنا نشعر وكأن العنوان قد جاء سابقا ثم تلا ذلك سرد الأحداث. يشير العنوان، “راكب الريح” بشكل مباشر إلى ثلاث عناصر روائية مجتمعة؛ الشخصية المركزية، المكان، والزمان في أبعادها المتحركة غير الجامدة، كما هو حال الأحداث والراوي اللذين يرافقان الشخصية في تناوب الأمكنة والأزمنة.
تحدّث المنظّرون عن الفضاء المغلق والفضاء المفتوح، ودور كل منهما، ونحن نرى أنّ فضاء مدينة يافا فضاء مفتوح، رغم السور والأبنية المغلقة، لأنّ كل هذه المركبات تكمل بعضها بعضا كلوحة فسيفسائية متكاملة المعالم. ونرى بعد معاينة دور يافا في تطوير شخصية يوسف، واحتكاكه بأبناء شعوب عدة ينتمون لحضارات مختلفة، أنّ فضاء يافا مفتوح فكريا، رغم محاولة أفراد جيش الإنكشارية فرض قيود ظلامية. أدركت الفنانة التشكيلية ضحى الخطيب هذا البعد فعكسته في لوحة الغلاف، إذ نرى هناك صورة يوسف ذي اللحية والشاربين المفتولين، كشاربي الأتراك في تلك الحقبة الزمنية، له عينان واسعتان تنظران إلى البعيد. يوسف هو الأقرب في اللوحة إلى الرائي، يغطي جزءا كبيرا من المدينة، ومن خلفه تبدو بعض بيوت يافا، وحصان وطيور وقوارب وقبة ومئذنة. أما خلفية اللوحة فلونها سماوي قريب من لون بحر يافا، والبحر والسماء كلاهما فضاء مفتوح. إن المتمعّن لقادر أن يكتشف ما هو أبعد مما قمنا بتوصيفه، فاللوحة قابلة للانفتاح والتأويل، وتوحي بالعلاقة المتينة بين عالم الرواية، بأحداثها وشكل المدينة العامرة ببيوتها وساحلها، وبين يوسف بطل الرواية.
يستحق العنوان ولوحة الغلاف وقفة مطولة، بل هما جديران بدراسة موسّعة تثبت العلاقة الجدلية القوية بين الأحداث وبين العنوان، وما يتعلق به، ما يؤكد رؤية جيرار جينيت أنّ العنوان هو “النص الموازي”، وهو ما ينطبق فعلا على لوحة الغلاف التي تأخذنا إلى أجواء ألف ليلة وليلة والسندباد وبساط الريح، فتأتي الأحداث فيما بعد لتربط بين يوسف، راكب الريح، وجولاته وتنقلاته واكتمال تجربته.
المحطة الأولى: فضاء يافا؛ البيت ومسقط الرأس
تتفتّح الشخصية المركزية وتتطور في ظل مدينة يافا، ببيوتها وأزقتها وحاراتها وسوقها وبحرها وسورها وأبراجها، وبمحيط غنيّ ثقافة وفنا وحضارة. وكان يوسف، كلما كبر يوما، ازدادت قوته الخارقة معتقدا أنّ هذه القوة هي من “قرين” يسكنه، تمثلت في تغلّبه على مجموعة كبيرة من أفراد جيش الإنكشارية، ومن قبلة لجارية حسناء قبّلها في نحرها فاحترق، وظلت هذه القبلة وشما أبديا. كما أن حبه للعلم والمعرفة وفنّ الرسم كان يزداد يوما بعد يوم. من هنا يجب التعامل مع يوسف/ الشخصية المركزية من خلال المحيط المُتخيَّل للرواية، ومن خلال الحيِّز الزمكانيّ المتخيل، متفقين بذلك مع كل من صبري حافظ الذي يرى أنّ أيّ محاولة لنزع الشخصيات من سياقها، ومناقشتها على أنّها شخصيات إنسانية حقيقية هو فهم خاطئ لطبيعة الأدب، (حافظ، ص173) ومع بوريس أوسبينسكي الذي يرى أنّ المكان، في الحكايات الشعبية، يقوم بالدور الأول في تحديد مواقف الشخصيات وليس العكس. (ن. م.، ص172) فهل هذا يعني أن “راكب الريح” هي حكاية شعبية؟
قلنا، أعلاه، إنّ الروائيّ في “راكب الريح” يوظف أسلوب الحكايات الشعبيّة السرديّة، فبطلها خارق في قوّته، كما رأينا أعلاه، والمحيط اليافاوي فيه الكثير من الواقعيّة الممزوجة بالخيال الذي يصل تخوم الفانتازيا دون اختراقها. تبدو لنا يافا، منذ بداية السرد، مدينة فيها بعض من مواصفات عالم ألف ليلة وليلة، غنية بمعالمها وأبنيتها وتاريخها، وتنوّع ناسها وانتماءاتهم المتعددة، واختلاف مهنهم وأعمالهم. وتظهر للقارئ مدينة منفتحة على عوالم عدة؛ سوقها عامرة بالتجار المحليين والغرباء والقادمين إليها من بعيد، فيها بعض القصور، وفيها السراي الذي يقيم فيه الوالي العثماني، عبدالله بك، وفيها جوار وقيان وحسناوات من بلدان مختلفة، ومن شعوب عدة، وفيها الجامع الكبير الذي بني بمعمار عثماني فريد، وآثار قديمة من سور وبرج عال تشهد كلها على عراقتها، وفيها أسواق ومتاجر تكتظ بالباعة والمتسوقين المحليين والأجانب، وحركة تجارية مباركة. وفيها أدغال من أشجار الحمضيات وساحات وباحات، فضلا عن شاطئ ذهبي جميل ورمل يتسلّى به الكبار والصغار.
