شموع تضيء، حبّ لا ينضب
تاريخ النشر: 20/08/19 | 10:33بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى يكتبون خلف القضبان لاهتمامي بما يكتبه السجناء وبأدب السجون؛ زرت أحمد وكميل وعاصم، باسم، حسام وسائد، كريم ووليد ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تواصل معي المئات وشدّني ما كتبَتهُ الصديقة الشاعرة مقبولة عبد الحليم: “ما وراء القضبان حياة لا يعرفها سوى من اتخذ الإصرار عمرًا وهويّة…قرأت فأشجاني هذا الوجع الذي اختلط بالكثير من الأمل القابع وراء غيمة ستنقشع قريبًا”، أمّا الزعتريّ أبو رياح فكتب من مخيّمات الشتات: “مباركة جهودك التي تطلعنا من خلالها على أوضاع أسرانا الأبطال والشرفاء في سجون الاحتلال الصهيوني. كل الاحترام لجهودك والتقدير لك ولجهودك الكبيرة والحريّة القريبة بإذن الله تعالى لجميع أسرانا البواسل”؛
وتبقى قضيّة أسرانا المعادلة الصعبة ونتهرّب من مواجهتها!
حكاية جدار
سافرت صباح يوم 31 تموز من حيفا طريق الساحل جنوبًا، والويز دليلي، وإذ به يغيّر المسار مقابل شاطئ قرية الحوارث المهجّرة ويوجّهني شرقًا عبر البيّارات التي تنتظر أصحابها منذ النكبة، فأصابتني غصّة رغم عشقي للخَضار وللطبيعة. وصلت سجن “هداريم”، وبعد طول انتظار، استمر ساعات، التقيت الأسير ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور يواجهني بابتسامة قاتلة لا مبرّر لها لمن يقبع في زنازين الاحتلال منذ عام 1993 ويراني للمرّة الأولى!
رتّبتً اللقاء بعد توصية باسم ووليد وحسام وآخرين، ورغم عناء السفر والانتظار، كان الحديث سلسًا وانسيابيًا وكأنّنا أصدقاء طفولة؛ حدّثني عن علاقته بالجدار، فهو ابن مخيّم عايدة، وحين أُعتقل كتب على جدار زنزانته الأولى: “وداعًا يا دنيا” وتعلّق بالجدار، أصبح الجدار هُويّته وربّه، وأمن بأنّ الجدار هو ثابتك الوحيد فالتصق به ولا تسقط عنه.
تحدّثنا عن الثقب الأسود والكتابات المثقوبة، عن أزمة الحركة الأسيرة، عن القراءة داخل السجن حتّى تخمّر بما فيه الكفاية، وجد أنّ لديه الرغبة في الكتابة ويمتلك القدرة عليها، حلم بشرفة وحديقة وفنجان قهوة وأوراق ليكتب، فأقنع نفسه بأن شبّاك السجن شرفته فبدأ يكتب… ولم يتوقّف.
تحدّثنا كثيرًا عن كتاباته ومشروعه الأدبيّ المستقبليّ، تخمّر وتعرّى وكتب، ولا يخجل من عُريه، تحدّثنا عن أدب السجون على تعريفاته: التقليديّة النمطيّة والحديثة، والابتسامة الطفوليّة تلازمه كلّ الوقت، وحدّثني عن رغبته باحتضان مزيونة ووداد وانشراح وشذا… وجدار عايدة!
حدّثني عن المدرسة الدرويشيّة وقرأ على مسمعي رسالة إلى محمود، لم يبعثها بعد، جاء فيها:
“بيروت اختارت لها عشيقًا أجمل منكَ
وهذي رام الله تخونك مع كلّ عابر طريق
رآها فريسة أكيدة”
تواصل معي الكثيرون بخصوص نشر ما تكتب، وكلّي أمل أن نلتقي قريبًا في حيفانا أيّها الناصر لنحتفل بإشهار إصدارك الأوّل!
يافاوي يا برتقال
التقيته صباح 31 تموز في سجن “هداريم” وقابلني بتلك الابتسامة البريئة وكأنّي بالزمن قد توقّف منذ لقائنا السابق يوم 12 يونيو؛ عانقتُ الروائي الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي عبر ذلك “الحاجز الزجاجيّ” المقيت، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا ذاك الحديث وكأنّه كان بالأمس.
