“أنفاس العدم”
تاريخ النشر: 27/08/19 | 9:23أسهمت الحداثة إلى حد كبير في تحرّر الشعر العربي من أسْر التاريخ وقانون الجماعة، من نمطيّة النظرة الدينيّة الفقهيّة، من سلطة المُعجم والماضي، مقدّساً كان أو تاريخيّاً، كما أسهمتً في دفعه إلى اتّجاه التفكير الفلسفيّ والحدس وتحريض اللاوعي، من خلال تخطّي موضوع الشكل الشعريّ وتجلّياته في قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر مما يطفو على سطح الحداثة إلى الأعمق ليتّصل بإعادة النظر في تعريف الشعر نفسِه، وتعميق مفهومِه ودورِه، وفتحِه على المغامرة الإنسانيّة الكبرى.
هكذا نجح الشاعر منتصر منصور في الكثير من قصائد ديوانه “أنفاس العدم” (الصادر عن دار الأهليّة للنشر والتوزيع، الأردن، 150 صفحة، لوحة الغلاف: جينيفر هرنانديز، عن “فراشات”؛ له عدّة دواوين شعريّة ومنها: “عندما تجهض الحريّة”، كن محاربًا، “لا أقول” وغيرها) بتخطّي القصيدة التّقليديّة، من خلال قصيدة التّفعيلة وقصيدة النّثر، منطلقًا نحو الحداثة كشكلٍ ورؤيا، تساؤلٍ واحتجاج ورفضٍ، إنّه خطاب التّساؤل والتّعدّد الدّلاليّ، خطاب القراءة المفتوحة الآفاق. نجح منتصر في الانطلاق، محقّقًا قفزة نوعيّة واضحة في عدد من قصائده، لكنّه في عدد منها ما زال يتخبّط بين الوضوح والشّعاراتيّة والأيديولوجيّة المباشرة. من هنا، تتفاوت القصائد بين تقليديّة، وأخرى من قصيدة النّثر؛ بين رمزيّة موحية، توحي أكثر ممّا تقول، تعتمد الحداثة، كتوظيف التّناصّ والتّصوّف وغيرها.
يُعتبر العنوان أهمّ عناصر النّصّ الموازي، وعتبته الأولى، فإنّ الشاعر لم يختر عنوان الديوان بشكل اعتباطيٍّ، بل أجهد نفسَه لاختياره في عمليّة ميتاشعريّة نقديّة، ليختار عنوان قصيدته الثالثة “أنفاس العدم” عنوانًا لمجموعته ليجعلنا نتساءل: هل للعدم أنفاس؟ فنجد الإجابة في الإهداء “للعاطلين عن الأمَل مثلي. تودّدتُ إلى الحلُمِ فبكى، أنَذوب في خلّاطِ التَّهويد ونشتري للزمنِ عضّاضَة؟!” جعل منتصر للعدم أنفاسًا تطير وتحلّق كالفراشات التي نراها على لوحة الغلاف الأزرق، لون السّكينة والهدوء النّفسيّ، مَبعث الأمل.
كي تكونِ أديبًا وشاعرًا في يومِنا، عليك أن تكون مثقّفًا، وكي تكون مثقّفًا، عليك ان تكون قارئًا ثم قارئًا ثم قارئًا، ومنتصر نِعمَ المُثقّف – فقدْ أخذني معَه بسلاسةٍ ولباقةٍ، ودون تكلّفٍ إلى عالمِه، روّضَ الأسطورةَ في شعرِه لتخدم فكرةً أرادَ إيصالَها ونجحَ بمهارةٍ دونَ مواربةٍ ورياءَ.
