مدفع من التراب.!
تاريخ النشر: 17/08/19 | 22:49يوسف جمّال – عرعرة
عدة عقود مرّت , وما زال لغز موت العم عارف أبو الصنايع , وسقوط الطائرة الانجليزية على قمة الجبل ,التي تقع عليه بلدنا بلا حلّ ..
هل فعلاً أصابها وأسقطها بمدفعه الذي صنعه بيديه , أم أنها سقطت لخلل حدث بها .!؟
هل سبب موته انفجار مدفعه .. أم أنه تلقى إصابة مباشرة من الطائرة الانجليزية , التي كانت تحوم فوقه .!؟
ما زال بيته القديم المتداعي , الذي لم يبق من سقفه وحيطانه إلا القليل في مكانه , يحكي قصه السنين , التي عاشها في بلدنا .. سنين زاخرة بالأحداث الجسام ..
يروي كبار السِّن ,الذين لم يبق منهم إلا القليلون ,أن محمود أبو الصنايع , قدم الى بلدنا وسكنها قادماً من قرية “إجزم ” , ومنهم من قال من “البطيمات “, ومنهم من قال انه قدم من قرى غيرهما من قرى الروحة .
ولا يخف عليكم لماذا أطلق عليه اسم ” أبو الصنايع .!” .
فقد كان يتقن الكثير من المهن والصنعات , يكاد يعجز اللسان من تعدادها ..
فقد كان إسكافياً , وحلاقاً , ويخلع الأسنان والطواحين المريضة , ويحذي قوائم الخيل , ويحسم أعواد الحراثة , ويبيِّض قدور النحاس ..
قدم الى القرية وملأ فراغاً , كانت القرية بأمس الحاجة الى من يملأه .
وكانت له مصطبة واسعة تظللها توتة كبيرة , كان يمارس مِهَنِه في معظم أيام السنة تحت ظلِّها ..
ومع الزمن تحوَّلت هذه المصطبة ,الى ديوان يقضي شيوخ القرية أوقاتهم فيها , في لعب السيجة والحديث في شؤون البلد وأحوال البلاد.
وكانوا يتداولون أخبار الثوار, ومعاركهم مع الانجليز..
سرّ كان لأبي الصنايع , لم يشارك فيه إلا أقرب المقربين له..
صيانة بواريد الثوار ..و تصليح ما خرب منها .. تفكيكها وتنظيفها ..
وسرٌ آخر لم يعرفه أحد مات معه ..
صناعة الكحل الذي كان الثوار , يعيدون ملأ رصاصهم الفارغ به ..
كان يصنعه من خلطة مواد , لم يبح بها ولا بمقاديرها لأحد.!
كان يقول دائماً أنه سيصنع مدفعاً , يسقط طائرات الانجليز كالفراش .!
ولم يأخذ أحد كلامه على محمل الجد .. اعتبره البعض شيئاً من الدعابة والمزاح ..
واعتبره آخرون نوعاً من التبجح والمكابرة ..
حتى زوجته .. لم تفك سرَّ اختفائه لساعات طويلة , في خرابة مخفية تقع خلف بيتهم ..
سألته مرات كثيرة عما يفعله خلف البيت , فكان يجيبها :” هذا لا يعنيك .!” .
وطلب منها في المرة الأخيرة, بحزم فيه نوع من التحذير, ان لا تسأله مرة أخرى , عن هذا الموضوع ..
ولم تتكلّم فيه مرة أخرى ..
سليم ابنه كان يستغل غيابه أبيه مسافراً الى طول- كرم , ليحضر بعض المواد التي يحتاجها لمهنه , فيدخل الى معمله السِّري ليوافينا بأخبار مقدار تقدمه , في صنعه للأشياء التي يصنعها في معمله االسِّري.
ومنها أخبار المدفع المضاد للطائرات .!
كان يحكيها لنا بلهجة أعجاب وتفاخر , بقدرة أبيه العبقرية .!
وكنا نشاهد أباه في البراري , يجمع أوراق وجذور نباتات معيَّنة, ويدخل الى مغارة , فيخرج منها حاملاً وعاء فيه تراب .
” انه يصنع منه , بعد أن يضيف إليه مواد أخرى , كحل البارود .!” كان ابنه سليم يفسِّر لنا ما نشاهده .
في يوم سقوط الطائرة الإنجليزية ,على قمة الجبل التي تقع البلد على سفحه , كنا نلعب على بيادر البلد ..
رأيناها كتلة ملتهبة , تهوي من أعلى السماء , وتسقط على قمة الجبل .. واختفت بعدها خلف أشجار الزيتون ..
” اشتغل المدفع ..! اشتغل ..!” صاح سليم وهو يصفِّق بيديه فرحاً .
ولما اقتربنا منه , بدأ يحكي لنا أخبار الليلة الأخيرة ..
قال أنه سمع جلبة بباب بيتهم , فنزل ليستطلع الأمر , فرآهم يحمِّلون مدفع أبيه في عربة يجُّرها حصان .. فرجع مسرعاً الى فراشه , قبل ان يلمحه أبيه, فتسوء العاقبة .
” المدفع كان مكوَّن من انبوب كبير من الحديد , يتكئ على رجلتين طويلتين من الأمام , وعلى كتلة لا ترتفع سوى شبر عن الأرض من الخلف , بحيث تتجه فوَّهته بقدر الإمكان الى الأعلى .
كان في أعلاه فتحة , يضع فيها عارف كحل البارود , ويشعله بعد أن يضع فيه كتلة كروية من الحديد , مملوءة بمواد قابلة للانفجار , فتنطلق هذه الكرة الى الأعلى , محدثة بعد انفجارها صوت قوي ..
كان ينتظر وقوع الطائرة الانجليز, في مجال رؤيته ويحرِّك المدفع باتجاهها , ويطلق النار عليها ..” .
هذا ما سمعناه من جابر المحمود , أحد الثوار , الذي كان متواجداً هناك , ورأى الطائرة تصاب أمام عينيه , وتسقط مشتعلة على بُعد عشرات أمتا منه .
” وبعدها رأينا طائرة أخرى تحوم فوقنا , فعرفنا أنها تستهدف المدفع , فهربنا بعيداً عنه ..
إلا عارف .. بقي متشبثاً , يطعمه ” بالكحل والكتل الحديديه , ويطلقها الى الأعلى نحو الطائرات ..
حتى أصابته إحدى الطائرات ..
فحولته , هو ومدفعه , الى شظايا متناثرة ,على مسافة واسعة على قمة الجبل “.
وقصص أخرى كثيرة تروى حول الحادثة .. قد تختلف في تفاصيل أحداثها .. ولكن كلّها تروي بطولات عارف أبو الصنايع .
أو “عارف أبو المدفع” , كما يصِّر الكثيرون على تسميته .
أما مصير أرملته وزوجته فقد قيل لنا .. أن أهلها فقد أخذوهم معهم ,عندما مرّوا من بلدنا , وهم في طريقهم الى بلاد الشّتات .
وتركوا وراءهم بيتهم يحكي الحكاية ..