قهقهة الحمار
تاريخ النشر: 05/08/19 | 6:08في إحدى القرى التي تحولت إلى مدينة، لا أحد يعرف متى تفتح المكتبة أبوابها، مع أن هناك موظفتين في المكتبة، مديرة وسكرتيرة بشكل دائم. مبنى المكتبة العامة على الطراز الحديث بشبابيكها العريضة ومدخلها الواسع والحدائق الغناء التي تحيطها من الأربع جهات. موقعها جميل يشرف على سهل واسع وكأن موقع المكتبة يناديك: تعال واقرأ تعال وارتاح في احضاني، أنا لك. هذا ما تستنبطه من بعيد، لكن مع اقترابك من المدخل تجد أن باب المكتبة مغلق في معظم الأوقات.
****
المديرة “ام الفهد” امرأة طويلة القامة، عريضة المنكبين، لها جسم الفيل وقوة الثور ونشاط النمر، وتتدثّر بعباءة الدّين، مع وضع ألف علامة استفهام، ولكنّها تحب النظافة، فلذلك لا تسمح لأي طالب بدخول المكتبة في الشتاء خوفا من الوحل وتلويث أرضية المكتبة ولا تسمح للطلاب باستعمال المرحاض صيفًا وشتاءً لنفس السبب، وتصرخ عليهم بأعلى صوتها، فيخرج الطفل من عندها كالفأر المبلل بالماء، والويل للطالب الذي يتوجه اليها لاستعارة كتاب، فهذا أكثر ما يزعجها لأنّها يجب أن تأخذ ورقة وقلمًا وتسجل اسمه. وعندما يتأخر قسم من الطلبة لدورة الانجليزي تصيح بأعلى صوتها: لماذا تصلون للدورة متأخرا؟ فأنا ادفع آلاف الشواقل من أجل هذه المرشدة! فينظر الطلبة صوب المرشدة التي تشعر كأن نارًا تستعر في صدرها، وهي صامتة على مضض خوفًا على مشاعر الطلاب ولأنها تعي بقرارة نفسها بأن “ام الفهد” هي موجودة بتعيين قبلي ولا تمت بصلة لهذا المنصب وتتدخل في أمور لا تعينيها، خصوصًا في شؤون الطلاب. فتفرض عليهم خمول التفكير بهجومها الشرس. والويل لهم إذا هفوا.
تحث” ام الفهد” الطلاب على المطالعة عن طريق بذر الغيرة بين الطلبة بقولها: انظروا إلى طلاب المدرسة تلك، انهم أشطر منكم… فتدبّ في قلوب الطلبة التنافس السلبي. إذا وقفت “ام الفهد” على منصة وحملت الميكرفون بيدها فإنها تترك انطباعا فشر أبو العلاء المعري بفصاحته، فهي تستعين بأشعار المتنبي وعنترة ومحمود درويش وتوفيق زياد بلغة عربية فصيحة، كملمّة بالشعر الحديث والشعر القديم. ولا تتحدث الا والمنظومة الدينية تسيّرها والنظام العائلي والقبلي والطائفي يحتل جل تفكيرها، ويفيض حديثها بجمل رنّانة فارغة المضمون، ظاهرها حق وباطنها باطل. ولا ننسى بانها مقربة من رئيس البلدية المنتخب، يعني كلمتها لا تصير اثنتين عنده، وما تريده تنله دون جهد.
****
يوم الجمعة، مرّ على المكتبة ماهر الأطرش، تاجر الكتب طيّب القلب، ليعرض عليها شراء بعض الكتب الجديدة التي وصلته من العالم العربي. “ام الفهد” كانت قد طلبت منه بعض المواد القرطاسية لمكتبتها، وحين دخل مكتبها وهي غرفة أنيقة فاخرة الأثاث والرياش، وجدها تُقطم ضُمة ملوخية كبيرة تتعدى الخمسة كيلوغرامات وضعتها على مكتبها العريض المصنوع من خشب العرعار الغالي الثمن. استقبلته بالحفاوة كعادتها:
– لِما جئت الآن، موعدنا بعد نصف ساعة؟ على كل حال، أهلا وسهلا بك؟
– صدقت، ولكنني أنهيت عملي باكرًا ولا أستطيع العودة إلى دياري فعرجت عليك لننهي ما اتفقنا عليه.