تحفل رواية “راكب الريح” بالتوصيف، لدرجة تجعل القارئ يشعر بوجود معالم يافا وغيرها من المواقع حقيقةً لا مجرد خيال، “فوصف المكان هو وصف لمستقبل الشخصية كما يقول فيليب هامون، وحيث لا توجد أحداث لا توجد أمكنة فيما يعتقد جورج بولان، والمكان لا يظهر إلا من خلال إحداثيّة زمنيّة يندرج فيها، كما يرى جيرار جينيت، ومنظور السرد هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي ويرسم طوبوغرافيته على حد قول فرانسواز روسم”. (بحراوي، 2002، ص6)
يتساءل جولدنستين: “لماذا تتموضع أحداث رواية من الروايات في مكان بدل آخر؟ ولماذا يتنقل البطل؟ ولماذا يخلق الروائي جوا منحبسا أو يفسح المجال الرحب لشخوصه؟ وبتعبير آخر؛ هل يستعمل الروائي الفضاء مجرد ديكور، أم أن هذا الفضاء يضطلع بدور كامل، في إطار تنامي التخيل؟” (جولدنستين، ص33)
يجيب جولدنستين: “في الأدب الروائي المحتفي بالتشخيص، والذي ما زال مهيمنا إلى يومنا هذا، لا يكون المكان مجانيا، فلا يصوره الروائي لذاته، بل يقيّده باقتصاد المحكي، من خلال التهذيب البلاغي الضمني الذي يتحقق له عن طريق القراءة. فالقارئ إزاء وصف من الأوصاف، لا يملك إلا الاعتقاد في قرارة نفسه، بأن أمرا ما سيحدث هنا”. (ن. م)
سيرى القارئ أنّ يوسف سيدخل أسواق يافا ويحتك بناسها، على أنواعهم، وسيستلهم رسوماته وفنه من تراثها، ومن ألوانها الجميلة المتعددة، ومن برجها وأساطيرها، وسيتفتّح ذهنه على محبّة رملها، وسيبني هناك “قصوره” مع الصبايا الجميلات، ثم يلتقي، بعد أن بدأ شعر شاربه وذقنه يبزغ، بجارية حسناء مجربة تغويه وتسحبه معها إلى الغابة، حيث بساتين البرتقال، فيدخل معها في تجربته الأولى التي ستتكرر في مواقع أخرى، مع كثير من التشابه في سطوة السحر والجمال الأنثوي. إذن فتوصيف المكان في رواية “راكب الريح” ليس مجرد “ديكور” ولا وصفا لطوبوغرافيا المكان فحسب، بل إنّه يحمل دلالات وإشارات هامة تشي بمستقبل الشخصية المركزيّة الجاهزة للانفتاح على العالم والتحاور معه، والاستعداد لقبول الآخر بثقة تامة. ففضاء يافا مفتوح، ببحره وسمائه وأسواقه، وبثقافته وعلمه وحضارته. إنّ هذا التوصيف الغنيّ للمكان، بكل مركباته الثريّة، جعل يوسف رمزا للإنسان الفلسطيني القادر على المحاورة بثقة وثبات، لا مجرد فرد دون هوية، وجعل يافا رمزا للمكان الأوسع والأشمل، رمزا للوطن بمجمله.
إن جميع مركبات فضاء مدينة يافا تُكوّن مع بعضها بعضا صورة فسيفسائية متكاملة، من شأنها أن تبرز ملامح التكوين الأولي لشخصية الفتى يوسف. وهي ليست مفصولة عن بعضها، بل تدلّل، في اجتماعها، على الصراع الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ لساكني المدينة. يرى يوسف ويعي ما يراه، فيتواجه، منذ بداية تفتح وعيه، مع الإنكشارية، وما تحمله هذه الفئة من أفكار متزمّتة تتناقض مع أفكاره التي تميل إلى الفن بأنواعه المختلفة.
يبني الروائي فضاء الرواية فيبدو عالما واسعا شاملا، دون أن يقتصر على الوصف الطوبوغرافي للأمكنة ومعالمها ذات الدلالات، بل لقد جعل كل بقعة من يافا تحمل جانبا من جوانب الشخصية ليتبادلا التأثُر والتأثير، وكان للبيت دور هام. فالبيت هو البيئة المكانية التي تعبّر عن ظروف الشخصية وطبيعتها، وهو، بكلمات أخرى، امتداد لشخصيته. (Wellek & Warren, p 221)
يفتتح الروائيّ يحيى يخلف روايته “راكب الريح” بالنص التالي: “وُلد يوسف لأب يعمل بالتجارة، ويسكن بيتا مبنيا من النمط المملوكي على سفح التلة، التي تعلوها السراي، حيث يقيم الوالي العثماني عبد الله بك”. (الرواية، ص5) لو دققنا في النص القصير أعلاه لرأينا أنّ له دلالة واضحة، ورسالة يجب أن يتلقّفها القارئ ليفكّ إشاراتها. بيت يوسف ليس متواضعا البتّة، بل إنّه مبنيّ على النمط المملوكي، وعند سفح التلة، لكنّ الوالي العثمانيّ الأجنبيّ يسكن في السراي فوق بيت يوسف. وكأنّ الكاتب يفتح كوة للقارئ كي يتوقع صراعا بين يوسف، بما يحمله من أفكار، وسكان السراي، وما يمثلونه من فكر يتناقض مع رؤيا يوسف وأفكاره.