عنوَن إحدى قصائد الديوان “نرسيس لم يمت”(ص.108) وأخذني إلى رواية “نرجس العزلة” للأسير باسم خندقجي؛ يُعيدني العنوان إلى الأسطورة اليونانيّة ونرسيس الذي عُرف ب”نركسوس” أو نرجس الذي كان مصدر إيحاء لنظرية العقدة النرجسية لسيجموند فرويد التي تقول بأن نرجس يمثل الشخص الذي يعجب بنفسه ويعتز بها لدرجة تُنسيه إعجاب الآخرين به، وتُنسيه أيضًا حبّه وإعجابه بالأخرين، والذي يؤدي في النهاية، لانسلاخه عن المجتمع الذي يعيش فيه وتكون نهايته حينئذ الموت أو الفناء:
“صورتي في الماءِ لا تُشبهني
كأنّها تقول لي:
نرسيس لم يمُتْ
نثرَ الرمادَ على سجيتِه وانتظَر
فيا نرجِسُ، من قتلَك؟
…..
نرسيس لم يمُتْ
همسَتْ في أذني:
نرسيس مات فينا”
وكذلك الأمر في قصيدة “وحشُ الهيدرا” (ص.25) التي أخذتني إلى رواية “كبرتُ ونسيت أن أنسى” للروائيّة الكويتيّة بثينة العيسى، فيحكي لنا الداعشيّة عبر تلك الأسطورة:
“دال: داءُ غباءٍ دوَّى
ألف: أعمِدَةُ دخانٍ
عين: عينُ الموتِ
شين: شرُّ البليّةِ ما يُربِك
…..
لا أحدٌ هُنا لا أحَد
وحشُ الهيدرا
يجلدُ بلادي
على ظهرِ بلادي
…..
حمامةٌ زاجلة تهدِلُ:
حاء: حياةٌ تحتَ حِمَمِ الموت
راء: رمادٌ أرمدَ العيونَ الحالمَة
ياء: يومُنا المُسجَّى بدمِه
تاء: تفاحةٌ في تابوت الحُريّة”
ونُلاحظ أنّ الأحرف الأولى للأربعة أبيات الأولى تشكلّ كلمة داعش والأحرف الأولى للأبيات الأربعة الأخيرة تشكلّ كلمة حريّة.
وهكذا حين جيّر الروبوت (ص.46)، والانفلونزا (ص.88) والأوركسترا في قصيدة “أحدّق في الغريب”(ص. 96) فيقول:
“تعزف الحياةُ ضدَ
عقاربَ الساعةِ
كأنّكَ تنوّتُ الغربَةَ لحنًا قديمًا
في أوركسترا الحداثةِ
كأنَّكَ مَخالبُ ذاكرةٍ تنمَّرت”
لم يُقحمها منتصر كغيره، وخاصّةُ أميرات الفيس بوك، لاستعراض العضلات المعلوماتيّة بهدفِ الإشارة إلى سعة اطلّاعه وثقافته المتنوعّة دون حاجة لذلك، لم يزجُّها بتكلّف مشيرًا إلى ثقافته العالية بتصنّع، لا غير، مما لا يخدم النص، بل جاءت بُنيويّة أصيلة لا دخيلة!
يأخذنا منتصر في رحلة وجدانيّة في واقع يغمره الاغتراب والتّشظّي، وأصعبها الشعور بالغربة داخل الوطن؛ نلمسها في قصيدة “طين الهذيان” (ص.34)، قصيدة “في القطار”(ص.67)، قصيدة “أنفاس الطيور”(ص.40) حيث يقول:
“أجلس في مقهىً
على ناصيةِ الغَدْ
أطلُب فنجانين من القهوةِ
فيسألني النادلُ
لمن هو الآخر؟!
