تقاطعات متشظية.!
تاريخ النشر: 07/10/19 | 10:58يوسف جمّال- عرعرة
منذ أسابيع كثيرة ,ونحن نلتقي هنا في غرفة واحدة , في مستشفى مختص بالعجزة , أمي وأمه , تقضيان فيه أيام آخر العمر.
أنا أعمل موظفا كبيراً , في أحد البنوك التجارية ..
أم ” رافي” , فقد تبيَّن لي , أنه يعمل في احدى شركات الهايتيك .
في بداية تلاقينا , لم يكن بيننا أي اتصال , حتى ولو تحية صامتة , فليس بيننا معرفة سابقة , تمكننا من فعل ذلك .. ولكن بعد أسابيع قليلة من هذه اللقاءات , تولدت بيننا أشارة تحية , تتكون من إيماءة خفيفة بالرأس , تصاحبها ابتسامة , كانت في البداية خجلة , ولكنها تطورت مع الأيام .. فاتسعت وأصبحت عادة .
وجه “رافي” كان أبيضاً بياضاً ثلجياً, كأن الشمس لم تصله أبداً , جمدته المكاتب ومكيفاتها , فاكتسب بياضه , لوناً ناعماً حيادياً لم ” يُخدش” , فصنع مع شعره, شديد الإصفرار ,و”المشغول عليه ” بعناية, نوعأً من التلاؤم المتدرّج , الذي يعطي للناظر إليه , الإنطباع بأن هذا الرجل منظم في حياته .
تنظر الى عينيه شديدتا الزرقة, فتجد فيها انطفاءة متجمدة , ترسم على وجهه موجات من حزن مقهور .
كان يلبس دائما بُدلاً سوداء أو زرقاء فاخرة , وقمصاناً إما بيضاء أو رمادية أنيقة , وربطات عنق ألوانها هادئة ملائمة لبدله الرسمية .
في ذلك اليوم الذي أستأذن فيه ,أن ينتقل ليقرِّب الكرسي الذي يجلس عليه من مكان جلوسي , قريباً من رأس أمي , لم يفاجئني , فقد سبقتها الكثير من الإشارات , التي تلقيتها من نظراته نحوي , التي زادت في المدة الأخيرة.
– هل تسمح ..!؟ همس برجاء محبوس , وهو ينقل كرسيه الى جانبي دون ان ينتظر ردِّي .
– تفضَّل .. ! قلت .. وابتسامة عريضة ,تعمدتُ رسمها على شفتي , تشجيعاً له, كي يرمي بنفسه في هذه المغامرة , التي قرر أن يخوضها , بعد تردد طويل , ومعاناة شديدة .
– نحن نلتقي هنا منذ زمن بعيد , ولا يكاد يعرف الواحد منا عن الآخر شيئاً .!
بدأ حديثه هارباً من المقدمات .
– آه ..أه ..
همهمت , بعد أن فاجأني , بتخطيه كل العقبات , التي تعترضه ليصل لهذا الموقف .
– أنا أعمل منذ عشرين سنة ,في منصب كبير في شركة هايتك .. إني أنتظر موت أمي , كي أرحل من هذه البلاد الملعونة .!
سآخذ زوجتي وأولادي ..وأبيع كل ما أملك هنا وأرحل..!
ألى أين ..!؟ قلت والدهشة تستولي علي .
– إلى ألمانيا ..! سأعود الى المنابع التي أتت منها أمي ..!
– الى ألمانيا .. !؟ قلت والدهشة تتعمق في داخلي.
” ليقولوا عني جباناً.. هرب من مواجه الحياة في هذه البلاد..!
ليقولوا انه رجع الى البلاد الملعونة .!
” ليقولوا ما يشاؤون .. لم يعد يهمني ..!” تحول كلامه الى صراخ محموم .
قام من مكانه وأسرع , ورمى بنفسه خارج غرفة المستشفى .. وتركني أتخبط في ذهولي .
وفي اليوم التالي , وجدته جالساً على كرسيه في نفس المكان , الذي انتقل أليه أمس , بالقرب من سرير أمي , ينتظرني على أحر من الجمر , وقبل أن أجلس على الكرسي رماني بسؤال :
أتدري ما القشة ,التي كسرت ظهر الجمل ..!؟ وأكمل دون أن ينتظر مني رداً :
” قبل يومين كانت عاملة في العقد الخامس من عمرها , تمسح الممر الطويل والواسع ,الموصل لقاعات وغرف عمل عاملي وموظفي الشركة ..
