في حضور وحضرة الحدث الجماهيريّ الأول
تاريخ النشر: 02/10/19 | 7:30د. تغريد يحيى- يونس
أول حدث جماهيريّ أشارك فيه، بل وجدت نفسي في خضمّه، وثالث أقدم المرّات التي لي فيها ذكرى ذات سياق أو حدث أو شخصيّة سياسي/ة أو ذات صلة به/ا. أتجاوز هنا الاثنتين الأولتيْن مباشرة لقلب المرّة الثالثة، وهي الحدث الجماهيريّ الأول الذي شهدته وشاركت فيه.
صوتٌ غاضبٌ لحشدٍ، أصوات منفردة تجاوبت بصياح وبأسى غاضبيْن. الأصوات الجماعيّة والأصوات المنفردة التي تخلّلته تأخذ بالارتفاع شيئًا فشيئًا، ومعها ارتفع القلق والخوف والتوتر في عيون التلاميذ والتلميذات وفي لغة أجسادهم الصغيرة خلف المقاعد. سمعت الأصوات أقرب ما يكون من الصف، وأوضحها “لا دراسة ولا تدريس الا في حارة الجواسيس”، لكن لم تتيسر الرؤية بعد، ليس من الداخل نحو الخارج. تعابير وجه المعلم أمام الصف زادت منسوب القلق والتوتر والخوف، كما أمكن لطفلة أن تستشعر ولمّا انتهى الشهر الأول من صفها الثاني بعد. دفعة واحدة ودونما مقدمات وبنفس الأصوات اندفع إلى الصف شباب غاضبون. مباشرة من المقاعد الأماميّة بدأوا. يمسكون ذراع التلميذ/ة وينتشلونه/ا من على مقعده/ا. ما كان ثمة حاجة لتكرار الفعل مع بقية التلاميذ. تدافعوا نحو الخارج. فرغت غرفة الصف بالكامل، وسط ذعرٍ ما كان لعيون أطفال في بداية الصف الثاني أن تخطئه.
غرفة الصف هي واحدة من أربع غرف شكّلت معًا مبنى منفصلًا أخذ موضعه من الغرب إلى الشرق، في مدخل المدرسة (أ)، أقدم المدارس النظاميّة في القرية على الإطلاق، مباشرة بعد بوابتها الحديديّة التي أطلّت غربًا على الشارع الرئيسي للحارة التي بنيت فيها، وهو أحد الشوارع الرئيسيّة في القرية عامة. أطلّت أبواب الصفوف الأربعة على ساحة المدرسة المعبّدة (لماذا ساحة المدرسة معبّدة؟!). على بُعد بضعة أمتارٍ غرف إدارة المدرسة والهيئة التدريسية ماثلة من الجهة الشرقية قبالة هذا المبنى المنفصل، وهي جزء من بناية المدرسة الرئيسيّة. ليس مستبعدًا أنّ نفرًا من الحشد الغاضب قد وصل إليها. الصفوف الأخرى في البناية الرئيسية للمدرسة امتدّت بشكلٍ طوليّ من الشمال إلى الجنوب، بعكس أبواب غرف الإدارة وطاقم التدريس التي اتجهت أبوابها غربًا والمطلّة على البوابة الرئيسيّة والمبنى المنفصل المذكور، كانت أبوابها تفتح باتجاه الشرق على حديقة المدرسة، لكن شبابيكها أطلّت غربًا على الساحة. انتهى طرفا البناية الطوليّة بجزأين يتجهان نحو الشرق، كلٍّ منهما عبارة عن طابقين من الصفوف، الأول هو الطابق العلويّ الشماليّ المخصّص للصفوف السادسة، والثاني هو العلويّ الجنوبيّ المخصّص للصفوف الخامسة. قد تكون سائر الصفوف لاقت نفس الحالة التي لاقاها الصف المذكور، لكن ليس بغريب أن ما حصل في الصفوف الدنيا في مدخل المدرسة كان كافيًا ليخرج المدرسة عن بكرة أبيها إلى الساحة. هناك كان يسمع الهتاف المدوّي عن الدراسة والتدريس في ذلك اليوم.
