“حب في المجَرَّة”
تاريخ النشر: 03/09/19 | 14:31أواكب في السنوات الأخيرة أدبَنا المحلّيِّ وما يرافقُهُ؛ أفتقد النقّاد والنقد الأدبي الموضوعي الغائبان عن الساحةِ. إنّني أعِي بأنَّ مشكلةَ معظمِنا هي أنّنا نُفضّلُ أن يقتُلَنا المدحُ على أن يُنقذَنا النقدُ ولكن رُغم ذلك يستفزّني الأمر حين أقرأُ مقالةً نقديّةً يقولُ فيها “الناقدُ” كلَّ شيءٍ ولا يقولُ شيئًا. يمشى على حافّةِ الكلماتِ وبينَ الأحرفِ، مستعينًا بمفاتنِ اللغةِ العربيّةِ لشدّ عضلاته البلاغيّة، ليُصدرَ مقالةً مُدَبلجةً بلا لونٍ.. أو بشكلٍ أدقَّ، مطرّزةٍ بكل الألوانِ، لا يُبالي بدحشِ التناقضاتِ في جملةٍ أو مقالةٍ واحدةٍ حسبِ “المصلحة”.
آن الأوان لنتعامل مع النصوص بدلًا عن تعاملنا مع الشخوص، أن لا نكون مجرّد “سحّيجة” مطبّلين مزمّرين، خِدمة لضادنا ولإثراءِ أدباءنا وأدبِنا المحليِّ!
قرأتُ ديوان “حب في المجرَّة” للشاعر كمال إبراهيم الصادرِ عن دار الحديث الكرمليّة وهو يحوي في طيّاتِه واحدة وثلاثين قصيدة كُتِبت أو نُشِرت خلال أربع وسبعين يوم (من 25 شباط حتّى التاسع من أيار 2019)!!!، والغلاف يحمل بصمات الفنّانة ملِكِة زاهر، جاء الغلاف كعتبة نصيّة موفّقًة، وليس مجرّد لوحة أو صورة مجهولة الهويّة، مُغَوغلة بلا حسب ونسب! (الشاعر كمال إبراهيم من سكّان المغار الجليليّة، أصدر الكثير من الدواوين الشعريّة ومنها على سبيل المثال، لا الحصر: “حديث الجرمق”، “أخر النفق”، “أنتِ قصيدتي”، “رذاذ ومطر”، “رحيق وعسل”، “جرعات شوق”، “عطر وجوى”، “صراع الكلمات”، “نسمة الروح” وغيرها).
أمّا بالنسبة للإهداء كعتبة نصيّة أخرى – لم أجد في طيّات الديوان “الذين ينبذون الظلم والطغيان” و”كلّ فقير جائع عطشان” بينما وجدتُ بغزارة محمودة هؤلاء “الذين ينشرون الحبّ في الأوطان” وكذلك “كلّ شاعر فنّان” وهم كُثُرٌ في أيّامنا.
قرأت قصائد الديوان عدّة مرّات فوجدتها بغالبيّتها قصائد مُغنّاة؛ وفي القصيدة المُغنّاة يميل الشاعر نحو إكساب نصّه بُعدًا إضافياً وانتشارًا نتاج مزج فنّ الشعر بالغناء. كثير من القصائد التي امتزجت مع الموسيقى، ورقصت على وقع ألحانها، متمرّدة ورافضة أسرِها في الكتب والدواوين، صارت في متناول الجميع.
يعبّر الشعر الغنائيّ عن الأفكار الشخصيّة والعواطف، والقصيدة الغنائيّة لديها قيود قليلة وقد تتّخذ العديد من الأشكال الهيكليّة، فتأتي “حرّة”. نشأت بين الإغريق القدماء وأعربت عن مشاعر الحب أو الاحتفال أو الثناء أو المرارة، تعبّر عن الحب والمحبّة، ولاحقًا استخدم الشعراء الرومانسيّون القصيدة الغنائيّة كوسيلة للتعبير عن المشاعر المندفعة التي تميّزت بتلك الحركة.
كأنّي بكمال إبراهيم يكتب قصائدَه لتكون كلماتها أغنية، سهوًا أو لا شعوريًا.
كتب أحمد شوقي قصيدته “يا جارة الوادي” فغنّاها عبد الوهّاب وفيروز، وقصيدة “مُضناك” غنّاها عبد الوهاب؛
كتب حافظ إبراهيم “وقفَ الخلقُ” فغنّتها إم كلثوم؛
كتب إبراهيم ناجي “الأطلال” فغنّتها إم كلثوم؛
كتب نزار قباني “حافية القدمين” وغنّاها كاظم الساهر، “كلمات” غنّتها ماجدة الرومي؛ “قارئة الفنجان” غنّاها عبد الحليم حافظ وقصيدة “أيظُنّ” غنّاها عبد الوهاب.
أمّا صديقي الراحل أحمد دحبور؛ كتب قصيدة “والله لأزرع لك بالدار يا عود اللوز الأخضر” فغنّتها فرقة العاشقين؛
وكتب شاعر العروبة سميح القاسم “منتصب القامة أمشي” ليغنّيها مارسيل خليفة الذي غنّى أيضًا قصائد لمحمود درويش ومنها “أحنّ إلى خبز أمّي”
وكذلك رائعة توفيق زياد “أناديكم” التي غنّاها أحمد قعبور والشيخ إمام.
