في متحف بيكاسو
تاريخ النشر: 31/07/19 | 11:04“إن أعظم ما أردت تحقيقه وجدت بأن الخط العربي قد سبقني إليه منذ زمن”
“أتقن القواعد كمحترف حتى تتمكن من كسرها كفنان”
“حب الوطن شيء جميل لكن لماذا يريدون له أن يتوقف عند الحدود؟”
“كل طفل فنان المشكلة هي كيف يظل الطفل فنانا عندما يكبر؟”
بابلو بيكاسو
في قلب باريس النابض بالتاريخ وبعبق الفنون وسحر الكلمات الشعرية غير بعيد عن شقة فيكتور هوجو في الحي المعروف ب الماري في الدائرة الثالثة بناية عتيقة تعود إلى القرن السابع عشر والمعروفة ب هوتيل سالي والتي بنيت بين عامي 1656 و1660 كانت في أول الأمر قصرا ثم غدت مدرسة ثم فندقا ودشنت متحفا عام 1985 بعد أن آلت ملكيته للدولة من وريثته جاكلين بيكاسو ويحتوي على 5000 أثر فني لأعمال بيكاسو: لوحات، رسومات، تصاميم منحوتات مراسلات ومقتنيات فنية شخصية للرسام خاصة اللوحات التي تتعلق بصديقه هنري ماتيس ، كتب وأفلام…
بيكاسو الذي ولد في مالقة الإسبانية في 25 أكتوبر عام 1881 وتوفي في موجان بفرنسا في 08 أفريل عام 1973 هو بلا جدال أعظم فناني القرن العشرين وأكثرهم تأثيرا في مسيرة العالم الفنية بالنظر إلى الكم الكبير لأعماله وللمسة الإبداعية التي طورت مسار الفن بشكل عام .
لا شك أن بابلو رويز بيكاسو المنحدر من عائلة متوسطة لأب فنان وأستاذ للرسم والتصوير وأمين المتحف المحلي كان يتوفر على العبقرية والحاسة الفنية تلك التي تعهدها والده فمما يروى أن أول كلمة نطق بها الصبي “قلم رصاص” أي يريد أن يرسم وفي السابعة من عمره أتم رسما كان والده قد بدأه لحمامة وحينها أدرك الوالد أن الإبن تفوق على أبيه فدفع به إلى كلية الفنون بمدريد التي سرعان ما مل تقاليدها وقوانيها فظل يهيم على وجهه يرسم الفقراء والغجر إلى أن تهيأ له السفر إلى باريس عام 1911 وباريس ملاذ الفنان وحلم الشاعر وفنن يأوي إليه كل عصفور غريد وحمامة ملهمة في باريس عاش حينا هيمنغواي وباوند ومرغريت ميتشل وطه حسين وصادق هدايت وغيرهم وفي باريس التقى بيكاسو بصديقه الأبدي ماكس جاكوب الشاعر لكن حياته الأولى هناك لم تكن هينة فقد عاش فيها الحرمان والفقر وفي غرفة السطح التي كان يعيش فيها ويرسم عرف اللحظات الصعبة حتى
أنه كان يحرق رسوماته لتدفأ الغرفة في قر باريس عرف بعدها بيكاسو المجد والشهرة والمال فقد كان أشهر رسام في العالم بعد ذلك وأحد الأثرياء الكبار وتظل صداقته لماتيس أحد أهم الصداقات في حياته وفي المتحف كثير من اللوحات التي رسمها ماتيس وهي من مقتنيات بيكاسو الشخصية.
في المتحف اللوحات التي تؤرخ للمراحل الفنية الأربع لبيكاسو المرحلة الزرقاء من 1901 إلى 1904 وسيمت بهذا الاسم لسيطرة اللون الأزرق عليها وهي لوحات يطبعها الحرمان والحزن حيث عاش بيكاسو الحرمان والفقر في أول مراحل حياته وتعاظم بعد وفاة صديقه كارولس كاساجيماس وأشهر لوحة تمثل للمرحلة الزرقاء لوحة “عازف القيتار”
المرحلة الوردية من 1905إلى 1907 وهي اللوحات التي تمجد الشبق ونشوة الحب والفرح به حيث احتفى بيكاسو بالمرأة ورسمها في أوضاع مختلفة وفي بورتريهات عديدة لعل أش لوحات المرحلة الوردية بورتريه جيرترود شتاين
ثم المرحلة الإفريقية من1908 إلى 1909 وقد استلهم الفن الإفريقي وأخيرا المرحلة التكعيبية التحليلية والتركيبية ولعل لوحة” أوانس أفينيون” وهي لوحة لخمس نساء مرسومة بطريقة تقشعر لها الأبدان.
