مأساة ابن المقفع
تاريخ النشر: 24/09/19 | 22:04تعج كتب التاريخ بالمعارضين عبر العصور وهم على كثرتهم يوجهون سهام المعارضة لكل شئ وأي شئ بموضوعية أحيانا وبدونها في أحيان أخرى، وهذه هي المعارضة السلبية التي لا تثري الواقع فهي لا تمتلك رؤية حقيقية أو تصور بديل قابل للتطبيق لذا فهى لا تبني حراكا حقيقيا نحو مستقبل مغاير ولكن قلما يقع نظرك على المعارض الإيجابي الذي يشخص الداء ويشرّح جسد السلطة العليل ويمتلك آليات و أدوات الإصلاح بما يكفل درء الداء وتصحيح المسار عبر ألوان من الرقابة المستمرة والمتابعة وتقديم أوجه الدعم والمشاركة عبر برامج ومشاريع إصلاحية قابلة للتطبيق الناجع.ومن أبرز الإيجابيين المعارضين الذين عرفهم التاريخ عبد الله بن المقفع .
عبد الله بن المقفع نشأته وصفاته :
هو روزبه بن داذويه ولد في قرية جور بفارس، ثم انتقل إلى البصرة، وتعلَّم العربية، ودرس وتخرج على يد عبدالحميد الكاتب، كان مجوسيا كأبيه وعن سبب تسمية أبيه بالمقفع لاتهامه بسرقة أموال من خراج فارس وكان قد ولّاه عليها الحجاج ابن يوسف الثقفي فعاقبه الحجاج بالضرب على أصابع يديه حتى تفقعت أي تورمت واعوجت وشلت في النهاية ومنها عرف بالمقفع …تفرد روزبه بالجمع بين الثقافة الفارسية والعربية وحينما أوشك نجم الدولة الأموية علي الأفول والتي كانت شديدة العصبية للجنس العربي كان روزبه على أهبة الإستعداد للإنغماس في النظام الجديد المنحاز للموالي وهو الدولة العباسية الوليدة حيث اتصل بالأمير العباسي عيسي بن علي(عم الخليفة، أبي جعفر المنصور) والي الكوفة حيث أشهر إسلامه بين يديه وسمى نفسه «أبا محمد عبد الله» وأصبح من كتبة الدواوين في ولايته.
تميز (ابن المقفع) بذكائه وحكمته فهو المحب لأصدقائه كما يظهر من كتاباته ومنها قوله:”ابذل لصديقك دمك ومالك” وحينما سُئل ابن المقفّع “من أدّبك”؟ كانت إجابته شديدة البلاغة: “إذا رأيت من غيري حسنا آتيه، وإن رأيت قبيحا أبَيْته”. وعن حفظ الجميل يقول : (إذا أسديت جميلا إلى إنسان فحذار أن تذكره وإذا أسدي إنسان إليك جميلا فحذار أن تنساه) كما يقول: (إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوبُ فانظر أيهُما أقربُ إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى). كما عرف عنه كراهيته للنساء إلى حد وصفهن بالطعام لاياكله الإنسان إلا إذا جاع والطعام سريع الفساد!
وكان معاصروه يقولون عنه (لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل ابن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع).
كتاب كليلة ودمنة ورسالة الصحابة :
لعب ابن المقفع دور المعارض الناصح ولكن الحاكم في هذه الحقبة الزمنية أصبغ علي نفسه حكما ثيوقراطيا مطلقا وهو أبو جعفر المنصور فقد خطب في الناس قائلًا: «أيها الناس! إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلاً، فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه قفلني) وبهذا صار الخليفة المتحكم في أرواح الناس وأرزاقهم فشاع الفساد في أرجاء الدولة وأصبحت الفجوة مترامية بين الفقراء من عامة الناس والأغنياء من البيت العباسي ، و للشاعر «أبو العتاهية» قصيدة ترصد الواقع بجلاء:: (من مُبلغ عني الإمام نصائحًا متوالية/ إني أرى الأسعار، أسعار الرعية غالية/ وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة فاشية/ وأرى غموم الدهر رائحة تمر وغادية/ وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخالية/ يشكون مجهدة بأصوات ضعاف عالية)
لم تكن ملامح هذا الفساد مستترة على ابن المقفع وقد كان يعمل بالديوان فالأموال تأتي من الأمصار إلى بغداد مقر الحكم دون أن تدون في سجلات وكان يرى أنه لا مناص من الإصلاح بالعودة إلى النظم الإدارية الفارسية، التي استرشد بها الفاروق عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” في بناء الدولة الإسلامية، والدولة تعيش في فوضى من الأحكام فالقضاة لا يستندون في أحكامهم إلى تشريعات أو قوانين محددة فنبه على حتمية استقلال القضاء والأتفاق على آلية واحدة تسير بها الأحكام.
