باقةٌ من الرياحين
تاريخ النشر: 06/08/19 | 11:29الزجل من روائع الكلام، يدخلُ إلى القلب بيُسرٍ ويتقبلُه السامعُ لحلاوةِ كلماتِه وشفافيّتَه، ويصفُهُ جبران خليل جبران بأنه مِثلَ باقةٍ من الرياحينِ قُربَ رابيةٍ من الحطبِ، وها نحن اليوم بصددِ أمسيةٍ تليق به، فاخترتُ لمداخلتي عُنوانًا: ” باقةٌ من الرياحين”.
التقيت يوم 18 كانون الثاني بالدكتور يوسف فخر الدين، برفقة صديقي الكاتب فاضل علي، وأهداني كتابَه “دقّة الأوزان في أزجال ديوان ابن قُزمان” “إصابة الأغراض في ذكر الأعراض” الصادر عن دار الفارابي البيروتيّة، ويحتوي على 470 صفحة، وهو صيغة معدّلة لأطروحة الدكتوراة التي قدّمها الكاتب لقسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة حيفا، كما هو بحث ذو عمق وشموليّة (د. يوسف فخر الدين من مواليد دالية الكرمل الفلسطينيّة؛ من إصداراته: ديوان “وادي النحل”، ديوان “حجر البَدّ”، كتاب “الزجل في بلاد الشام من العصر الأموي حتى سقوط الأندلس” وغيرها).
يُعتبر ابن قُزمان، وبحقّ، أشهر الزجّالين العرب، إمامَهم وزعيمَهم، عاش حياتَه في اللذّة والمتعة واقتناص لذّات الحياة حتى في شهر رمضان المبارك، وهو يشبه أبا نواس في وصفه الخمر وذِكر اللذّات والشهوات الدنيويّة، بدأ مشواره الشعريّ بالنظم الفصيح ولم يُفلح، حسب رأيه (رحم الله إمرئٍ عرف قدر نفسه فوقف عنده)، فمال إلى الزجل.
وثّقَه الكثير من المستشرقين والدارسين العرب، وقد أشاد بشاعريّته الزجليّة الدارسون القدماء أمثال: ابن خلدون وابن سعيد المغربي وابن الأبار، والمستشرقون أمثال: جنزبرج، نيكل، كولان، الإسباني إيميليو گارسيا كوميث، كوريينتي، والمستشرق الروسي كراتشكوفسكي، وهذا ليس من باب الصدفة!
لقد حملت الأقدار الديوان من بلد لآخر، ومن يد لأخرى بصورة عجيبة وغريبة، ويقال أنّه استقرّ في صفد حتى جاء مسيو روسو (حفيد الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو)، وحصل على المخطوطة الوحيدة من ديوان ابن قُزمان التي نُسخت في مدينة صفد في فلسطين وباعها للحكومة الروسية لتحط ترحالها في “المتحف الآسيوي” في مدينة سان بطرسبرغ، وبقي الديوان مهملاً حتى قام بالتنبيه إلى أهميّته المستشرق البارون فيكتور دي روزن، أثناء قيامه بفهرسة المخطوطات العربيّة في المتحف.
من مميزات شعر ابن قُزمان أنّ زجله يعبّر عن تمازج الحضارة الإسلامية بالحضارة الأيبيريّة، كما تحضر اللغة الرومانثية بشكل ملحوظ في مفرداته وعباراته الشعريّة، وهذا دليل على حضور اللاتينيّة في شعر ابن قزمان.
كما يُظهر زجله الشعري تشابه الشعر الأندلسي والشعر الأوربي على مستوى البناء والوزن والتقفِيَة، والأزجال زاخرة بالغنائية الموسيقيّة المشرقيّة والأندلسيّة المحلية.
كان ديوان ابن قزمان القرطبيّ يعتبر تراثاً أوروبياً، حتّى أن بعض المستشرقين اعتبره في أساس الشعر الغنائي في أوروبا.
كان المستشرق الاسباني خوليان ريفيرا أول المستشرقين تقديرًا وإعجاباً للحضارة الاندلسيّة، فجعله محوراً لبحث نشره سنة 1912. وأثار ضجّة كبيرة في أوساط المستشرقين والمثقّفين، لأنه أكد أن كلّ الشعر الغنائي الأوروبي تولّد عن ذاك الشعر الاندلسي، ممّا أثار جدلًا كبيرًا بين مؤيدٍ ومعارض، فكان الديوان تراثاً اوروبيّاً حتى ذلك الوقت.
أثار نشر الديوان اهتمام كثير من المستشرقين الاسبان الذين كانوا يعتبرونه جزءاً من تراثهم. أوّل من قام بدراسته وتحقيقه المستشرق إميليو غارسيا غوميز واستغرق نحو عشرين عاماً في انجاز عمله. نشر تحقيقه له سنة 1972، بحروف لاتينيّة أيضاً، مع ترجمة شعريّة اسبانيّة للأزجال، إضافة إلى دراسات وافية في ثلاثة مجلدات بلغت 1500 صفحة.
والحق يُقال أنّ المستشرق فيديريكو كورينتي هو من عكف على إعادة تحقيق الديوان، ونشره للمرّة الأولى مطبوعاً بحروف عربيّة ولاتينيّة معاً في مدريد سنة 1980.
أما الباحثون العرب، فكانوا، كالعادة، منقطعين عن كل هذا. وأوّل باحث عربي اهتم بدراسة الديوان ومناقشة غوميز، هو الدكتور عبد العزيز الأهواني .