في البيت أب وأم يسهران على تربيته صغيرا، ودعم تعليمه وتثقيفه شابا، فالبيت رمز الدفء والحياة الوادعة الهادئة. هنا في المنزل “يختلي بالريشة ودواة الحبر والورق ليخط الآيات والحكم والأمثال بخط الثلث”. (الرواية، ص8)
يتأكد لنا، بعد الاطلاع على معالم يافا الخارجية والداخلية، ما لهذا التوصيف من أهمية يفوق دور الزمن، رغم أهميته، هو الآخر، لأن القارئ يكاد يلمس معالم الأشياء. لقد لفت نظرنا ما قاله المنظر جيرار جينيت بهذا الصدد، في دراسة له بعنوان “الأدب والفضاء”، يفتتحها بالجملة التالية: “قد يبدو من باب المفارقة أن نتحدث عن فضاء في الأدب، إذ يبدو أن العمل الأدبي إنما يتحقق زمنيا، في المقام الأول”. (جينيت، ص11) ويضيف لاحقا: “لكن يمكن، بل ينبغي، أيضا، أن نبحث في علاقة الأدب بالفضاء. وليس يدفعنا إلى ذلك أنّ من مواضيع الأدب ما نجد فيه من حديث عن الفضاء، ووصف الأمكنة، والمساكن والمناظر الطبيعية، أو لأنّ ما نقرأ منه قد ينقلنا، عبر الخيال، إلى نائي الأصقاع ومجهولها فيُخيّل إلينا، لبرهة من الوقت، أننا نجتازها أو نقيم فيها”. (ن. م،. ص11-12)
إن قارئ الرواية يرى، بوضوح تام، كثافة وصف الفضاء الروائي، على اختلاف مركباته، بحيث نكاد نلمس بعض معالمه، فالروائي يعمل على التأثيث المكاني ليحمل دلالات عدة تبوح بدور هذا المكان وموقعه الاجتماعيّ، ودوره في إبراز مَن عليه من بشر. وقد حظيت السوق بحيّز واسع منه، إنّها سوق عامرة أشبه بالأسواق التي قرأنا عنها في “ألف ليلة وليلة”، وفي حكاياتنا الشعبية: “كانت السوق تمثل تنوع المدينة…”. (الرواية، ص8)
إن يوسف جزء هام من هذا النسيج الاجتماعيّ المتنوّع، ومن هذه الحياة الزاهرة والزاخرة في السوق، فضلا عن تعدد التجار والباعة والبضائع، فتمكّن من رؤية الناس، ومن معاشرتهم، على اختلاف انتماءاتهم. ساهم كل ذلك في تفتح ذهنه وفكره، وباتت السوق مكانا مفتوحا على عوالم مختلفة، لا مجرد مكان مفتوح طوبوغرافيا. إنّه عالم بحد ذاته، فيه تنوّع من البضائع، وتنوّع من الباعة والمتسوقين. وهو تحفة في البناء وفي العرض يساهم في تفتح الذهن والذوق الفني ليوسف، الذي يستوحي منه أفكارا: “ويستمتع (يوسف) بمشاهدة السلع المعروضة: أقمشة فاخرة، وملابس مزركشة ومطعمة باللؤلؤ، ومحلات بهار تعرض التوابل المستوردة من بلاد الصين والهند، ومحلات تعرض البسط المجدلاوية المنسوجة على النول…”. (الرواية، ص7)
هذا التنوّع في المعروضات وفي البضائع، ينمّ عن غنى أهل يافا الثقافيّ والفنيّ والفكريّ، خاصة، وفلسطين عامة. يسهب الراوي في تصوير يافا، بكل مرافقها، فتبدو في عين القارئ مدينة تزخر بالحياة، وهو ما يتناقض مع ما يروّجه الآخر بأنّ هذه البلاد كانت غارقة في بحر من الجهل والخواء الفكريّ والفنيّ. فالأمكنة تتشكّل من خلال الأحداث التي تقوم بها الشخصيات، وهذا يعني أنّ الفضاء الروائي يرتبط بمسار الأحداث السردية. فالإشارة إلى المكان تعني أن هناك حدثا قد جرى، أو سيجري به. وشبيه هذا القول يرد عند فيليب هامون الذي يرى “ان البيئة الموصوفة تؤثّر على الشخصية وتحفّزها على القيام بالأحداث وتدفع بها إلى الفعل، حتى إنه يمكن القول بأنّ وصف البيئة هو وصف مستقبل الشخصية”. (بحراوي، 1990، ص29-30) أما جوليا كريستيفا فلم تجعله منفصلا عن دلالته الحضارية، بل إنّها تراه مرتبطا بثقافة عصر من العصور الذي تصوره الرواية. (لحمداني، ص54)
ولذا فإننا نرى أن التصوير الخارجي له دلالات وأبعاد مقصودة. وعليه فإنّ هذه المدينة جزء من حضارة تستحق أن نُرسّخها في وجداننا كي تستحق التضحية. فمن أجلها لا يسارع يوسف في الاستجابة لطلب والده تركَ يافا، رغم رغبته في دراسة علم الهندسة في الأستانة، لأنه “في الوقت نفسه، لا يرغب في هجر فن الرسم، ولا يرغب في الاغتراب عن يافا. لا يرغب في الابتعاد عن البحر والمنارة والميناء والأسوار والأبراج والتلة وصخرة الأميرة والسراي وقصر الوالي والبيوت المتدرجة الحجرية […] ولا عن ضجيج الحياة في الأسواق وتنوع الحياة وألقها وكثرة العابرين والزوار والسياح”. (الرواية، ص22-23) كأنّي بالكاتب يتخفى خلف الراوي ليبث رسالة للقارئ مفادها أنّ هذه بلاد عريقة بفنّها وحضارتها وتاريخها وناسها. وسنرى أن مركبات مدينة يافا، من بشر وفن وحجر، تستحق أن يضحي المرء في سبيلها والحفاظ عليها، لأن الحفاظ على يافا يعني الحفاظ على المكان الأوسع. فكانت عودة يوسف من الغربة، في بلاد الأناضول، وانضمامه إلى المقاتلين للذود عن يافا، وإعادة بنائها، بمثابة عودة للدفاع عن هذا الرصيد وعن هذا التنوّع البشري، والتنوع الفكري الذي يغني المدينة وأهلها.
