غصات، غصة الموت، غصة أطفال العيساوية
تاريخ النشر: 03/08/19 | 8:50ننام على صوت الرصاص ونفيق نحصي، في بلداتنا، أعداد الثواكل الجديدات ونجفف عيون اليتامى المحملقة في ظهر الغيب ؛ يبكي النرجس قلوب “شقيقاته” المبقورة، ويفرح الناجون منا بصبح بطيء، يبسطون أكفهم نحو الغيم ويتمتمون كلامًا من سفر الغبار، ويشكرون لأنّهم كانوا ” أصغر من هدف.. وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج “.
كل يوم قتيل بيننا وقاتل مجهول، والملح يجري في شراييننا كمجرى السم في الروح النبيلة.
نعيش، نحن المواطنين العرب، في إسرائيل ونعرف أننا لسنا لديها إلا “عابرين في كلام عابر” أو أصغر من طيف عقرب صالٍ ؛ ونذهب إلى ضفاف خبزنا خائفين من غضبة الريح وهي تزمهر مع كل صرخة رصاصة “طائشة”، وتنتشي عند أكعاب خناجرنا النهمة.
كيف الخلاص ؟ ونحن مجرد مجتمع مهشّم ينبّش رجاله قبور مستقبلهم في لحم أمسهم، وتفتش نساؤه عن نجاتهن في تراتيل السراب وفي ثنايا القصائد البائدة.
لا خلاص! ما دام الرجال وحدهم عندنا قوّامين على ساعات الرمل وعلى حصاد الخضرة في خواصر الشجر ؛ ويُستقبلون، رغم رائحة العرق، على العتبات، كسعاة للبرق وكقطافين للرعد وكحماة للأثر ؛
لا نجاة! إذا ما استمر الجناة يلوكون، بزهو، في المجالس سير فتوحاتهم الفاقعة ويفرّقون، على الضعفاء، دمى الدم تمائم للسلامة، وأدعية الدجل عرابين للوفاء؛ ويداعبون، بعد كل فتح، شواربهم المنتصبة بين سيقان الحرير وعلى بحّات الوتر ..
لا خلاص! إذا ما بقيت النساء تمضي كبنات الجبال في عروق صحراء جائعة، وتهوين، كطيور الحجل الخائفة، عند اقدام النهر؛
لا سيّد بيننا إلا الموت ! فالليل يصهل في فراشنا خائفًا ولا يجد غمدًا يحميه من رجع الصدى، والنجوم تبكي أمام قهقهات الرماح الراقصة بشوق وبغريزة وبفيض وطر.
كنت في طريقي إلى عملي حين بدأت أتابع تفاصيل حادثة قتل رجل وزوجته أمام أعين طفلهما، ابن السابعة، في بلدة اللقية الصحراوية الجنوبية.
يبدأ المذيع بعدّ الضحايا العربية التي سقطت في الشهر الأخير فقط، ولا ينتهي إلا بعد أن تعب الأثير وطقت حنجرته. ضيف “أجندته”، هذا الصباح، كان قياديًا عربيًا حزبيًا معروفًا. سأله المذيع بحسرة واضحة وبوجع : كيف يمكن ايقاف شلال الدم النازف من النقب الصامد حتى أعالي جليلنا الأشم؟
لم أسمع في ردّه جديدًا. بدأ القيادي بتلاوة اللازمة التي يعرفها الجميع، يؤكد فيها على أننا مجتمع يعاني، منذ اكثر من سبعين عامًا ، ظلم الدولة اليهودية وقمع أجهزتها ومن سياسات التجهيل وطمس معالم هويتنا ؛ ثم ينتقل تباعًا إلى باقي أجزاء الحكاية ، فبعد تحميل الدولة، بحق، كامل المسؤولية، يعِدنا سيادته بالعمل على وضع قضية العنف في مجتمعنا في صدارة برامج عمل جميع الأحزاب العربية؛ ذاك لأن استفحال العنف كما نختبره على جلودنا سيوصلنا إلى هاوية سحيقة، وسيفقدنا فشلُنا في مواجهته أهليتنا للعيش كمجتمع وكأبناء شعب يقاتل من أجل بقائه ونيل حقوقه المدنية والقومية.
لا غبار على هذا الكلام ؛ فكم قلنا أن الدولة هي المسؤولة الأولى عن أمن مواطنيها وعن سلامتهم، وكم اتهمناها بإهمالها المتعمد وبقصورها في تأمين حياتنا في الشوارع وفي الساحات وفي البيوت؛ وكم فنّدنا مزاعم الشرطة وأثبتنا كونها شريكة فيما نواجه، نحن المواطنين العرب، من الجرائم وحالات القتل والعنف المتفشي بيننا، لأنه لا يجد من يصدّه.