نقل ابن المقفع قصص كليلة ودمنة من الفارسية إلى العربية وقد أبدع في الأستعانة بالحيوانات في رمزيات ساحرة متضمنا كتابه اسقاطات سياسية لا تخفي علي عقل حصيف فيورد ابن المقفع في مقدمة كتابة قصة ملك الهند(دبشليم) مع الفيلسوف «بيدبا»، فقد كان دبشليم ملكاً على الهند، إلا أنه حاد عن نهج آبائه وأجداده في ارساء العدل بين رعيته فاستصغر شأنهم ، فطغى تجبّر ، فلما رأى بيدبا الملك علي هذا المنوال جمع تلاميذه مخاطبا إياهم: (اعلموا أني قد أطلت الفكر في الملك وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية، ونحن ما نروض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك إلا لنردّهم إلى فعل الخير، ولزوم العدل، ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذورات إلينا ألم الجهال، وليس الرأي عندي السفر من الوطن، ولا يسعنا في حكمتنا إبقاء الملك على ما هو عليه، ولا يمكننا مجاهدته إلا بألستنا، وإني قد عزمت على الدخول عليه ونصحه، وليكن ما يكون) فدخل بيدبا على الملك مقدما إليه النصيحة فغضب الملك وأمر بقتله ثم خفف حكمه إلى السجن.ويشاء القدر أن يتعرض الملك لإحدي المسائل التي يشعر فيها بحاجته لحكمة بيديا فعفا عنه وأوكل إليه إقامة العدل مخولا إليه كافة الصلاحيات في تحقيق ذلك.وفي ذلك رسالة واضحة لأبي جعفر المنصور
كما يهمس كاتبنا في أذن المنصور في ضرورة اختيارحاشيته ورجال الدولة بمعايير من الكفاءة والقدرة لما لحاشية السوء من دور في إفساد الحاكم وتضليله ونقل الصورة على خلاف الحقيقة لتحقيق مآربهم مما يؤدي في النهاية إلى انفصام عري علاقة الحاكم برعيته فيقول دمنة في باب “الأسد والثور”: ( لا أظنّ الأسد إلا قد حمل عليّ بالكذب وشُبّه عليه أمري، فإنْ كان الأسد قد بلغه عنّي كذب فصدّقه عليّ وسمعه فيّ، فما جرى على غيري يجري عليّ )والأسد هنا رمز للحاكم. وقد أفرد رسالة في هذا الخصوص تحت عنوان “رسالة الصحابة” قاصدا بها بطانة المنصور ، موجها إليهم نقدا مريرا لما يرتكبوه من أعمال ذميمة ، فضلا عن انتقاده لمغالاة قادة الجند في تقديم فروض الولاء للخليفة.
أفكار ابن المقفع :
لقد كان ابن المقفع سباقا في وضع لبنات نظرية العقد الإجتماعي سابقا جان جاك روسو وإن لم يتوسع في الجانب السياسي بحكم طبيعة المرحلة . كانت أفكار ابن المقفع تدور حول ضرورة احترام حقوق الإنسان وتقديرها ، ومنها الحرية ، وإقامة العدل و المساواة الإجتماعية داخل المجتمع دون تفرقة عنصرية على أساس الدين أو العرق ، كما نادى بتثقيف الجند وإبعاد القادة والجند عن ولاية الخراج والأمصار فالولاية وما يتبعها من لين العيش هو مفسدة للمقاتلين، وأن يتقاضوا رواتبهم في وقت محدد دراء للعوز الذي قد يقعهم فريسة للخيانة، كما اقترح إحصاء الأراضي وتسجليها بأسماء مالكيها في دفاتر رسمية، وأن يكون المفروض عليها محددا ، على أسس قانونية محددة مما يدرأ عن المجتمع فساد عمال الخراج الذين يستولون على أموال الناس وأراضيهم دون وجه حق.