أراد أحد الموظفين , الذي جاء مبكراً قبل موعد ابتداء العمل , أن يمرَّ بالممر ليدخل غرفة عمله , فطلبت منه العاملة الأثيوبية , أن ينتظر قليلاً حتى تمسح الماء من المكان الذي سيخطو عليه ..
وهنا وقعت الواقعة ..!”
تحول صوته , الى سيل من الإنفجارات الجارفة :
تخيَّل – يا سيدي- ثلاثين لساناً مسعورة , بدأت تقذف حممها على ” رأس ” هذه المسكينة البائسة :
( إرجعي من حيث أتيت .. الى أثيوبيا .. من تكوني حتى تمنعيه من المرور ..!؟ نسيت من أنت ومن أين أتيت !؟ حكومة حقيرة التي أتت بكم الى هنا .. !) .
صمت لحظة قصيرة .. كي يتمكَّن من الرجوع الى الوراء ..الى ذاكرة أمه ..وأكمل ..
“أمي بقيت حيَّة .. لم تحرق في أفران الحرق , بفضل مسح البلاط .!
أبقاها الألمان حية , لأنهم لاحظوا أنها كانت بارعة في مسح أرضيات غرف مكاتبهم ,وقاعات طعامهم وتسليتهم , ودور سكنهم , في معسكرات الحرق ..!
أمي في التسعين من عمرها , عاشت هنا ما يقارب الخمسين سنة , دون أن تنطق بكلمة عبرية واحدة .. إنها من ” خريجي ” معسكرات الحرق النازية..
أجبرتنا- أنا وشقيقتي – على تعلم الألمانية , كي نتفاهم معها .. لم تحدثني شيئاً , عن معاناتها هناك .. سمعت نتفاً عن حياتها فيها , من صديقتها التي تعرفت عليها في المعتقل , وصمدت مثلها , خرجتا منه وهن على قيد الحياة, تجران أحمال الموت من هناك .
عاشت أمي هنا بجسمها فقط .. ولكن في مشاعرها وسلوكها ولغتها , بقيت تعيش في ألمانيا .
لم تستطع أن تمحو من وجدانها , أنهم أحضروها من هناك لتعيش هنا مكان شعب آخر ..
لقد كانت شاعرة , قبل أن يستولوا النازيون على الحكم .. اطَّلعتُ خلسة على بعض أشعارها .. كانت تعبر عن قدسية الإنسان , بغض النظر عن انتمائه القومي والديني والعرقي .
التقت بأبي في السفينة, التي أقلتهم مع مئات المهاجرين , وقررا أن يعيشا معاً كزوجين , وعندما نزلا في ميناء حيفا, أخذوهما ووضعوهما في بيت قديم , عرفتْ بعد ذلك أنه كان للعرب , الذين طردوا منه الى لبنان ..
” كان كل شيئ في مكانه البصل , العدس السكر , لجن العجين .. !” كانت دائما تقول والحزن يقطِّع أنفاسها.
أنت تتساءل .. لماذا أحدِّثك أنت بالذات عن أمي ..!؟.. أكمل دون أن ينتظر مني رداً أو تعليقاً ..:
استدعوني للجيش قبل شهر , وأرسلوني لحراسة معتقل نفحة ,الذي غالبية معتقليه أمنيين .
وهناك رأيتها ..
كانت تلبس ثوباً مثل ثوب أمي , الثوب التي كانت تلبسه في المعتقلات النازية ..
إني رأيتها تلبسه في صورة نادرة , ألتِقطتْ لها سراً في المعتقل.
كانت مثل أمي , لا تتكلم العبرية .
كانت تتشبث بسياج السجن الداخلي , تشده بيد , ومن اليد الأخرى , ترسل أصبعا يديها الأوسطين ألى عينيها , وتصرخ بكل ما تبقى لها من صوت :
– أشوفه .. أشوفه ..!!
تقدمتُ باتجاهها .. وعندما لاحظتْ أني أقترب منها , ” جفلت ” وابتعدت عن السياج , وعندما دنوت منها,
سألتها مستعملاً نتف الكلمات العربية , التي تعلمتها في الجيش :
– شو بدِّك يا ختيارة ..!؟
– دخلك .. بدّي أشوف ابني ..عشرين سنة صار لي ما شفته .! تسارعت للخروج من فمها كلمات مخنوقة .
– منين إنتي يا ستي ..!؟
– أنا من مخيَّم عسكر .. ولكن أصلي من حيفا .. في الثماني وأربعين , تركنا بيتنا ولجأنا الى لبنان , وبعدها تزوجت شاباً من مخيم عسكر .
