“سيزيف وبحار”
تاريخ النشر: 22/07/19 | 12:17بقلم : أ. جريس خوري
نص المداخلة التي القاها البروفيسور جريس خوري في أمسية اشهار ديوان الشاعر أسيد عيساوي ” سيزيف وبحار ” في الثامن والعشرين من حزيران 2019
أبو النمر وشهادة له… (العمل الدؤوب، الوطنية، الإصرار على الإصلاح، الثقافة…)؛ وبعد.
سأبدأ بطريقة غير اعتيادية…
سيزيف…
ها أنا ذا أيّها الربّ زيوس!
سيزيف ماذا قلت عنّي؟!
قلتُ كلّ الحقّ أنت ربّ الكلّ، والمجد لك والكلّ لك
سيزيف يا سيزيف إنّ قد وهبتك الذكاء فمتى انحرفتَ إلى الدهاءْ!
عرش أخيك من خوّلك أن تسبيه؟
أنت سيّدي والسيّد للعبد مثال… أكثير على العبد أن يقتفي أثر المعبود؟
سيزيف الماكر… أتعتقد بلسانك المنقوع في سمّ الأفاعي تُسكر زيوس!
أسراري، نزواتي لم أمطت عنها اللثام؟ من خوّلك تخدشُ طُهر الربّ… تنفث على تمثاله زفيرك المسموم! سيزيف يا أدهى البشر! أيّها العبد الناشز عن قطيع الوعول
ملعون أنت! فاهبط للعالم السفليّ… وادفع بكفّيك صخرتك إلى الأبد… إلى قمّة الجبل
رغبةَ أن تصل… ولن تصل!
آثرت أن أبدأ مداخلتي بهذه الترجمة الذاتيّة لمأساة سيزيف المشهورة، التي انتقلت من حضارة اليونان إلى كتب العلوم المختلفة، وفي رأسها علم النفس، حتّى بتنا نعرف اليوم المصطلح “عمل سيزيفيّ” لكلّ عمل فيه الكثير من الطاقة، دون نتائج أو ثمار. نعم أعزّائي، في مرآة هذه المأساة انعكست كلّ مآسي البشر، وعلى هذه المأساة بالذات أسّس الكاتب أسيد عيساوي كتابه “سيزيف وبحار”. سوى أنّ سيزيف أسيد هو كنعان… كأنّي به يؤكّد حضور الأسطورة في الواقع والواقع في الأسطورة، ما يبيّن بشكل لا يقبل الجدل عظم المأساة التي يحياها واقعنا، وشدّة المفارقة التي ينطوي عليها! فما كنت تراه أسطورة بعيدة المنال، تجلّى واقعًا، قد تكون ظروفه، وشخوصه مغايرة، غير أنّ أحداثه متكرّرة غير متبدّلة. فالشعب الفلسطيني، في نظر أسيد، هو سيزيف الجديد، الذي يحمل شقاءه كلّ مرة من جديد، وما أن يقترب من الوصول حتّى يأتيه أمر من علٍ بأن… اسقط! إنّ فعل السقوط مخيّب، ولكنّ فعل تجديد النشاط هو بارق من أمل يتركه الكاتب لنا، لتكون خلاصة هذا الواقع وتلك الأسطورة كلمة واحدة: “الإرادة”! ومع الإرادة ستسقط القمّة، تحت أقدام كنعان.
أنا ألتزم في معظم أبحاثي بالتنقيب العلميّ البنيويّ عن النصوص، ووفق هذا المنهج عليك أن تتجاهل ارتباطات الكاتب بواقعه وأن تعزل النصّ عن أيّ مدلول خارج أدبيّ خلفه؛ وأنا بمحض الصداقة أدرى بميول أبي نمر الوطنيّة، خاصّة انشداهه عشقه لتراب الوطن، وصدق إنسانيّته، وعمق وعيه الوطنيّ، وشغفه بالرموز الوطنيّة وفي رأسها شخص جمال عبد الناصر (ومن منّا غير مشدوه به؟!)؛ لكنّني إخلاصًا لمهنتي كمنقّب لا عن الحقيقة بل عن التقنيات والأساليب والعلامات اللغوية، سأتجاهل كلّ هذا وأترك الدلالات للقرّاء أنفسهم وأتخصّص في الحديث عن أداء النصّ! عن مجمل الأمور التقنية التي جعلت النصّ أدبًا، والأدب شعرًا. وكي أحصر هذا العرض في سياق الزمن المخصّص لي، أوضّح أنّني أتناول الجوانب التالية، تناولا مبنيا على ثنائيات متعارضة:
الأسطورة والشعر بين سيزيف وكنعان!