قال جورج براك حين رأى رسومات بيكاسو التكعيبية:” لقد جعلني أشعر وكان أحدهم يشرب البنزين ويبصق على النار” وغني عن البيان أن الفن التكعيبي يتوسل في الرسم الأشكال الهندسية مصطنعا الكرة والأسطوانة خاصة شكلا تعبيريا أي ستة وجوه.
بين مونمارتر ومونبارس تشكلت حياة بيكاسو الفنية مع ماتيس جورج براك والشعراء أبولينير وأندريه بيرتون وهناك نشط سو ق التكعيبية تلك المدرسة التي غيرت معالم الفن في القرن العشرين.
في المتحف كثير من المراسلات بين بيكاسو وفناني العالم وسياسيه ومشاهيره فقد كان بيكاسو شيوعيا وحصل على جائزة ستالين على الرغم من إدانته للحرب وعدم مشاركته في الحرب العالمية الأولى والثانية وكذا الحرب الأهلية الإسبانية التي أدان فيها الاقتتال كما أدان الفاشية وفرانكو ولعل لوحة جورنيكا بالأبيض والأسود التي أتمها عام 1937 تجسد حقا مأساة الإنسان ومأساة الشر الذي تعد الحرب مظهره الكبير .
وهناك جانب لا يمكن نسيانه في حياة بيكاسو كما أرخ لها ذلك المتحف ونعني بذلك حضور المرأة في حياة بيكاسو فقد كان كما اشتهر عنه زير نساء ولعل المرأة خير ملهم للفنان لذا احتفى بها الشعراء والكتاب والرسامون ولا تجد شعرا يخلو من لواعج الهوى وتباريح الغرام ولا تجد قصة لا تتودد إلى الأنثى ولا لوحة لا تتجمل بجمال الأنثى ولا قطعة موسيقية لا تعزف على أوتار القلوب قبل أوتار العود فالحب قدر الفنان والمرأة منفاه الجميل الفردوس والمحرق في ذات الوقت غير أن بيكاسو أسرف على نفسه كثيرا فمن الآنسة فرناند اوليفير البوهيمية إلى أولفا خوخلوفا الروسية الراقصة إلى ماري تييز والتر العشيقة ثم الزوجة فرانسواز جيلوت التي ألفت كتابا عنوانه “الحياة مع بيكاسو “اشتكت فيه من خياناته إلى جاكلين روك الزوجة الأخيرة التي انتحرت عام 1985 والعديد منهن التي لا يتسع المقام لذكرهن.
حين كنت أقضي ذلك اليوم الجميل والشاعري في رحاب رسومات بيكاسو ظلت مقولة له ترن في أذني وتتغلغل في روحي تلك المقولة:” أتقن القواعد كمحترف حتى تتمكن من كسرها كفنان”
ففي المتحف كثير من اللوحات الكلاسيكية التي لا تختلف عن روائع دافنشي حتى أن لوحة كلاسيكية استوقفتني طويلا رسمها بيكاسو لما كان عمرة 17 عاما واقترب مني رجل وهمس في أذني: إن كثيرا من الزوار لا يتأملون تواريخ رسم اللوحات وأشار هذه مثلا لما كان فتى ألا ترى دلائل العظمة والتفرد والعبقرية من فتى صغير؟ وبالمناسبة فكثير من أدعياء الحداثة يخرجون على القواعد دون إتقانها هذا يكتب ما يسميه قصيدة نثر ولا يعرف حتى كتابة عروضية وذاك لم يقرأ كتابا قديما للجاحظ أو يفهم قصيدة لامرئ القيس ومع ذلك تراه ينحى باللائمة على التراث وهو جاهل جهلا مؤسسا تساهم جامعات العالم العربي اليوم في توضيبه في شهادة عليا إنه الجهل المؤسس والموضب في شهادة عليا.
قلت ذلك عطفا على خروج بيكاسو على قواعد الرسم الكلاسيكية لا لجهل بها ولكن رغبة في التحرر والإبداع وفتح طرق جديدة فالطرق المعبدة ليست جميلة دائما ولا مثيرة بل الدغل ساحر ومغري ومثير على الرغم من مخاطره.
سيظل بيكاسو منارة شامخة في الفن الحديث وستظل لوحاته منهلا لكل عشاق الفن الجميل والرائع والإنساني.
إبراهيم مشارة