خارج الصف أصبح الحشد المسموع مرئيًا أيضاً. خارج الصف اتضح حجمه. تزايد الحشد كلما خرجت زرافات من العمارة إلى الساحة، وعلى نحوٍ متزامنٍ كلّما تدفّق آخرون بانفعال من خارج البوابة إلى ساحة المدرسة. غاضبون ومنفعلون دون أن يتضح نوع الانفعال على وجه التحديد، ليس لتلامذة الصفوف الثانية بعد. إنها السنة الأخيرة التي ختمت عقد ستينيات القرن العشرين. وسائل الاتصال والإعلام والتواصل ليست ما هي عليه اليوم! فمن أين تأتي المعلومات المباشرة الفوريّة للأجيال الفتية؟! لم يسبق أن صادف أو صودف في القرية جمع بهذا الحجم، ليس في تجربة أطفالها بعد. بالإضافة للصوت وحجم الحشد، خارج الصف اتضحت مؤشرات أخرى أنبأت بأنّ ثمة خطبًا جلَلًا وقع! في الحشد ذكور وإناث، رجال ونساء، من كافة الأعمار، كبار وصغار، شباب وأطفال، وفيه وجوه لم يسبق أن رآها تلامذة الصفوف الدنيا، أو الابتدائية بالمجمل.
على نحوٍ سريعٍ أخذ الجمع وجهته نحو البوابة، وبدأ بالخروج منها نحو الشارع الرئيسيّ. شيء ما دفع بجميع من كانوا بالمكان، بمن فيهم الأطفال، إلى الانضمام إلى الجمع. سرعان ما امتلأ الشارع الرئيسيّ المحاذي للمدرسة بجموع من الناس. بعد قليل من السير في الأماكن الخلفيّة لبحر الناس المتدفّق – في الخلفيّة بحكم السّن على الأقل، وهو بحر بمقاييس ذاك العمر – كان الوصول إلى أشدّ الشوارع انحدارًا في القريةِ سهلةِ التضاريسِ. هكذا من على رأس الشارع شديد الانحدار – “الحَبَلِة” بلهجة هذا الجزء من الفلسطينيّين – أمكن أن تتجلّى جموع من الناس أكبر بكثير من الحشد الأوليّ الذي تراءى لعيون الصف الثاني حال خروجه إلى الساحة، وقد تزايدت الجموع بمضي الوقت. جابت الحشود شوارع القرية، وتزايدت أعدادها كلما مرّت بشارع أو حارة، حيث انضم أهلوها إلى المسيرة.
ثلاثة عناصر رئيسية إضافية تكمل المشهد: تابوت على أكتاف الجموع، بكاء بعض الناس، وهتافات جماعيّة عالية كثيرة أنحفر منها في الذاكرة الطفوليّة الهتاف “بالروح بالدم نفديك يا جمال”. وصل الحدث أوجه بوصول الجموع إلى وسط القرية، وتعالَت الهتافات ومعها مؤشرات التأثّر البادية على الناس. كانت هذه الجنازة الاعتبارية المهيبة للراحل القائد جمال عبد الناصر في قرى وادي عارة والتي اتّخذت مقرّها في كفر قرع، الحدث الجماهيريّ الأول الذي أشارك فيه*.
*عن بقية ذاك اليوم في فرصة أخرى.
السبت، 28 أيلول، 2019
بارك الله فيك وشكر لك ماكتبت! كل التحية وكل التقدير والاحترام مني لشخصك الكريم.
وصف بغاية الابداع ” دمت متألقة يا دكتورة!1!
جمال، رمز القوميه العربيه والنكسه،وتهجم على الإسلام وقتل رجاله، فلم يكتب النصر وكتب الذله والهزيمه النكراء
شكرا لك استاذتنا الكبيرة د. تغريد يحيى
روعة في التصوير كتابةً وسرداً .. لذكرى نقشت في الذاكرة ولدمعة ما زالت متجمدة في المآقي حتى هذا اليوم .. أحييك على هذا التدفق، ودمت بفيك الإبداع والألق
لا أدري ولكن اشعر بأنك تتحدينا بفصاحتك وقدرتك اللغويه باللغه العربيه. لديك مخزون واطلاع بعلم الحروف كما لا نشهده دائما. عندما اقرأ مقالاتك اشعر بالانبهار لعلمك وثقافتك. دمتي لنا فخرا واعتزاز .
معلمتي دكتورة تغريد