صوت الشاعر وصدى الشعراء
بين الوعي واللاوعي- القلب أم العقل!
بين سيزيف وكنعان:
حقيقة فإنّ الأسطورة باتت جزءا لا يتجزّأ من الشعر العربيّ منذ أن ترجم الشاعر، الكاتب والمفكر الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا كتاب الغصن الذهبي لجيمس فريزر. لقد أعلن السياب إعجابه به، وسارع إلى قراءته وتوظيف الكثير ممّا جاء فيه، واحتفى به أدونيس أيّما احتفاء، وكان ممّا زوّده بطاقة ترميزية ساهمت في خلق ثورة في مجال الرمز في الشعر الحديث. مهما يكن فإنّ المحور الحقيقيّ لنقطة الجدل التي أطرحها هي: ما الأسطورة وما الشعر وما قيمة كلّ منهما والتناسب بينهما؟ في الحقيقة فإنّ الآراء في هذا المجال متعارضة! ففي حين يرى البعض أنّ الأسطورة أمّ الفنون القوليّة جميعًا، ومنها استلهم الشعراء! يرى الكثيرون اليوم خاصّة في ما بعد الحداثة التي وطّدت أعمدتَها المدرسة الفرنسية وفي رأسها جاك دريدا أنّ الشعر أسبق! وأن الفلسفة والأسطورة كلتيهما ليستا إلا خطابا شعريا من نوع خاصّ، أما الشعر فأسبق وأعمق وأوسع وأرفع! مهما يكن.. أرى أنّ هذه المقدّمة هامّة للتمهيد للنقطة الأولى التي نطرحها عبر مداخلتنا هذه والمرتبطة بالتعالق بين الأسطورة والشعر في نصّ أسيد. فإنّ هذا التعالق يفرض ذاته على نصوص الكتاب جميعًا، منذ عنوان الكتاب، وهو العتبة الأولى التي توحي بما سيتشكّل منه الكتاب، ولغاية كلماته الأخيرة. سيزيف وبحار! سيزيف ذاك المتمرّد، الذي عوقب لدهائه واستخدامه لمنتهى طاقته الفكرية استخداما خارجا عن القانون. والبحار التي كثر ورودها في النصوص العربية شعرا ونثرا، من ألف ليلة وليلة وصولا لشعر السياب والبياتي وغيرهما من الشعراء الذين عانوا الغربة والتشرّد والبعاد. إنّ جمع سيزيف المعاقب أصلا مع البِحار يجعل الألم الموصوف في الكتاب أضعاف ذاك الألم الأسطوريّ الذي غدا علامة فارقة على جبين الزمن. فهذا السيزيف الجديد، كنعان، القابع في أرض فلسطين، هو البطل الأسطوري الجديد، والدرجة التي وصلتها مأساته تخوّله أن يحتلّ مكانة سيزيف نفسه. هكذا يقدّم الشاعر كنعان بديلا عن سيزيف في عصرنا الحاليّ. حقيقة فإنّي وجدت تعامل الشاعر مع الرموز الأسطورية متطوّرًا، إذ يطوّع أربع تقنيّات مختلفة في تحقيقه، أعرض الموجب فيها والتوجيه المتواضع:
الإلماع- ونعني به ذكر الرمز ذكرا عابرا، أو التلميح به؛ وقد رصدت لدى الشاعر ما يزيد عن الأربعين رمزًا مختلفا ألمع إليها الشاعر، أحيانا بشكل طبيعي مرغوب (قراءة ص 15)، وأحيانا بشكل مكثّف مطلوب. وعلى كلّ حال وجب في نظم الأسطورة أن نتوخى الحذر فلا ننزلق في مهاوي التكلّف، كما حدث مع الكثير من شعراء الحداثة وفي رأسهم السياب وأذكر “مرثية الآلهة”؛ فإنّ الإغراق في توظيف الأسماء والرموز دون طائل قد يجعل النصّ متاهة ثقافيّة لا نبض فيها.