وعندما لاحظ القائد ان وقوفي معها قد طال , خاف ان تليِّن مشاعري وتستحضر إشفاقي ورحمتي , نادني بلهجة آمرة , فيها ما يوقذني ويعيدني الى “لياقتي” الصارمة.!
أتدري – يا سليم – ماذا قالوا لنا في اليوم الأول لإلتحاقنا بالفرقة ,بعد إنهائنا فترة الإعداد العسكرية .!؟:
” إقتلوا الشفقة والرحمة في قلوبكم , نفذوا الأوامر العسكرية كما هي .. أتركوا مشاعركم وعواطفكم في البيت .. وتعاملوا مع العرب ,حسب ما يطلب منكم قادتكم .!”.
أتدري – يا سليم – لماذا لا تأتي أختي الوحيدة لزيارة أمي , والعناية فيها هنا في المستشفى ..!؟
وهذا سبَّب شرخاً عميقاً بيني وبينها , من المستحيل إصلاحه..!!
أكمل رافي تدفق سيل حديثه.
لأنها تقيم مع أمك العربية , في غرفة واحدة هنا في المستشفى .. !!
قالها ونحيب يتفجر من أعماقه , فحوَّل الغرفة التي نجلس فيها, الى أشلاء ممزقة ..
قام من مكانه .. ورمى بنفسه خارج الغرفة , واختفى..
ليعود في اليوم التالي ليجلس بجانبي , غارقاً في صمت معذّب .
” كانت أمي راجعة من عين ماء القرية ..”
بدأت برواية حادثة حدثت مع أمي ..
بعد أن انتظرته ساعتين ليكسر جو الصمت الكئيب , الذي كان يلفُّ المكان .. لا ” تعكره ” سوى أنّات المريضتان ..ولكنه بقي متشرنق بصمته الثقيل .
” كانت تحمل جرة ماء على رأسها ..كان الظلام ثقيل فرض سكوناً رهيباً على البلد, لا يقطِّعه سوى نباح الكلاب ..
لقد قررتْ ان تخترق ستار منع التجول ,الذي فرضه جنود الحكم العسكري , بعد أن قضت نهارها كلُّه في “سرقة ” حبات زيتون من كرمنا , الذي منعنا العسكر من دخوله , وخافت أن يهاجمنا العطش ..!”
يبدو ان كلمة العسكري , انتزعته من أعماق بحر السرحان الذي يأسره ..فالتفت نحوي , أشارة منه , انه بدأ يستمع الى كلامي ..
” قفي مكانك .. وارفعي يداك الى أعلى ..!” اغتال سمع أمي صوت .. تلته موجات عاتية من الأضواء, حولت الليل الأسود , الى شلال جارف من الأنوار الطاغية .
كسَّروا جرَّتها, وأراقوا ماءها , وكالوا لها سيلاً من الشتائم والركلات والإهانات ..
وبتنا , أنا وأخوتي السبعة ,عطاشاً ..ليس لأنه لم يكن عندنا ماء لنشربه .!
لأننا , لأول مرة , نسمع عويل أبي ..
كان يبكي تحت اللحاف ..!
فشربنا دموعنا , ولكن – كما تعلم – لا تشفي من عطش.!”
” ما يعذبني يا سامي , أنه ليس من المستحيل ان يكون البيت الذي نعيش فيه , هو بيت المرأة العجوز, التي التقيتها على سياج السجن ..!”.
قال خارجاً من بوتقة عذاب , الإنصات لحكاية أمّي ..
” ربما .. وربما يكون لغيرها من المشردات ..!
أجبت ولا أدري ان كانت هذه الإجابة تخفف عنه , أم تزيد صراخ تعذباته .
وأخبرتني مرة , أن أمك كانت مجندة في حرس الحدود”.
سألته بلا رحمة ..
” تقصد أنه ,ربما تكون أحد أفراد فرقة الجنود , التي أهانت أمك , وجعلتكم تبيتون عطاشا ..!”
أجاب بكلمات تنذر بانفجار محموم ..
“ربما تكون هي .. وقد تكون واحدة غيرها من المجندات..!”
قام من مكانه كالملسوع , وهرب من أمامي ..
غبت يومين , وعندما رجعت .. كان سرير أم
آفي فارغاً .. سألت أحدى الممرضات , فأخبرتني أنها ماتت , ولم أسمع عنه بعد ذلك .
–