من أبرز ملامح هذه الفترة، برأينا، هو إبراز الشخصية الشرقية والهوية الشرقية، فيافا مدينة وفيها صراعات واختلافات، لكن تفوح منها الأصالة الشرقية العربية، من فن الخط العربي والتزويق والملابس والأنسجة والرسم الراقي، التي تحمل جمال الشرق العربي وسحره، فضلا عن فن البناء الشرقي. هذا كله يحمله أبناء يافا، كجزء من رصيدهم، وينقله معه يوسف حيثما حل. وبفضل هذه الحضارة وهذا الرصيد، تمكّن أن يتحاور مع الآخر وأن يتواصل معه، خاصة حين يكون هذا الآخر ذا باع طويل في العلم والمعرفة، يعطيهم مما لديه، ويأخذ منهم ما ينضاف إلى رصيده، كي تكتمل الرؤيا الشمولية. لكنه مع ذلك يحمل معه نزق الشباب ونزق الشرق، رغم ما يتحلى به الشرق العربي من روحانيات.
إن يوسف، في تمثيله ليافا وللشرق العربي، تنقصه بعض الميزات التي يجب أن يتسلّح بها ليواجه الحضارات الأخرى، وهو ما سيكتسبه في مناطق الشرق الأخرى، ليعود إلى يافا أكثر وعيا وأكثر تعلقا بها وبأهلها.
ذكرنا أعلاه أنّ الفضاء في الرواية أبعد من أن يكون محايدا، (بورنوف وأويلي، ص88) وعليه نؤكد أن الكاتب خلق عالما فضائيا معادلا للشخصية المركزية، ولم نر غلبة للفضاء على الشخصية أو العكس. ونضيف أن فضاء يافا هو نقطة الانطلاق، وكأن وصف بحرها وسورها كان إشارة للقارئ أنّ يوسف سيتعدى هذا المكان إلى ما هو أوسع، أما ظهور الحوت فإنه يحمل نفس الدلالة لأنه يذكرنا بحوت يونس الذي حمله في بطنه ونقله إلى مكان أبعد.
المحطة الثانية: فضاء الغربة ونضوج الشخصية
لقد طرق الكثير من الروائيين العرب موضوع الغربة منذ نشأة الرواية العربية الحديثة، وقد برزت من بينها روايات هامة منها؛ “عصفور من الشرق” (1938) للكاتب توفيق الحكيم (1998-1987)، “قنديل أم هاشم” (1944) للكاتب يحيى حقي (1905-1992)، “الحي اللاتيني” (1953) لسهيل إدريس (1925-2008) و”موسم الهجرة إلى الشمال” (1965) للطيب صالح (1929-2009). هذه الروايات تناولت غربة الشرقي في الغرب الأوروبيّ، وصراع الشرق والغرب. أما في رواية “راكب الريح” فإن موضوع الغربة له فضاء آخر هو فضاء الشرق. ولذلك اتخذت الغربة معنى آخر مغايرا عما هو في تلك الروايات. فانتقال يوسف من بيئته الفلسطينية في يافا، إلى البيئة الشامية، ثم إلى الأناضول، كانت بهدف اكتمال الشخصية العربية الشرقية ونضوجها، واكتشاف الذات القوية لمحاربة التخلّف الفكريّ، ممثلا بالإنكشارية وغيرهم، من ناحية، وطرد المحتلّ الغريب، من ناحية أخرى، ممثلا بنابليون وجيشه.
إذن الغربة في “راكب الريح” لها مفاهيم أخرى تتلاءم مع تلك الزمكانية، في ظل الإمبراطورية العثمانية التي تشمل كلَّ العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، وفي ظل محاولة الغرب السيطرةَ على تلك الدولة التي كانت عليّة وقوية، يوما ما، ثم أخذت في التراجع ولبست ثياب “الرجل المريض”، فتطلع الغرب إلى تقسيمها والسيطرة على خيراتها، فكانت حملة نابليون إحدى تلك المحاولات، وكان العرب أهمّ ضحايا هذه الحملة، كما كانوا ضحية دول الغرب، في صراعهم على الشرق العربي، والسيطرة عليه وعلى خيراته.
إن فضاء الشام والأناضول فيه الكثير من معالم يافا وفضائها، ما عدا البحر، لكن الفضاء ليس مجرد موقع جغرافي، كما ذكرنا، فيوسف غريب عن ناسه، وعن نزلائه، الذين ينتمون لشعوب ذات حضارات وثقافات شتى، تسنى له أن يراها ويحسّها ويتحاور معها لأول مرة في حياته. ورغم ما يمر به من صعوبات، هناك، إلا أن هذه الغربة تزيده علما وتجربة وصلابة واستعدادا للمواجهة، على الصعيد الخاص، وعلى الصعيد العام.
إن فضاء يافا هو الفضاء الأساس في رواية “راكب الريح”، هناك بدأ حياته طفلا صغيرا يستفيد من الجامع ومن مدرسة الراهبات، تعلّم وتثقّف من الشرق والغرب، فالجامع رمز حضارة الشرق العربي الإسلامي، واللغة الفرنسية رمز للانفتاح على الثقافة الغربية. لقد وضع الروائي الأسس الرئيسية المتينة لشخصية يوسف، منذ الصفحات الأولى للرواية، وأعطاها من الميزات ومن الصفات ما يؤهّلها للمحاورة والانفتاح على عوالم عدة. وقد رأينا أن مدينة يافا ليست مجرد مدينة يعيش ناسها في إطار مغلق وضيق، بل رأيناها مجمعا لثقافات عديدة وتجارات متعددة، يسكنها أناس من قوميات متعددة، فتأهّلت الشخصية المركزية للمواجهة والانفتاح والمحاورة، وبُنيت بحيث باتت جاهزة للانتقال من ثقافة لأخرى، بدءا من تعلّمه في الجامع والمدرسة، مرورا بالشاطئ فالسوق، والتقائه بأناس متعددي الأهواء ومتعددي الجنسيات.