ابن قُزمان القرطبي أكبر وشّاح أندلسي، وجمع بين الشعر والتوشيح والزجل. لكن تفوّقه كان في “الزجل المنظوم” بلغة الأندلسيّين الدارجة. لعلّ أهم ما في هذا الديوان تصويره للحياة الشعبية في الأندلس في كل مظاهرها، كما أنّه يصور حياته، حتى أنّ الديوان هو إلى حدٍ بعيد سيرة ذاتيّة للشاعر الزجّال. وهو ما لا نجد مرادفاً دقيقاً له في الشعر المكتوب بالفصحى.
غير أن استخدام ابن قُزمان للغة العاميّة لا يعني أنها لغة متدنّية. فابن قُزمان يرتفع بها إلى التعبير الفنيّ الصادق. نرى فيه مغامرات الشاعر الغراميّة التي يسخر فيها أحياناً من نفسه، ونرى فيه تصويراً لأحداث الأندلس في عصره. فالديوان مثل دواوين الشعر العربي الفصيح، فيه مدائح لبعض الامراء والقادة وتصوير لدقائق الحياة اليوميّة التي كثيراً ما يعجز الشعر الفصيح عن التعبير عنها.
جاء الدكتور يوسف بدراسة جادّة عن أوزان الزجل العربيّ القديم عمومًا، وأوزان ابن قُزمان خصوصًا. أعاد تحقيق الديوان معتمدًا على تحليلاته العروضيّة المقترحة، وجوهر نظريّته أنّ أوزان ابن قُزمان تعتمد العروض الكميّ العربيّ وتفعيلات الخليل بتركيبات جديدة وأوزان مختلفة متعدّدةِ الإيقاعات ومتنوعّة الألحان، دون التقيّد بالبحور الكلاسيكيّة.
امتلك الدكتور يوسف نسخة مصوّرة من المخطوط الفريد للديوان ليعتمدَها في بحثه، إضافةً لشتّى المصادر والمراجع ومنها 74 باللغة العربيّة، 98 باللغات الأوروبيّة و- 14 مصدرًا باللغة العبريّة مما أثراه وزاده عمقًا وشموليّة، ليقرأ كلّ قصائد الديوان ويحدّد الوزن الذي يتّفق مع النصّ في كلّ قصيدة، بعيدًا من أوزان كورينتي في الديوان وتغييراته وتأويلاته، ليُجري مقارنة بين القراءتين وزنًا وتصحيحًا وتأويلًا، ليتبيّن له أنّ مواضع الاختلاف كثيرة ومتعدّدة، ويصل إلى النتيجة الحتميّة وتعزيز إيمانه بنظريّة الحليّ بدقّة أوزان أزجال ابن قُزمان وأن الزجل لا يقبل الزِحاف وأنّ معظمه مغنّى، وأنّ الغناء عنصر أساسي في تحديد الوزن، ليعيد كتابة بعض الألفاظ، جرّاء الوزن الأدقّ الذي يحدّده للقصائد.
تعرّض د. يوسف بجرأة بحثيّة نادرة لأبحاث من سبقوه؛ أمثال خوليان ريبيرا وادعائه بالأصول الأيبيرية للزجل الموشّح، أليوس نيكل ومحاولته ترجمة وتقطيع بعض أزجال ابن قُزمان بالتقطيع الكميّ، إدّعاء إميليو غومز الأوزان المقطعيّة في الموشّحات واعتراض ألان جونز وعبد العزيز الأهواني عليها، إدّعاء غورتون بأنّ أزجال الديوان تخضع للعروض الكميّ العربي وخضوعها لبحورها الخليليّة ومشتقّاتها ومعالجته للمشكلات النصيّة في الديوان، إدّعاء جيمز مونرو بالأصول الإسبانيّة للموشّح والزجل، وتناول انقلاب كورينتي على نظريّة غومز المقطعيّة.
أمّا الجزء الرئيسي فكان حول أوزان الزجل بين نظريّتين: نظريّة كورينتي “العروض المحوَّر” ونظريّة صفي الدين الحلّي “العروض الدقيق”.
تميّز البحث والكتاب بالشموليّة لإتّباعه المعايير العلميّة البحثيّة النيّرة والحديثة. أما بخصوص مصادر البحث، والهوامش في الكتاب، فهي مريحة وقد أضاءت النصّ وساعدت في تفسيره من جميع جوانبه ممّا سهّل على القارئ وعمل على تقريبه إلى الزمان والمكان ممّا أثراه وزاده قيمةً، أما بالنسبة لقائمة المصادر والمراجع في نهاية الكتاب فهي لفتة مباركة وضروريّة تسهّل على القارئ والباحث، أثرت الكتاب وزادته شفافيّة ومهنيّة.
أعاد الدكتور يوسف بعضًا من رونق وجمال حضارة عرب الأندلس بتسليط الضوء على الزجل بالعاميّة والموشّح بالفصحى؛ وكما جاء في الخاتمة: “بقي هذان الفنّان معلمًا رائدًا من معالم حضارة الأندلسيين، أيام كان العرب فيها سادة الدنيا ومنارة علومها ومعارفها وآدابها وشعرها ولكنّهما ويا للأسف تلاشيا وانقرضا بمرور الزمن، ولم يتبقّ متداولًا إلا النزر القليل من أوزان وأشكال الأزجال المحليّة المختلفة، على شكل أغان شعبيّة، تعتبر من أهم عناصر الغناء والتراث الفولكلوري، وتنال إعجاب الناس بها وشغفهم بالاستماع لها أو بالتأليف على أشكالها والحضور في احتفالاتها ومبارياتها”. (ص.454)
عوفيت وبوركت وبانتظار المزيد المزيد من البحوث والإصدارات.
حسن عبادي
***أُلقيت هذه المداخلة في حفل إشهار الكتاب يوم الأحد 28 تموز 2019 في النادي الثقافي في مسرح
الكرمة الحيفاوي