لكننا قلنا، الى جانب ذلك، مرارًا وأكدنا على أننا لن ننجو من لعنات القتل والعنف بيننا إذا ما بقينا نردّد خطاب الضحية ونلوّم على ما تفعله أو لا تفعله الدولة تجاهنا من دون أن نسعى الى ابتكار وسائل من شأنها أن تسعفنا وأن تضمّد جراحنا وتنقلنا الى شاطيء السلامة لنجدّ السير على بداية الطريق الصحيح.
مرّت الأعوام ولم ننجح في اجتراح “المعجزات”، حتى وجدنا انفسنا اليوم في وسط أتون حارق، نعاني من الهزائم والفوضى الخانقة، حتى تحول سؤال “الكيف” الى هل حقًا يمكن وقف ذلك الشلال ؟ وهو تساؤل مشروع حتى لو وسم برسم العجز والتشاؤم.
أخشى اننا لا نملك ناصية المستقبل، وأخشى أكثر لاننا لن نملكها في القريب المنظور؛ فحتى نصير مجتمعًا/ شعبًا، علينا ان نتقن همسة القلب للقلب وأن نمسح عن جبين الوردة أثر الأقدام الهمجية؛ وعلينا أن نقدّس الحياة بمعانيها المطلقة ونعلي مراتبها فوق كل مزمور ؛ أو كما علّمنا من كان في شعابها بصيرا ، الدرويش والأمين حين قال :
” سنصير شعبًا، إن أردنا ، حين نعلم اننا لسنا ملائكة ، وأن الشر ليس من اختصاص الآخرين ؛ سنصير شعبًا، إن اردنا، حين يؤذَن للمغني أن يرتل آية من “سورة الرحمن” في حفل الزواج المختلط ؛ وسنصير شعبًا حين نحترم الصواب وحين نحترم الغلط”.
لسنا من ذلك قاب قوس، ولا أكثر ؛ لأن المسافات، في بلادي، تقاس بطول عنق المسدس وبعرض وسط الخنجر..
أطفال العيساوية
من ظن أن إسرائيل تحاصر المقدسيين بجرعات موزونة ومقطعة، لا يشعر كيف تذبح المدينة المقدسة من الوريد الى الوريد.
في الأمس كتبنا عن غصتنا في “وادي الحمص” واليوم اكتب عن نحيب “العيساوية” وعن صمود اهلها، رغم الملاحقات والقمع والحصار ومحاولات التهجير.
“العيساوية” قرية كبيرة ضمتها اسرائيل بعد حرب حزيران الى مدينة القدس الكبيرة، فصارت حيًا من أحيائها يبلغ عدد سكانه عشرون ألفًا.
يعاني أهل العيساوية بشكل يومي وقاس الكثير؛ فبسبب مجاورة بيوتهم لبيوت الحي الاستيطاني اليهودي المعروف باسم “التلة الفرنسية” ولمباني الجامعة العبرية، أمعنت اسرائيل بتضييق خناقاتها على الحي، فحاصرت سكانه داخل منطقة ضيقة، وحظرت عليهم البناء خارجها ولاحقتهم فتحولت حياتهم الى جحيم.
قاوم اهل العيساوية هذه السياسة بوتائر تحتدم أحيانا وتخبو أحيانا أخرى.
منذ اكثر من شهرين نشاهد موجة جديدة من الاحتكاكات التي ما زالت ذراها تتشابك؛ فقوات الشرطة والأمن الاسرائيلية تغزو بشكل يومي شوارع البلدة وتعيث بين اهلها الخوف وتعتقل العشرات منهم.
برزت في مشاهد الاعتقال الأخيرة عمليات اعتقال عدد من أولاد الحي صغار السن، حتى غزت تلك المشاهد معظم الشاشات الفضائية وغدت حطبًا للمواقع الاخبارية ولشبكات التواصل على انواعها.
ستبقى مشاهد استدعاء أولئك الاولاد الفلسطينيين وصمة عار على صفحة دولة اسرائيل، وستحفظ كجنايتها الكبرى بحق الانسانية والطفولة.
في المقابل رأينا كيف انتشى كثير من الفلسطينيين ورقصوا طربين على وقع تلك الصور؛ ومنهم من تغنى ببطولات الاطفال الذين سيفلون ببسماتهم حديد المحتل ويذيبون ببراءتهم صلافته. فالطفل ، الفلسطيني، هكذا تشاوف البعض، جندي مقاتل يواجه دبابة المحتل ووحشيته.
أفهم لماذا يوظف الفلسطيني في هذا العصر البائس “جبروت” البراءة وهي تقارع جبروت ووحشية المحتل، لكنني، رغم تفهمي الكامل لسحر ذاك المجاز ولدغدغة الاستعارة، سأبكي على تلك الطفولة المذبوحة وسأبقي غصتي في الحلق كي لا تصير جرحًا يفضح.
جواد بولس