يقول جولدنستين: “يوظف كثير من الروائيين في رواياتهم فضاء مفتوحا، يترك للأبطال حرية الذهاب والإياب، والسفر، وقد يتيح لبعضهم إمكانية التطواف والجولان أيضا”. (جولدنستين، ص23) ذكرنا أعلاه أنّ يوسف قد تنقّل بين عدة مدن فلسطينية هامة، لكنه لم يكتف بما تعلمه في يافا وعكا وحيفا، فسافر إلى الأستانة، وطاف في بلاد الشام والعراق، وقد استفاد من هذه التنقلات. أما جولته الأهم فكانت في بلاد الشام بعد إبعاده من يافا قسرا لمدة سنتين، فاستقرّ بها، ودخل إحدى مدارسها، كما احتك بناسها عن قرب، وتجوّل في أسواقها وحاراتها الغنية، فاطّلع على ثقافاتها الغنية، ثم جاء انتقاله إلى الأناضول للاستشفاء، فكان له ذلك.
يسافر يوسف إلى دمشق، بعد أن “ودّع يافا، والسيدة “العيطموس” فائقة جمال الجسد والروح”، (الرواية، ص169) لا رغبة منه، بل لأنّ قرارا صدر من الوالي بإبعاده، بعد أن تواجه مع مجموعة من جنود الإنكشارية، كما ذكر أعلاه، فاستغلّ ذلك ليوسع من مداركه، ويحقق رغبته ورغبة والده في تعلم فن العمارة وتزيين القصور. يطّلع على فنون هندسيّة معماريّة لشعوب عدة معظمها شرقيّة وبعضها غربية. (للمزيد من التفاصيل انظر: الرواية، ص169-170) ويمضي أيامه في المدرسة وفي زيارة الحارات والأسواق، والاطلاع على الفنون المعمارية المختلفة، مدة سنة كاملة، لم يلتق خلالها بأهله، إلا مرة واحدة حين زاره أبوه أحمد آغا وأمه بهنانة. (الرواية، ص171)
يلاحظ القارئ إسهاب الراوي في وصف معالم دمشق، التي تقع كلها تحت مرأى عينيّ يوسف، بما فيها من غنى حضاريّ، (انظر: الرواية، ص165-176) لكنّ وجدانه يبقى مرتبطا بيافا. يسكن هنا “بيتا مريحا لا يأوي إليه إلا وقت النوم”. (الرواية، ص170) أما هناك فكان له بيت وأهل وأحبة ينتمي إليهم جميعا، هناك كان يعرف كل حبة رمل من رمال يافا، وكل شجرة من أشجارها، وكل موجة من أمواج بحرها. وأما هنا، في دمشق، حيث الفن والحضارة اللذان يروقان ليوسف، واللذان يُسهمان في تطور أدوات فنه ورؤياه، (انظر: الرواية، ص170-171) فهو الغريب الذي لا يدرك أسرارها ولا يلم بزواياها وخفاياها: “هنا لا فسقية ولا شجرة ليمون، لا علّيّة ولا موقد، ولا نافذة تطل على غواية، هنا يحس بالغربة والوحدة والعزلة”. (الرواية، ص185)
تضيق به الحال، رغم جمال المدينة وأصالتها وعراقتها، فالانتماء إلى المكان هو مجموعة من الأحاسيس والمشاعر، لكنّه هنا يشعر بانغلاق في الأفق، وإن كانت الشام ذات سماء زرقاء، وعامرة بالأسواق وبالناس. إن المدينة هنا، بالنسبة ليوسف، مصدر ثقافي هام، لكنه لا يشعر أنه قادر على تحقيق ذاته، كما كان عليه الأمر في يافا مسقط الرأس. فضاق ذرعا حتى وقع في الخطأ نتيجة غواية فتاة أطلّت من نافذة بيتها واستدرجته إلى بيت لا يعرفه إلا من الخارج، رغم القرب الجغرافي ورغم الجيرة، فيقع في الشرك، وحين يصل البيت يفتح له عجوز الباب، ويستدعي الدرك الذين يقودونه للتحقيق والمساءلة، ويعاقب حتى أدمت الكرابيج جلده. وكان قد وعد نفسه ألّا يقع في الخطأ: “كان تجنب النساء خياره، وتجنب الشهوة والغواية قناعته” (الرواية، ص173) لكنّ “الجني الذي يتزمّل في ثيابه يستيقظ”. (الرواية، ص174)
عاد يوسف إلى البيت منهكا، فتذكر أباه وأمه “وصورة السيدة، سلسلة من الصور: بيت على التلال، قصر السيدة، عيناها الحانيتان، لوحتها ودفء روحها. عند القذارة نتذكر الطهارة. مرت في ذاكرته صورة يافا: دكان في السوق، أبراج ومدافع، رائحة صابون، خرير نهر، ظلال أشجار عالية، بساتين برتقال، بيوت متدرّجة حولها سور، شباك صيادين، رائحة سجق، غزل ونسيج، فخار وخمور، معاصر زيت، خشب أرز، صخرة أميرة، جامع كبير، سبيل ماء، شجرة حرير، دودة قز، جبل ملح. عادت لذاكرته يافا وبكى”. (الرواية، ص183)
تعود الذاكرة إلى حيث الألفة؛ هناك العائلة والأحبة، وكل زاوية من زوايا المدينة، بصورتها وهيئتها ورائحتها، يحضر المكان الأليف لطرد شبح الغربة. لن نأتي بجديد حين نقول إن رائحةً ما أو صوتًا ما يثير فينا الذاكرة، ونعود في مخيلتنا، إلى المكان الأليف الدافئ. فالمكان ليس صورة فحسب، بل هو كيان وروح. إن التكثيف أعلاه، في سيولة حضور المكان، يهدف إلى خلق حالة من التناقض بين البيت والغربة، بين الدفء والبرودة، بين “هنا” و”هناك”.
يدخل يوسف في حالة من الاكتئاب، ويتغيّب عن الدروس أربعة أيام، توجّه نحو الجامع فقابل الشيخ الذي فسّر له أحلامه فأراحه، لكنه ما انفكّ أن وقع تحت إغواء نفس الفتاة، بعد أن تزيّت وتخفّت وقادته خلفها في أزقة ضيّقة حتى دخلا بيتا فخما مبهرا في أناقته وفي فرشه وأثاثه. فصرّحت له أنها تتعمّد إذلال الرجال، فتحدثت إليه من عل، واقفةً فيما هو جالس. وبعد أن أغوته وحرّكت كلّ مشاعره الحسيّة دعته إلى مغادرة البيت فورا. (انظر: الفصل التاسع عشر من الرواية، ص191-200)
لقد اعتاد في يافا أن يكون محط أنظار النساء الجميلات، اللواتي يتهافتن للنظر إليه والاجتماع به. هناك هو الفاتن الساحر، وهنا في الشام هو المسحور، في يافا هو القويّ، وهنا في دمشق هو المستضعَف، هناك في يافا الحب الطاهر العفيف، وهنا، في دمشق، الغواية والشبق الحسي. هناك البيت وهنا الغربة.
ورغم أنّ فضاء الشام غنيّ بموقعه وتراثه وتاريخه، بحيث أصبح مركز لقاء هام بين أقصى الشرق والغرب، فيه مساجد وكنائس وأسواق وحانات وخانات، وبرغم كونه فضاء مفتوحا على عوالم عدة، وغنيا بنبته وورده ولباسه وطعامه وشرابه، إلا أن أحوال يوسف تتبدّل، ولا تكون هي ذاتها كما كان في يافا. ففي يافا هو الفتى الذي يُغوي النساء، وفيها “العيطموس” كاملة الأناقة، رقيقة المشاعر، التي تتعامل معه بحسها المرهف وبجمالها الروحي. بينما هنا تتمكّن فتاة مجهولة الهوية تنبعث منها رائحة ساحرة جذابة من اقتياده خلفها، فيسير دون وعي في أزقة ضيقة كمن يسير مبهورا دون وعي، حتى أدخلته بيتا أنيقا ساحرا أشبه ببيوت ألف ليلة وليلة وقصورها، تختفي ثم تعود بعد أن تكون قد خلعت جزءا من ملابسها الملوكية، حتى بدت شبه عارية، لكنه يراها، وهي على هذه الحال، حيّة قاتلة ذات ناب أزرق، ولما سألها من أنت “أجابته بدلال: أنا الملكة.. أبحث في رعيتي من الرجال عمّن هو أكثر وسامة وأكثر جمالا وأكثر رجولة وأصطاده وأروضه، وأتزوجه، وأقيم له حفل زفاف، وأقتله ليلتها، أميته موتا لذيذا، وأستمتع أكثر في لحظات احتضاره”. (الرواية، ص197)
تبدلت الحال وباتت المرأة أشبه بشهريار، والرجل أشبه بشهرزاد، وبعد أن كان في كامل جبروته وقوته الجسدية والروحية، أصبح هنا في الغربة فاقدا حريته وسلطته، يسير من فشل إلى آخر في تجاربه النسائية، رغم سحره الشرقي، لكن هذه التجارب القاسية كانت كفيلة لأن تجعله يعود إلى ذاته ليكتشف سرّ ضعفه ومصدر قوته، في آن معا. فالغربة، بما فيها من صعاب، قد تودي إلى طريقين؛ إحداهما إلى الضياع، والثانية إلى اكتشاف الذات. يوسف كان مسلحا بيافا، بكل ما فيها من حضارة وثقافة، يافا تسكنه ويسكنها وكانت ترعاه وتحافظ عليه في غربته فزوّدته بالقوة والإرادة.
يأتيه الخلاص حين يلتقي صدفة بالرجلين الهنديين؛ المسلم والسيخي، فيثيران فيه حب السفر وركوب الريح، بعد أن سمع منهما، ومن غيرهما أخبار الشرق والغرب، من الصين حتى بلاد الغال، وذلك في لقاء جمعهم في باحة خان دمشقي يحضره تجّار من بلاد شتى، رأى ضيوفا وتجّارا يلبسون ثيابهم التقليدية، يتحدثون عن بلادهم وجمالها وجمال نسائها، استمع إلى غنائهم وأعجب بعزفهم، رغم جهله للغتهم، فدخل إلى قلبه الفرح، “كان ممتلئا بسلام نفسيّ وسكينة غامرة ويقظة تغريه بالتأمل”. (الرواية، ص206) ص إن هذا اللقاء يمثل نقطة تحوّل هامة في حياة يوسف، وما كان ذلك ليحصل لولا كونه مهيّأً، من قبلُ، للتواصل مع الآخر، ولولا الثقافة الواسعة الشاملة التي اكتسبها في يافا واتسعت أكثر في دمشق الشام.