المحاكاة- وهي أكثر إبداعًا، وأعقد تركيبا من سابقتها؛ ونعني بها أن ينقل الكاتب نصّ الأسطورة نقلا مغايرا، منساقا خلف الدلالات الحاضرة الخاصّة التي لديه؛ هنا يغدو الرمز قصّة، والأسلوب قد يتحوّل من الغنائيّة الواصفة التقليدية إلى الدراميّة التي تحاكي في حركتها نبض التراجيديات اليونانية. (مثال: سيزيف وكنعان ص 6). أمّا نصيحتي فهي… بما أنّك اخترت الانطلاق نحو سرديّة الأسطورة فعليك التحرر من هيمنة الإيقاع الغنائيّ، لأنّ هذا يحدّ من تدفّق ذاك. لقد جاءت قصيدة التفعيلة في الخمسينات استجابة لرغبة العربي في محو الحدود بين الشعوب العربيّة، وبين التصنيفات السياسية والاجتماعية ذات الطابع البطركيّ، وبين الفنون الأدبية جميعا. عليه تخلى الشعراء عن القافية قدر المستطاع، وبهذا فتحوا الحدود بين الأبيات مما تمخض عنه انفتاح بين الشعر والنثر، والسرد والغناء، الأمر الذي تطوّر مع انتشار القصيدة النثرية لاحقا. لذلك فلم أر مسوّغًا للتمسك بالقافية في معظم النصوص مع تخلّيك عن الوزن الخليليّ، وتلك لا تأتي إلا مع هذا! وفي نظري الكثير من نصوصك المنسابة خلف السرد جاءت جميلة معبرة، ولكن في بعض النصوص الأخرى كان التخلي عن القافية سيتيح المجال أمام أفكارك ومشاعرك والأحداث عامة لتتدفق بيسر ودون عوائق.
الدمج- ونعني به دمج الأساطير في ما بينها، من خلال إيجاد المقام المشترك، وتشذيب كلّ أسطورة ممّا يمكن أن يجافي أختَها، لتتّحدا معا وتشكّلا طاقة تعبيريّة هائلة. وهذا الدمج دليل مصالحة بين التراثات المختلفة، وتعبير انفتاح من قبل الشاعر، يزوّد القارئ بنوع من الطمأنينة والسلام، ويشعره بموضوعية الطرح. وهذا حدث في بعض القصائد، خاصّة دمج زرقاء اليمامة بزيوس وأرسطو وأفلاطون وغيرهم في النصّ نفسه. (بحرين وخليج وهذه قصتي. ص 112).
الابتكار- حين التقيت الشاعر عز الدين المناصرة قبل سنوات في عمّان وسألته عن جفرا قال لي: الفرق بيني وبين السياب أنّ الأخير ينقل الأساطير، أمّا أنا فأصنعها”. وكان يعني أنّه يأخذ العادي واليوميّ أو الشعبيّ ويحوّله بأساليبه الخاصّة إلى عجيب! أسطوريّ، خاصّ… وهي مهمّة أبعد شأوًا من مجرّد النقل. فعل المناصرة ذلك حقا عبر كمّ كبير من شعره خاصّة ذاك الذي استوحى فيه شخصيّة جفرا الفلسطينيّة. وسنترك المناصرة الآن لأنه ستكون لنا معه وقفة في النقطة الثانية هنا. الشاعر أسيد عبر بعض شعره هنا، أراه كمن قلبُه على الوطن وعقله منشغل في الثقافة التي تراوده، يتخير منها ما يمكن أن يشكّل بديلا شعريا للحسّ الوطنيّ الشفاف. وهو ما أسماه إليوت المعادل الموضوعي وعرّفه على أنّه البديل الثقافي الذي يشكّل قناعا للشعور الواقعي المباشر، وهو يخوّل الشاعر أن يقول ما يرغب دون ابتذال ووضوح. فعل أسيد ذلك في معظم الأماكن لا كلّها، ولعلّه في أماكن محدودة ابتكر رموزه بيده، فجسّد نظريته في ما يتعلق بالمأساة الفلسطينية على شكل أسطورة خاصّة، فامتنع عن الإسفاف من ناحية، وضمن لرسالته أن تصل وصولا شاعريا من ناحية ثانية. إنّ تحوير شخصيّة زيوس إلى زيونس مثلا مع ما يربط الاسم الجديد بالصهيونية، هو تنبّه ذكيّ من قبل الشاعر، ولكن