تحدّثنا عن طقوس كتابته والعلاقة بين الكاتب والمتلقّي، عن رسالته يوم 23 يونيو إلى قُرّاءه وتعميمها من قِبل أخيه أديب عبر 31 صفحة فيسبوكيّة، من ضِمنها صفحتي، تفاعُل جمهوره معها، فكانت بُعَيد لقائي به، والمرّة الأولى التي يتوجّه بدون نص أو قصيدة. في تلك الزيارة قال لي: “أشعر أنّ اليوم عيد ميلادي لأنني سجين منذ خمسة عشر عامًا وللمرّة الأولى يزورني “غريب” بسبب كتاباتي، أشعر حقًا أنني اليوم أصبحت كاتبًا!!!”، وها هو يشعر لأوّل مرة منذ دخوله في درب الكلمات أنّ ثمة من يكترث لكتاباته، فمتابعيه هم متنفّس كلماته.
تحدّثنا كثيرًا عن مشروعه الأدبيّ المستقبليّ، عن ترشيح دار الآداب روايته الأخيرة “خسوف بدر الدين” لإحدى الجوائز، عن لقاء تلفزيوني في قناة مساواة حول أدبه كنت قد شاركت وصديقي د. صالح عبود تلك الحلقة والقصيدة التي نظمها له.
تناولنا يافا، رام الله وباريس وما بينهم، الرواية التاريخيّة الحديثة، عبق برتقال يافا يحلّق بالأفق، الابتسامة لا تفارقه، ومرّت الساعات بلمح البرق.
حدّثته عن فكرة مشروعي “لكلّ أسير كتاب”، وعن منتدى الكتاب الحيفاوي ففاجأني سائلًا: “ما هو كتاب لقاء اليوم”؟ فأجبته: جحيم دانتي والكوميديا الإلهيّة. هزّ رأسه وعبّر عن خيبته من عدم تمكّنه مشاركتنا اللقاء، فهو يقرأه كلّ كانون أوّل من كلّ عام منذ أسره… كلٌّ وجحيمُه.
لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في منتدى الكتاب الحيفاوي، وأعدك أن يكون اللقاء حول أحد أجزاء الكوميديا الدانتيّة؛ فحيفانا ستبقى حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، فهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
لقطت الصنّارة
التقيته صباح يوم 15 آب في سجن “مجيدو”، قابلني بتلك الابتسامة السرمديّة وكأنّي بها لم تفارقه منذ لقائنا السابق يوم 20 يونيو في سجن الجلبوع؛ عانقتُ الأسير حسام شاهين عبر ذلك “الحاجز الزجاجيّ” البغيض، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا حديثنا.
بلّغته سلام نسيم، ريما، سوسن، جهاد والعائلة وأغنية الوالدة آمنه صباحيّة العيد: “إلّي بتحب النبي سعيده وتصلّي عليه…حسام لابس البدله والبدله لايقه عليه… إلّي بتحب النبي سعيده وتصلّي وتصوم… حسام لابس البدله والبدله لايقه ع الطول… وإلّي بتحب النبي سعيده يمّه سعيد… حسام لابس البدله والبدله يمّه جديده”، حدّثته عن لقائي وزوجتي سميرة مع قمر، حمزة، محمد، شيرين وعماد في مطعم الفلّاحة، حدّثني بدورِه عن قمر التي كانت آخر صورة له قبل الاعتقال يوم 28 يناير 2004 ،حينها عصّبوا عينيه وهي بحضن والدتها شيرين “بتطلّع عليه”، وما زالت الصورة مطبوعة في مخيّلته تمدّه بالأمل.
حدّثته عن مشروع “لكلّ أسير كتاب”، تناقشنا عن أهميّة الأدب واتفقنا أنّ الأدب يُثقّف ويُسيّس ويُعمّر أكثر من السياسة، كلّ شعوب العالم تقرأ الأدب أكثر من السياسة، أهميّة توظيف القصّة/الحكاية الشعبيّة والرواية التاريخيّة في المشروع الوطني، أهميّة إعادة إحياء المشروع الوطني عبر الأدب والتراث، وقال: اللقاء الأوّل كان هزّ الشجرة والثاني قطف ثمارها!!
حدّثني عن نقله من سجن لآخر ودورة التدريسيّ والتثقيفيّ داخل السجن، حرمانه من التواصل مع أهله…وقمره!
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت ساعتان وحين وقفت لوداعه طلب أن أخبره المزيد حول انطباعي من قمر وقال: “لقطت الصنّارة”.
لك عزيزي الحسام أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفا، بإطلالة قمرك والغد المشرق في سماء الوطن.
حسن عبادي
***الأسير ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور من مواليد 1966، أُعتقل يوم 4 كانون الثاني 1993 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.
***الأسير باسم خندقجي من مواليد 1983، أُعتقل يوم 2 تشرين الثاني 2004 حكمت محكمة سالم العسكريّة بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد ثلاث مرات.
***الأسير حسام شاهين من مواليد 1972، أُعتقل يوم 28 كانون الثاني 2004 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن 27 عامًا.