يستجيب يوسف لطلب الرجلين الهنديين، وينضم إلى القافلة التي تسير في طريق طويل حافل بالمشاهد والتجارب، حتى وصلوا إلى الأناضول. وبات، بعد التدرُّب عند الحكيم الهندي، قادرا على التحكّم بذاته، وبقوته الخارقة من خلال العقل والتأمّل. إن وجوده، ضمن هذا المكان، بما فيه من معالم خارجية ساحرة، ومن أجواء صوفيّة، قد ساهم في اكتشاف حقيقة ذاته؛ عرف، لأول مرة في حياته، أن القوة الكامنة به تابعة له وليست لقرينه، كما كان يعتقد. أصبح يوسف أكثر وعيا وتحرّرا فنظر إلى الجوهر، لا إلى المظهر. ولما سمع من الحكيم الهنديّ عن حملة نابليون، وما عاثه من قتل وتدمير، ترك الأناضول على جناح السرعة، وعاد إلى يافا، إلى المكان الأساس وإلى القضية الجوهرية، وهي طرد نابليون العدو الذي جاء ليبدّل ويغيّر معالم المكان وجوهره ومكانته.
لقد ارتبط يوسف اليافاوي بالميناء والبرج، وبكل حارة من حارات يافا، وبأزقتها وبيوتها. وحين رجع ورأى ما تركته حملة نابليون من تغيير معالم المكان، كان همّه الأول هو إعادة بناء المدينة لتعود إلى سالف عزها وشكلها. فانتهت الرواية وباب الأمل مفتوح على مصراعيه، على الصعيد العام وعلى الصعيد الخاص. يوسف قد اكتشف قوته النابعة من ذاته، لا من ذاك القرين المتوهَّم، وجنّد كل ما اكتسب للحفاظ على المكان الأهم، مدينته يافا الجميلة والعريقة، وحظي من حبيبته بقبلة موعودة لم تحرق خدّها، كما حدث له في مغامرته الأولى، لأنه بات إنسانا آخر يدرك جوهر الحياة وجوهر المرأة وجوهر ذاته. أما على الصعيد العام فإن يوسف وأهل يافا فقادرون على بنائها لتعود إلى الحياة من جديد كطائر الفينيق.
خلاصة
لقد بنى الروائي يحيى يخلف روايته بصورة محكمة، إذ قام بتشكيل فضاء يافا الغنيّ، بحضارته وثقافته، وأشبعه وصفا، بحيث جعل القارئ يحسّ بمكانة هذه المدينة وأهميّة دورها، وانتهت الرواية باجتماع الشباب لإعادة بنائها، بعد عيث الخراب في بيوتها وأسواقها، وقتل أكثر من أربعة آلاف من أبنائها، وانتشار مرض الطاعون الفتاك. وبذلك اكتملت الصورة وتكشفت العلاقة الوثقى بين المكان والإنسان، فإذا كان المكان يحدّد صورة الإنسان ويؤثّر فيه، فإن الإنسان، كذلك، قادر على التأثير في المكان، وتغيير شكله وجوهره وإحيائه وبعثه من جديد. وبما أنّ يافا هي البيت الدافئ، فقد تحرّك يوسف وأهلها بدافع الارتباط العاطفي لإعادة بنائها. فبدت الأمكنة جزءا من الشخصيات، والشخصيات جزءا من الأمكنة يتبادلان التأثير والتأثّر ويكمل أحدهما الآخر.
اهتم كتاب الرواية الواقعية بتصوير المكان بصورة مشاكلة للواقع، لكنه، في روايتنا، لا يشاكل الواقع، ومع ذلك فهو يبدو في عين القارئ واقعيا، لأنه يحقق حيلة الفنان المبدع في عملية “الإيهام بالواقع”. فصورة يافا؛ بأسواقها وقصورها وناسها على اختلاف مشاربهم، وقيانها وجواريها، وتحرك الشخوص في إطار الأمكنة المتعددة في الشام والأناضول، أقرب إلى “واقعية” ألف ليلة وليلة.
تتجلى قدرة الروائي وفرادته في رسم عوالم متكاملة أشبه بلوحة فنية قابلة للتشظي، كلما نظرت إليها اكتشفت بعدا جديدا فيها، فتحوّلت يافا، من مجرد مدينة، إلى رمز للمكان الأوسع والأشمل، وكما أن حيفا ليست مجرد مدينة في رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”، بل رمز أوسع وأشمل، هكذا هي يافا في رواية يخلف “راكب الريح”.
يتعرف القارئ على الشخصيات بشكل تدريجي، إذ يرسم الروائي صورتها الخارجية من هيئة وملبس، ثم يتغلغل في ثناياها، عبر التقنيّات الفنيّة، فيبنيها حتى تنضج، فتبدو في عين القارئ مخلوقا حيا ومعافى، بفضل الحوار والمونولوجات والأحلام التي تصل حد الفانتازيا. وقد انعكس ذلك في بناء الشخصية المركزية، إذ يشعر القارئ، بعد الانتهاء من قراءة الرواية، أنّ شخصية يوسف مكتملة ومشبعة بكل المواصفات، حيث حملت، في صغرها، مواصفات الفتى المغامر في البحر، النجيب، الذكي والطموح، فتحقق الأمران في مرحلة لاحقة من مراحل بناء الرواية؛ اكتمل جسده مع اكتمال فكره واكتشاف كنه ذاته. غامر وأخطأ في صغره، وتابع في ذلك حتى اكتسب حكمة الحياة، من خلال التجارب، ومن خلال التنقلات بين أماكن عدة، فضلا عن احتكاكه بشخصيات مؤثّرة أهمها “العيطموس” والحكيم الهندي. فبدت الشخصية محكمة البناء.
نؤكّد، في هذا السياق، أن رواية “راكب الريح” ليست رواية تقليدية، رغم مبناها، بل على العكس هي رواية تجمع بين الواقع والخيال وبعض الفانتازيا. وعليه فإنا نرى أنّ الروائي يحيى يخلف قد تعدّى تجاربه السابقة باتجاه الحداثة، فقد فتح باب الخيال على مصراعيه وجعل الفانتازيا قريبة من الواقع. كما جنّد العديد من الوسائل لفتح أفق الرواية لتبدو رواية ديالوجية. وبالرغم من سيطرة الراوي المشرف الكلي المعلّق، إلا أنّ القارئ يتوه وسط الأصوات المتعددة، وذلك بفضل التشكيل اللغوي الذي يتلاءم مع تعدد الفضاءات والشخصيات، وبفضل التقنيّات الأخرى التي أتينا على ذكرها.