الابتكار لا يتوقّف عند مجرّد التحوير بل يتعدّاه إلى خلق أسطورة جديدة، هي أسطورة الشاعر، أسطورة فلسطين كلّها، ومثال ذلك: سيزيف وكنعان/ مدي ذراعك يا جفرا/ الذئب والنملة/ اسمك على ألواح مكتوب. وهنا أيضًا لي نصيحة، وهي أن تبقي للأسطورة غطاءها الضبابيّ، لا تعترف ولا تترك جملا مبتذلة قد تعكّر على القارئ متعة الحيرة والارتباك، فأحيانا يشعر الشاعر أنّه ضاق ذرعا بالتنميق والترميز ويريد أن يصرخ! فإن لم يتمالك انفعالاته في هذه النقطة الحاسمة قد ينهدم بناؤه كاملا؛ في نصوصك لم يحدث هذا كثيرا، فقد حافظت معظم النصوص على رونق الدهشة، وهذا يحدث عن طريق الحفاظ على ضميرك الفنيّ صاحيا (ص 25).
2- صوت الشاعر وصدى الشعراء: يقول إليوت في حديثه عن الموهبة الفردية والتقليد: “لا يمكن للشاعر إلا أن يعيش في ظلّ سابقيه، وعلى الشاعر الجيّد أن يعرف كيف يموضع شعره بين سلسلة أشعار السابقين والحاضرين، ليكون جزءا من التراث، وهو يفعل ذلك إذا توفر لديه الحسّ التاريخيّ (historical sense). ثقافة أسيد بادية للعيان، إلى هذه اللحظة ما زلت أعزل نفسي عن الصداقة لأنني في قبعة الباحث الآن، لكن دعوني أخلع القبعة قليلا وأقول: أسيد مثقف لدرجة تبعث الغَيرة الموجبة في القلب! كلّما زرته في حانوته وجدته يحتضن كتابا جديدا، مرة من حقل السياسة وأخرى الأدب، بالعربية مرة والعبرية أخرى… أنه قارئ نهم، والشاعر الجيّد، أو فلأكن منصفا الكاتب الجيّد، في عُرفي هو بالأساس قارئ جيّد! أعيد قبّعة الباحث من جديد لأؤكّد أنّ كلّ من تناول التناص والتثاقف في تنظيره أكّد أن لا أصالة في النصوص وأنها كلّها تأخذ بعضها من بعض، وهذا واجب بل هو قدر محتوم إلى درجة أن بالغ أحد المنظرين بقوله: كل كلمة في أيّ نصّ هي تناصّ! في هذا الجانب سأتوقّف عند نمط واحد من أنماط التناصّ الكثيرة هنا، وهو صدى الشعراء في صوت الشاعر. لدى أسيد ثقافة عربيّة أصيلة، قديمها وجديدها، وهو بهذا التوجّه لتراثه يعيد له اعتباره، ويؤكّد على غناه، وقدرته على تزويد الشاعر بالوحي، كما أنّه يضع نصّه في حضن النصوص العربية القديمة والحديثة، ويحاول من خلال ذلك أن يرى حركة النصّ في السياق الثقافيّ العام، وطبيعة حضوره في المشهد الشعريّ. وهذا يمكننا أن نلمسه على امتداد الكتاب، حيث يتصاعد صوت طرفة بن العبد، وعنترة بن شدّاد، وولّادة، وابن زيدون وغيرهم؛ وتتّصل أصوات السلَف بأصوات الخلَف عن طريق استحضار الكثير من أصوات الشعراء في العصر الحديث، وبشكل خاصّ شعراء المقاومة الذين من البديهي أن يتماهى الشاعر معهم، ففي عبارة: “فنحن إن تألمنا وتوجعنا نطحن عظم المغتصب” سمعت درويشًا وهو يقول: “ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي”؛ وفي النصوص التي وظّفت فيها جفرا (لا تقلّ عن أربعة نصوص) وبعض نباتات ومعالم فلسطين شعرت بنكهة شعر عز الدين المناصرة خاصّة في رعويّاته، وفي عبارة: “حملت دمي على كفي” أصخيت لصراخ عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان، كما رأيت توفيق زيّاد حاضرا في الكثير من عبارات أسيد، خاصّة تلك التي تؤكّد على الإصرار والتمسّك وعدم الرحيل.
3- بين القلب والعقل:
من البادي للعيان شغف الشاعر بوطنه، فهو على امتداد الكتاب يتعامل معه تعامل العاشق مع عشيقته: اقتراب، حبّ، ملامسة، حنان، تضحية وما إلى ذلك. وهنا وقفت على معادلة مثيرة في شعر أسيد هي: المراوحة في شعره بين الوعي واللاوعي، أو الفنّ والعاطفة، أو العقل والقلب؛ أعني أن قصائد الشاعر عامّة تتذبذب بين مستويين: مستوى الوعي المحكوم بالمنطق والفنّ والعقل، وعنه تصدر النصوص أسطورية رمزية محكمة مرغوبة على مستوى التلقّي الفنّي؛ ومستوى الحلم واللاوعي والشرود الرومانسيّ، وفيه يكون التعبير منساقًا خلف القلب والعاطفة، ويأتي فيه التعبير سلسا، والصور متناسقة. وفي رأيي الذوقيّ الآن، أرى أنّ الشاعر أبدع في الثانية أكثر من الأولى، وفرض موهبته الشعريّة، وأعطى دليلا عليها؛ يكفي أن تقرأ لديه هذه العبارة وسط كمّ من الرموز حتّى تفهم أنّ الشاعرية جزء من قريحته: “ماذا لو فكّرت بها نهاري كلَّه/ وليلي كان لنهاري ظلَّه؟! (ص 62). باختصار في مجال الحبّ والعشق، شاعرنا مبدع! وها أنا أهمس في أذنه: توسّع في تطوير موهبتك عبر قناة المشاعر، إذ لك في هذا السبيل نصيب وافر من الموهبة، تعالي ص 31- أجملها.
خلاصة: هي تجربة أولى، اعتلى فيها أسيد الحداثة من أرفع درجاتها، وقلّما حدث ذلك لشاعر في باكورته، ولعلّ الثقافة الواسعة والانفتاح التي يتحلّى بها الشاعر أسيد كانت ذاك الوقود الذي أشعل به أسيد حقل تجربته الشعرية. دمج الشاعر بين الثقافات العالمية المختلفة، ومشاعره ومواقفه الخاصة، فخرج بعمل فنّيّ هادف، فلم تأت رموزه خاوية بلا عصب كالكثير من العصافات الشعرية التي ذهبت بها الرياح… بل غنيّة، سمينة، ترسم الوطن أسطورة، ليبقى ثابتا على مرّ الزمن، راسخا رغم آلات الحفر في التاريخ التي تحاول اقتلاعه. أظهر الشاعر إلماما بالثقافة العربيّة (زرقاء، ابن زيدون، الأندرين، جفرا…) والغربيّة بمختلف رموزها، والثقافة الدينية الإسلامية (سورة الفلق مثلا وغيرها الكثير) والمسيحية (لن يترك حجرعلى حجر لن ينقض…)، والثقافة الشعريّة والأسطورية والدرامية… ممّا جعل شعره موسوعة لهذه الرموز كلّها، تستحث القارئ على التثقّف، ليكون في قامة ما يقدّم له. أرى أنّ بعض النصوص كان بالإمكان التعامل بقسوة أكبر معها، لكن هذا هو اختيار الشاعر الذي نحترمه عليه، لأننا بالمجمل العام أمام كتاب مميّز وطرح جدير.