أجيب:
هكذا أتودَّدُ إلى الغريبِ فيَّ”
وقصيدة “غيابي عنّي” (ص.37) حين يصرخ:
“أُفتِّشُ عنّي ولا أجدُني
أنا شَبحي أحلِّقُ في سِربٍ
من سراب فلا مكرُ حيلةٍ تجعلُني
أسبِقُ قدري ولا فكرةٌ حُبلَى
في بطنِ وحدتي
تُنبئءُ بمطرٍ خفيفٍ
يُنبِتُ عُشبَ الذّاكرةِ
أراني كقنبُلَةٍ مزَّقتني
ألفَ خبرٍ في (فضائيِّة)
حلُمٌ أسودُ، بحرٌ أسودُ، قمرٌ أسودُ
أراني ولا أعرفُني
في محطَّةِ الغُرْبَةِ”
يأخذنا منتصر منذ صفحة الديوان الأولى إلى تساؤلات وجوديّة في بحثه عن اليقين، ولمّا أخذ الإنسان الحداثيّ يبحث عن جوهر مصيره اندفع إلى التّجربة الصّوفيّة كظاهرة كونيّة عامّة تحلّق بعيدًا عن الحدود، أيًّا كانت، فيغوص في الصوفيّة والتصوّف ليهرب من وجعه، وإذا كان منتصر كشاعر قد تأثّر بالصّوفيّة في سعيه للوصول إلى الحقيقة، فهو يصبو إلى التحرّر من القمع والقهر، كذلك التّحرّر من قيود العبوديّة، على أشكالها. يبدأ شاعرنا رحلته الصوفيّة من القصيدة الأولى “مدينة الصّمت”(ص.7):
“الصَّمتُ في مخابئِ الصَّوتِ
وخُطى اللَّيلِ على جليدِ الوقتِ
تتركُ أثَرًا لصَهيلِ العودَةِ
من سماءِ الحُلُمِ تراهُم
يسلخونَ جِلدَ المكانِ عن أرواحِنا”
وفي قصيدته “أنفاس العدم” (ص.9) التي يحمل الديوان اسمها يقول:
“أنفاسُ العدَمِ فكرةٌ خلفَ القضبانِ
شهيقُ النَدى على أوراقِ الحلُمِ
ضوءٌ أبديٌّ يُحنِّي ضفائرَ
النَّرجسِ على ضفافِ اللَّيل
…..
أيمكننا تعتيق الوقتِ كالعِنَبِ
فنستردَّه متى نشاء؟!”
بعد النكبة شاع مفهوم “الأدب الملتزم” وبرز شعرائُنا الكبار أمثال راشد حسين، حنا أبو حنا، توفيق زيّاد، محمود درويش، سميح القاسم وغيرهم، ولكن تبيّن لاحقًا أنّ تم تجريد هذا المفهوم من جماليّة الكتابة لصالح الجانب التعبويّ والشعاراتيّة وخطابة المنابر، مما أدى إلى تنحّي جماليّات الكتابة الفنيّة وتمّت صناعة صورة نمطيّة مُقَوْلَبة كان الخروج عليها يُعدّ ضربًا من التابو الأدبيّ أو الثقافيّ والنضاليّ، ربّما تعويضًا عن الشعور بالهزيمة والاحباط والخَيبات المتلاحقة وصار النضالُ، على أشكالِه، والمقاومةُ تربة خصبة لزراعة أمنياتنا وطموحاتنا وأحلامنا التي عجزنا عن تحقيقها موضوعيًّا. أنتجنا أدبًا شعاراتيًّا نمطيًا مُتشابهًا، تتغيّر فيه الأسماء، وتبقى الثوابت الأساسيّة دون مسّ، وكانت المشكلة هنا، هي أن موضوعًا كالقضيّة الفلسطينيّة، لم نستطع أن نبلوره ونشكّله كخزّان ضخم لكتابةٍ جماليةٍ عاليةٍ، الأمر الذي أساء إلى القضيّة نفسِها قبل أن يُسيء إلى الأدب، لاحقًا. عندما قرأنا أدب أميركا اللاتينيّة، وبعض الآداب الأوروبيّة المقاومة، اكتشفنا كم كنّا بعيدين عن صون قضيّتنا في الكتابة، واكتشفنا كم ساهمنا في إضعافِها، لأنّ تلك الآداب الأخرى قدَّمت أبطالها وقضاياها كما ينبغي لها أن تكون، لا كما تُحب لها أن تكون. لكنّ منتصر لم يقع في فخّ النمطيّة، غرّد خارج السرب ليكتب شعرًا آخر من المدرسةِ الأدونيسيّةِّ والدرويشيّةِ ونجحَ في ذلك.