للرواية أبعاد عدة مهمة، منها البعد الفكري، إذ يرى القارئ أن التغيير المنشود الذي يحقّق الذات العربية، ويضعها في مكانها السليم، هو في التحرر الفكري والعقائدي، لذلك ليس عفوا أنّ بطل القصة رسّام وخطّاط وجوّال آفاق، يحارب في الداخل، كما يحارب في الخارج. ورغم كونه راكب الريح، إلا أنه ليس مجرد سندباد عربي مغامر فحسب، بل هو الإنسان الفلسطيني الذي آثر العودة، بعد رحلة الاستشفاء في الأناضول، إلى يافا الجريحة المصابة بوباء الطاعون، فيشارك مع الثوار والجنود، من أجل طرد الغريب، وإعادة بناء البلد من جديد. ومن هنا نرى يوسف، الباحث عن الحكمة، يلتقي بالحكيم الهندي وينسخ كتابه ليرسله صاحبه إلى الغرب حاملا رسالة الشرق للغرب: تعالوا لنعيش معا في ظل حكمتنا وحكمتكم، وفي ظل حضارتينا، دون سيطرة إحداها على الأخرى.
لم تنته الرواية باكتساب يوسف المعركة، كما يتمنى القارئ العادي، بل إننا نرى أن يوسف قد ساهم في فتح كوة للحوار بين الشعوب والأديان، وبين الشرق والغرب، عبر مساهمته في كتاب الحكيم الهندي “الشرق حكمة ومحبة وسلام”. (الرواية، ص249) يتحول بطل الرواية إلى رمز ومثال للفتى الفلسطيني الباحث عن الحق في الحياة الحرة الكريمة، الحافلة بالحكمة والعلم والفن الراقي. فالحياة ستكون فارغة ومنقوصة بدون الفن؛ من رسم ونقش وخط وغناء ورقص وجمال أنثوي؛ داخلي وخارجي. ورغم الجانب العاطفي الهام في الرواية، إلا أن همّ يوسف الأول هو تحقيق الذات وطرد الغازي الغريب، ممثلا بنابليون وجيشه، وإعادةُ إعمار يافا، من خلال العمل الجماعي، لا العمل الفردي. لذلك لا تنتهي الرواية كنهاية الروايات التقليدية، ولا يجتمع الحبيبان ليبنيا عش الزوجية، بل تنتهي وقد تجمّع الشباب الثائر من أجل إعادة إعمار يافا.
المراجع
باختين، 1990 باختين، ميخائيل (1990)، أشكال المكان والزمان في الرواية، ترجمة يوسف حلاق، دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
بحراوي، 1990 بحراوي، حسن (1990)، بنية الشكل الروائي، بيروت، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
بحراوي، 2002 بحراوي، حسن (2002)، “مقدمة كتاب الفضاء الروائي”، في كتاب الفضاء الروائي، تأليف مجموعة من الباحثين، ترجمة عبد الرحيم حزل، الدار البيضاء، بيروت: افريقيا الشرق.
بورنوف، و أويلي، 2002 بورنوف، رولان، وأويلي، ريال (2002)، “معضلات الفضاء”، في كتاب الفضاء الروائي، تأليف مجموعة من الباحثين، ترجمة عبد الرحيم حزل، الدار البيضاء، بيروت: افريقيا الشرق.
بيلي، انجيلا، “الواقعية السحرية كيف نفهمها”، ترجمة خضير اللامي، مجلة الروائي، alrowaee.com/article.php?=298
24.12.2008
تنفو، 2010 تنفو، محمد 2010)، النص العجائبي، مائة ليلة وليلة أنموذجا. دمشق: دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع.
جولدمان، 1984 جولدمان، لوسيان (1984)، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ترجمة، محمد سبيلا، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.
جولدنستين، 2002 جولدنستين، ج، ب (2002)، “الفضاء الروائي”، في كتاب الفضاء الروائي، تأليف مجموعة من الباحثين، ترجمة عبد الرحيم حزل، الدار البيضاء، بيروت: افريقيا الشرق.
جينيت، 2002 جينيت، جيرار (2002)، “الأدب والفضاء”، في كتاب الفضاء الروائي، تأليف مجموعة من الباحثين، ترجمة عبد الرحيم حزل الدار البيضاء، بيروت: افريقيا الشرق.
الغذامي، 1993 الغذامي، عبدالله (1993)، ثقافة الأسئلة، ط2، الكويت: دار سعاد الصباح.
حافظ، 1984 حافظ، صبري (1984)، “مالك الحزين”- الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية”، فصول، مج4، عدد4، ص159-179.
لحمداني، 1991 لحمداني، حميد (1991)، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، بيروت: المركز الثقافي العربي.
الماكري، 1991 الماكري، محمد (1991)، الشكل والخطاب، مدخل لتحليل ظاهراتي، بيروت: المركز الثقافي العربي.
مرتاض، 1998 مرتاض، عبد الملك (1998)، في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد، الكويت: سلسلة عالم المعرفة.
موسى، 1993 موسى، إبراهيم (1993)، “جماليات التشكيل الزماني والمكاني في رواية الحواف”، فصول، مجلد 12 عدد 2، ص302-316.
النصير، 1986 النصير، ياسين (1986)، إشكالية المكان في النص الأدبي، بغداد: دار الشؤون الثقافية.
يخلف، 2016 يخلف، يحيى (2016)، راكب الريح، عمان- رام الله: دار الشروق.
Wellek,1966 Wellek Rene, Warren, Austin, (1966), Theory of Literature, Harmondsworth: Penguin Books Ltd.
د. رياض كامل