– لا تفهمني غلط، أهلا وسهلا بك في كل وقت ولكنني أحب النظام. سأحضر لك قهوتك. كيف تشربها؟
– ثقيلة وحلوة مثلك؟
– يلعن أبو شيطانك…
– …………
صاحت وهي في المطبخ:
– افتتحت دورة للرسم هذا الأسبوع على حسابي الشخصي وفي يوم عطلتي، اتصدق ذلك؟
– طبعًا فانت كريمة ومعطاءة يا “ام الفهد”.
– تعال وانظر إلى ابداع أهل بلدي فنحن القمة في كل شيء في الذكاء والعلم والأدب والدين. وفي مكتبتي أشجع روح البحث وحبّ المعرفة وهو ما يؤجج في الأطفال حب العمل ومكتبتي بالنسبة للأطفال مفعمة بروح الفكر والمشاعر والابداع والجمال والتسلية.
– صدقت يا “ام الفهد”.
أخذته إلى قاعة كبيرة معروضة بها لوحات كبيرة الحجم بألوان زاهية وجميلة وتستدل من الرسومات انها رسومات للهواة.
قالت أم الفهد:
– هذه لوحة أرام ابن اختي وهذا لوحة اختي سامية، وهذه اللوحة الجميلة لأبني تُهامة وهو ما زال في الصف العاشر، شاب له مستقبل مشرق انظر كيف يتلاعب في الألوان يا إلهي ما أروعه، وهذه اللوحة لكِنة اختي الكبرى وهي مُدرسة رياضيات، وهذه اللوحة لابنها فهو كأمه عبقري في موضوع الرياضيات. هذه اللوحة لي أنا، وهي تعبّر عن باطني وما اشعر به من جمال الطبيعة الغنّاء التي أحبها. أنظر إلى هذه اللوحة انها لأبن جيراننا وهو سيلتحق في الجامعة قريبًا انه شاب ظريف كل ما اطلبه منه ينفذه، خاصة كل الأمور التي احتاجها عن طريق الحاسوب. بارك الله فيه فأنا غير ملمّة بأمور الحاسوب وعملنا في المكتبة يتطلب ذلك… أنظر هذه لوحتي الثانية…
انطلقت أم الفهد أكثر وبدأت بالشرح عن اللوحات الأخرى وهي اللوحة الثانية لكل مشترك، واعادت الكرة وماهر بالع الموس، لا يمكنه النطق بكلمة أمامها وهي تعتصم بالجرأة والقِحَة.
هذه لوحتي وهذه لوحة ابني ولوحة اختي وكِنة اختي وابن الجيران وعندها أغلق ماهر اذناه ولم يبت يسمع منها شيئا. وكأن المكتبة ملكها وملك أبوها وجدها واختها وأبناء اختها والعائلة والمقربين للعائلة.
حاول ماهر ان يجمع شتات أفكاره وسألها:
– كم عدد اعضاء الدورة يا أم الفهد؟
– عددهم ١٢ شخصًا.
– عفارم عليك، برافو…
– لا تنسى بأنّني لا أعمل يوم الجمعة ولكنني دعمًا للإبداع افتح أبواب المكتبة يوم الجمعة.
– اختاري يومًا آخر لِما يوم عطلتك؟
– لأن الفنانة المبدعة الرسامة مرشدة الدورة، لا تستطيع مشاركتنا إلا يوم الجمعة فهي تتعلّم الفنون في جامعة تل ابيب، سنة ثالثة، واحببت ان أدعمها.
– من هي هذه الفنانة؟
– انها ابنة اخي، شابة رائعة ومتفوقة.
اضطرب ذهنه وتلاطمت خواطره، فخيلاءها أفقدها حياءها، فأجاب بمنتهى النفاق:
– التفاحة لا تسقط بعيدًا عن الشجرة وهي انسانة قديرة كعمتها!. أنا على عجلة من أمري، ماذا تحبين ان تشتري من الكتب الجديدة؟
صاحت بصوت عالي:
– لا تزعل مني، فأسعارك نسبيًّا أغلي الأسعار من بين تجار الكتب، فاذا لم تخفض لي السعر فلن اشتري، وعليك ان تترك لي هدية على البيعة مثل باقي زملاءك تجار الكتب، ولا تنسى أن هذه المكتبة جماهيرية وأنا مديرتها وشعاري المصلحة العامة، فأنا ضد المصالح الشخصية الضيقة.
– لا أستطيع ان اخفّض بالسعر، لكنّني سأقوم بطباعة معرض رسوماتك في كتاب، وبسعر معقول، وسيكون تحت رعايتك الشخصية.
– اتفقنا، هيا اجلب كتبك…
وقهقهت بقهقهة تشبه نهيق الحمار.
بقلم: ميسون أسدي