وعلى عادة المفكرين القدامي كان يرى صلاح الشعب رهنا بصلاح الحاكم فيقول في رسالة الصحابة ” حسن رؤى الرعية من حسن سياسة الحاكم، وصلاحها من صلاحه”، و ” الناس على دين ملوكهم”. والصواب أن تربية الشعوب وتعليمها وترسيخ القيم فيها لابد وأن تكون مسألة مستقلة عن حاكمه صلح أم لم يصلح .فالمصلح والمخلص والمربي مصطلحات عفى عليها الدهر ولم تعد لائقة بشعوب تنشد الحرية و الحياة .
أسباب مقتله :
تعود مسألة مقتل ابن المقفع كما رواها «الجهشياري» في كتابه (الوزراء والكتاب) حينما دب الخلاف بين أبي جعفر المنصور و عمه «عبد الله بن علي» وقاتله على الخلافة؛ فهرب عبد الله إلى أخويه سليمان وعيسى بن علي بالبصرة، فخشي عليه أخواه من انتقام المنصور، مما دعاهما إلى مناشدة الخليفة حتى يؤمنهما على عمه عبد الله، وكان ابن المقفع كاتبا لدى عيسى بن علي كما أسلفنا فتشدد ابن المقفع في كتابة الأمان، وبالغ في حرصه لمعرفته بغدر المنصور فكتب : «وإن أنا نلتُ عبد الله ابن علي أو أحدًا مما أقدمه معه بصغيرٍ من المكروه أو كبير، أو أوصلت إلى أحد منهم ضررًا سرًا أو علانيةً، على الوجوه والأسباب كلها، تصريحًا أو كناية أو بحيلة من الحيل، فأنا نفيٌ من محمد بن علي بن عبد الله، ومولود لغير رشدة، وقد حل لجميع أمة محمد خلعي وحربي والبراءة مني، ولا بيعة لي في رقاب المسلمين». فاستشاط المنصور غضبا من كاتب الرسالة ابن المقفع ولم يكن ممن يطيقون النقد أو يتقبلون النصح، وكان يأخذ بالشبهة عملا بوصية أخيه الإمام إبراهيم صاحب الدعوة” من اتهمته فاقتله ” والاتهام في ذلك العصر مرادفا للشك، وعقابه هو القتل وللإمام إبراهيم رسالة شهيرة كتبها لإبي مسلم الخراساني بقتل أي غلام بلغ خمسة أشبار إذا شك في ولائه !!. نعود إلى مجلس المنصور فقال المنصور : “أما من أحد يكفينيه”؟ وكان والي البصرة سفيان بن معاوية يكره ابن المقفع فتولى تنفيذ عقوبة القتل بحقه.
أبشع طريقة للقتل عبر التاريخ :
كان بين سفيان وابن المقفع فيما مضى ما أغضب ابن المقفع فسبّ أمه ونعتها بالمغتلمة أي المرأة التي لا تنطفيء شهوتها من الرجال ، فلما ظفر سفيان بابن المقفع قال له: أمي مغتلمة كما كنت تقول إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد!! وتفتق ذهنه عن أبشع صور القتل، قائلا لابن المقفع: والله يا ابن الزنديقة لأحرقنك بنار الدنيا قبل نار الآخرة! فأمر بتنور أشعلت فيه النيران، وبدأ يقطع من جسد ابن المقفع عضوا عضوا وهو حي، ويلقى بها فى التنور حتى يرى أطرافه وهى تقطع ثم تحرق، قبل أن يحرق بالكلية في النهاية .ولكن ابن المقفع قابل مصيره رابط الجأش فأنشد بيتين من الشعر مع أخر أنفاسه
إذا ما مات مثلي مات شخصٌ … يموت بموته خلقٌ كثير وأنت تموت وحدك ليس يدري … بموتك لا الصغير ولا الكبير
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري