التطبيع جريمة!!
تاريخ النشر: 24/07/19 | 20:42منذ مدّة قريبة، زارنا في حيفا كاتب صديق من المغرب العربيّ، كان لنا لقاء ثقافيّ حميميّ، التقط خلاله الصور مع حيفا وبحرها…وأهلها وباغتنا عند الوداع بطلب “متواضع”: “الرجاء عدم نشر الصور وتعميمها”! وحين سألناه سبب ذلك أجاب أنّه يخاف تهمة التطبيع ممّا يُسبّب له المشاكل عند تجواله بأرجاء الوطن العربي وربّما يؤثّر سلبًا على مبيعات رواياته؟!؟
لا يا صديقي – هذا ليس تطبيعًا!!!
التطبيع هو جعل ما هو غير طبيعي طبيعيًّا وهذا لا ينطبق على التواصل مع أهلنا في الشتات وإخوتنا في العالم العربيّ حتى لو مرّوا عبر الحاجز الإسرائيلي!
إخوتنا في الشتات يتحسّرون على ما فات، على ما ضاع من وطنٍ وأرض وما قدّموا من دماء وتضحيات لا زالت تُنير دروب السالكين نحو الحريّة، ولكن كما قال أخي د. يوسف عراقي حين التقى طلاب كلية مار الياس: “الحجر بأرضه قنطار”، فالآباء والأجداد يحكون حكايات الوطن الجنة، أرض الزيت والزيتون، والعسل والبيارات الخضراء وينابيع الماء، وقطيع الأغنام… حكايات تُلهب الذاكرة بوجع يتجدّد مع كل ذكرى… وشوق يحرق مع كل شمس… وأمل ينمو مع كل قطرة دم … ونحن الأمل. نحن الحجر، نحن الوتد وهنا باقون! وكما أنشد الراحل توفيق زيّاد:
أنا ما هُنتُ في وطني ولا صغَّرتُ أكتافي
وقفتُ بوجهِ ظُلّامي
يتيمًا، عاريًا، حافي
حملتُ دمي على كفّي
وما نكّستُ أعلامي
وصنتُ العشبَ الأخضر فوق قبورِ أسلافي
قال لي ثمانينيّ من تلّ الزعتر في برلين: “اللي بخرج من داره بِقلّ مقداره”، بغضّ النظر إن ترك أرضه ووطنه طواعية أم قسرا، إلى أرض لم يألفها “كنخلة”، تمامًا كنخلة عبدالرحمن الداخل – صقر قريش، مؤسّس الدولة الأمويّة في الاندلس، والتي جيء بها من المشرق بناء على طلبه، ليزرعها في رصافة الأندلس، فعاشا غريبين هناك، وكان مرآها يهيّج مشاعره، وكانت غربتها تذكّره بغربته رغم مظاهر الملك والرئاسة، التي تخفي تحتها قلبًا رقيقًا غريبًا:
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلـــةٌ .. تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
لا أستسيغ كلمة التواصل مع الأخوة في الشتات لأنّنا شعب واحد، الشعب العربي الفلسطينيّ، نعتزّ بعروبتنا وفلسطينيّتنا على حد سواء، تجمعنا الهويّة الواحدة ونحن لا نستطيع أن نتواصل مع أنفسنا بل مع الآخر.
من هذا المنطلق بادرنا بحينه في نادي حيفا الثقافي بتكثيف حضور إخوتنا من شتّى أرجاء الوطن والشتات، فلم نعد نؤمن أنّ للبرتقالة شقّين، نحن جناحا الوطن، وليعذرني سميح ومحمود، فأحمد دحبور، يحيى يخلف، عائشة عودة وباسم الخندقجي، جميل السلحوت، عادل سالم، سميح محسن، جمال أبو غيدا، د. سونيا نمر، عمر قراعين، سميح مسعود ، أنور حامد، ناجي العلي وتوفيق عبد العال وأخوتي د. عبد العزيز اللبدي ود. يوسف عراقي هم منّا وفينا وأهلنا، حاضرون بيننا ولو غابوا.
ولا بدّ من حنينِ محمود درويش:
“ليس الحنين ذكرى .. بل هو ما يُنتقى من متحفِ الذاكرة
الحنين ندبةٌ في القلب … وبصمةُ بلدٍ على جسد”.