ابتعد منتصر عن تلك النمطيّة، التي ميّزت قصائد البدايات، لنجد قصائد الديوان مليئة بالحسّ الوطني والانتماء، كما نرى في قصيدة “أوبرا الصّدى” وقصيدة “على ناصيةِ الكلام الأخير”(ص.135) حين يقول:
“تحرّرنا من شِباكِ الصّمتِ
أعدنا ترتيبَ الوجَعِ بما يناسبُ ارتباكَنا
ضمَّدْنا جُرحَ التّاريخِ بتنهيدةٍ فيروزيّةٍ
وارتشفنا نداءَ البحرِ في يافا
نخبزُ الأغانيَ القديمةَ في تنّورِ النِّسيانِ
ونغرسُ في ملحِ الرُّوحِ زهرةً
نخلعُ أحذيةَ الحنينِ
في الشوارع المُضيئةِ”
ابتعد منتصر عن فزعات العرب الموسميّة والاستنكارات الفيس بوكيّة التي تميّز قادتنا ومشايخ الفيس بوك ليصرخ ضد قانون القوميّة كما نلمس في قصائده “حليب اللغة” (ص.120)، “بطاقة الغربة”(ص. 125)، و”الغُراب والقُبّرة”(ص.144) فيقول:
“ربّما لملمَ التاريخُ صداهُ ورَحَلَ
وأجهضَ الليلُ حُلمَهُ
في محراب الأملْ
…
لا خوفٌ علينا ولا حَزَن
أميلُ في فكرتي كشمعةٍ تراوغُ العتمةَ
في جسدي أثبّتُ أوتادَ الضّوءِ
في متحفِ الوقتِ”
يصرخ شاعرنا ضدّ الأسرلة في قصيدته “الصّبيُّ والنائب”(ص.10) فيقول:
“الصَّبيُّ:
حلُمي بحجم كرةٍ في كفِّ يدي
كأن أرى وجهَ جدّتي وطنًا
….
حُلُمي من سوادِ
يومي علمٌ ينشُرني ضوءًا
على حبلِ الوقتِ المُبَخّرِ
يراوغُ صوتَ النايِ القديمِ
وعزفًا ثوريًا مُحتمَلًا”
ويبقى منتصر متفائلًا يحلم بمستقبل رُغمَ “الصّندوق الأسود”(ص. 8):
“يغمّسُ فتاتَ الضَّوءِ
بدمعِ السَّماء ويُعتِمْ
الليلُ في زيارةٍ إلى طبيبِهِ النفسيّ
الغدُ ضميرُ غائبٍ
في الصّندوقِ الأسودِ
القمرُ في بحرِ دمِه
كوجَعِ البلاد تُنبِتُ أحلامًا”
يحمل شاعرنا الهمّ الفلسطيني، ملتزمًا بقضيّته شعرًا وصاحب هُويّة واضحة دون تأتأة فيقول في قصيدته “هُويَّتي”(ص.117):
” هُويَّتي
قصيدةٌ تفتّشُ في النَّايِ الحزينِ
عن الصّدى وأهلِه
حجرٌ سقطَ من الجنّةِ
فصار ثمرًا تلتهمَه الذاكرةُ وتَنسى
……
هُويَّتي
صلاةٌ في محرابِ الغَدِ وقامةٌ مصلوبةٌ
على جدارِ الحُريّةِ والألمْ”
هذا هو منتصر منصور!!
عزيزي منتصر: انطلق أكثر، لا تتقيّد، ثُر وحطّم كلّ القيود. لا تجعلَ شِعرك محصورًا في حدودٍ مكانيّة تقيّدُكَ، فالحداثة تتخطّى الحدود ولا تعترف بالأبعاد وتُبحر نحو المطلق، انطلق نحو الإنسانيّة العالميّة كمحمود درويش، فأنت لها.
حسن عبادي
(أُلقيت كمداخلة في أمسية إشهار الديوان يوم 23 آب 2019 في مجد الكروم، نظّمتها الشبيبة المجدلاويّة للتغيير)