وها هي قصائد الديوان غزليّة، شاعريّة وغنائيّة بغالبيّتها، وكما كتب الدكتور أحمد فرحات في كتابه “القصيدة المغنّاة” نجدها صالحة للغناء من حيث معانيها، لغتها الانسيابيّة، ألفاظها، غريزيّة مشاعرها وكونها خبيثة الهوى وقليلة الحياء.
ينشدُ كمال إبراهيم غزلًا رقيقًا في قصيدته “سعادتي” (ص.33):
“سعادتي تكمُنُ في لُقياكِ
في حديقة غَنّاءَ
بين الغُصونِ وشدْوِ البلابل
…….
يا مليكةَ الحُسنِ والجمال
داعبيني في الواقع والخيال
جئتُكِ ألهو مع النجوم والقمرْ
أسأل الله أن يُطيلَ السهر
لأعيشَ وإيّاكِ مُتعةَ اللقاء
إكليلُها العِشقُ ونشوةُ الهناء”
ويعبّر عن حُبّه وشوقه لحبيبته في قصيدته “سأكتب لكِ” (ص. 49):
“سأكتُبُ لكِ ألف قصيدة
أُرسلُها إليكِ مع الطَّير تَغريدة
قولي: “أنا محظوظةٌ بالحبِّ سعيدة
………
فإيّاكَ أن تهجُرَني،
مهما طال الزَّمانُ،
إنّي أُريدكَ لي دينًا وعقيدَة،
أسعدَ الله قلبّينا يا حبيبي
يا مَن صِرتَ أُمنيّتي الجديدة”
قيل في حينه: “اطلبوا العِلمَ ولو في الصين” لأهميّة العِلم وبُعد الصين آنذاك، فكانت في حينه أبعد بقاع العالم عن الجزيرة العربيّة، ولأهميّة الحبّ والغزل يطير إبراهيم في رحلةٍ جويّةٍ في طلبِ الحب فيقول شِعرًا في قصيدته “رِحلة إلى بكين”:
“سألثُمُ خدَّكِ الورديَّ
بشفتَيَّ الزهرِيَّتَينْ،
سأُداعبُ خصرَكِ النحيل
كما تشتهينْ.
….
كتبتُ فيكِ قصيدتينْ:
واحدةً دوَّنتُها بسطرَينْ:
أهواكِ حبيبتي،
يا كحيلةَ الرِّمشَينْ
وأُخرى طويلةٌ
تأخذني في رِحلةٍ جوِّيَّةٍ
إلى بكين”
يطير إبراهيم أبعد من الصين في رحلته العشقيّة الغزليّة ليصل إلى المّجَرَّة، والمجرّة حسب معرفتي الفلكيّة المتواضعة عبارة عن تجمّعات هائلة الحجم تحوي على مليارات النجوم والكواكب والأقمار والنيازك، وقال في حينه ابن نباتة السعدي عام 938:
“وكم في المجرّة من أنجم لفرطِ التقارب لم تُحسَسِ”
فيقول في قصيدته “حُبّ في المجرّة” (ص.58) التي تحمل عنوان الديوان:
“فأنا أُريدُ الوصلَ ولا أُريدُ أن تنكسِرَ الجرَّة
أُريد جُرعةً مِنَ الحُبِّ ألقاها ولَوْ في المجرَّة
هيّا نطيرُ بعيدًا إلى حيثُ الحُبُّ لهيبَ جمرَة
نُغادرُ كَوكب الأرضِ معًا لِنلقّى هناك المسرَّة”
وقبل النهاية، أُعجبت بالديوان رُغم أنّني لا أفهم في عروض الشعر وقوالبه وأتركها للنقّاد المهنيّين، فقراءتي انطباعيّة، لكنني أستطيع أن أجزم أنّ شاعرنا أيضًا لم ينظم بحسب الموازين الشعريّة، ناهيك عن أنّ أوزان الشعر وُضِعَت بعد الشعر!
أسهمت الحداثة إلى حدٍّ كبير في تحرّر الشعر العربي من أسْر التاريخ، خلال تخطّي موضوع الشكل الشعري وتجلّياته، تعميق مفهومِه ودورِه، وفتحِه على المغامرة الكونيّة، فنصيحةٌ لي لك شاعرنا: تلحلح وفكّ القيود وانطلق! آن الأوان لتتحرّر وتتحدّث (من الحداثة) وتنطلق بمشاعرِك المتدفقّة وشاعريّتك المرهفة إلى قمم أعلى وآفاق أبعد، بعيدً عن المُباشرة والتقريريّة.
وأخيرًا، وجدتها في نهاية الديوان رسالة قويّة وهادفة من جدٍّ محبٍّ إلى أحفاده؛ إلى سيف وعلم، وإلى أنيل ورسيل؛ حماهم الوارث الذي أنعم فيهم وأكرم ليحقّقوا العلم والأدب النبيل، في ظلّ جدّهم المحبّ، العاشق الولهان.
حسن عبادي
(ألقيت كمداخلة في أمسية إشهار الديوان يوم 23حزيران 2019 في المغار)