لفلسطينيي 48خصوصيّة لوضعنا المميَّز؛ فلا مانع من الحصول على ميزانيات ثقافيّة وغيرها من الوزارات الإسرائيليّة كحقّ طبيعيّ للمواطنين كدافعي الضرائب، والعلاقات اليوميّة المعتادة بيننا وبين اليهود في أماكن الدراسة والعمل والمؤسّسات لا يُمكن أن تُشكّل تطبيعًا، ولكنّ الأسرلة وتلميع يهوديّة الدولة من خلال تمثيلها في المحافل الإقليميّة والدوليّة والمشاركة في وفود تمثيليّة – رسمية أو برعاية منظّمات صهيونيّة عالميّة – يُعتبر تطبيعًا مرفوضًا لأنّه يشكّل ورقة التوت التي تستر عيوبها وعنصريّتها وعليه يترتّب عدم المشاركة في أنشطة إسرائيلية ذات طابع دوليّ أو ترعاها المؤسّسة الصهيونيّة الدوليّة محليًّا وعالميًّا.
رفضت إسرائيل الاعتراف بمسؤوليّتها عن النكبة وما شملته من تطهير عرقي خلق قضية اللاجئين الفلسطينيّين، فالنكبة مستمرّة، وإسقاطاتها قائمة، بما فيه إنكارها لحقوق اللاجئين بموجب القانون الدولي بما فيه حق العودة المقدّس الذي لا تقادم عليه وتبنّيها للأبرتهايد ونظام التمييز العنصري الذي يشرعن الاحتلال، بناء الجدار الفاصل العنصري، سلب الأراضي والاستيلاء عليها وإقامة البؤر الاستيطانية والمستعمرات ليل نهار، ليكون الهدف من المقاطعة تشكيل وسيلة ضاغطة لتحقيق التحرّر والعودة وتقرير المصير.
تنمو حملة المقاطعة (BDS) بشكل مضطرد، مُحدِثة تغييرًا في العالم تجاه إسرائيل وممارساتها لتشكّل خطرًا استراتيجيًّا على إسرائيل ممّا يقلق راحة قادتها أسوة بما حدث في جنوب أفريقيا، وواجبنا الوطني دعم وترويج المقاطعة الدولية للمؤسسات الإسرائيليّة وفضح نظامها وممارساتها اليوميّة ومقاطعة الأنشطة المؤسّساتيّة في البلاد وخارجها وخاصة تلك الساعية لتبييض جرائمها وانتهاكاتها.
التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلّي أو دولي، مصمم خصيصًا للجمع، بشكل مباشر أو غير مباشر، بين عرب وإسرائيليين (أفرادًا كانوا أم مؤسّسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكلّ أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. أهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلميّ، الفنيّ، المهنيّ وغيره، أي كلّ ما يَصبّ في صالح إسرائيل. والأنكى منها تهافت الحكومات العربيّة لإبرام اتفاقيات تعاون اقتصادي وتنسيق أمني مع حكومات إسرائيل لمصالح ضيّقة تصبّ في صالح الكيان الصهيونيّ ضاربة عرض الحائط بحقوق الشعب الفلسطيني وإجهاض نضاله في سبيل العودة ونيل حقوقه المشروعة. هذا هو التطبيع بأم عينه وهو مرفوض، مرفوض، مرفوض!!
وعليه، إنّ التواصل مع أهلنا في أيّة مكان لا يمتّ للتطبيع بصلة، فنحن شعب واحد، والتواصل ضروري جدًا ومفيد ولا بدّ منه ليؤكّد على أنّ الشعب العربي الفلسطينيّ شعب واحد وموحّد في الداخل والشتات والمنافي. ولا يمكن للوطن إلّا أن يحلّق بجناحيه، والتواصل المباشر يزيل الصورة النمطية عند البعض عن أهلنا في الداخل وفي الشتات.
نحن على قناعة بأنّ التواصل مع كافّة أبناء الشعب العربي في كلّ أماكن تواجده عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يعتبر تطبيعاً! هناك ضرورة ملحّة لتبادل التجارب والخبرات في كفاحنا المشترك لنيل حقوقنا المشروعة وغير قابلة للتصرف، ولنسج علاقات بين جيل الشباب لحفظ الهويّة الفلسطينية، وحفظ الذاكرة الجماعيّة الواحدة ومجابهة سياسة كيّ الوعي.
صدق جبران خليل جبران حين قال:
لا تصادق أنصاف الأصدقاء
لا تحلم نصف حلم،
ولا تتعلق بنصف أمل،
من تحب ليس نصفك الآخر..
هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه.
نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك،
نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان،
ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة
النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز..
لأنك لست نصف إنسان.
أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة،
وليس كي تعيش نصف حياة
وعليه، نريدها حياة كاملة متكاملة وليست نصف حياة. معًا!
آن الأوان لنصرخها عاليًا: لا للمزاودة! من يعتبر من أخوتنا في العالم العربيّ أنّ التواصل معنا تطبّعًا مرفوضًا – فليمدّ يد العون لتحريرنا أو يصمت، أجدر به!
حسن عبادي
(نُشرت المقالة في العدد الثاني، السنة الخامسة، حزيران 2019، مجلّة شذى الكرمل، الإتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48)