“اللجوء الإنساني” ومشاريع التهجير الجماعي للاجئين الفلسطينيين (1/2)
تاريخ النشر: 07/10/19 | 9:01فتحي كليب / عضو المكتب السياسي
تقديم
تتغير وسائل الحروب باختلاف أجيالها، ويشكل عامل السيطرة على المجتمعات وهدمها من الداخل احدى اهم هذه الوسائل من خلال استبدال قيم ومفاهيم متوارثة بأخرى مستحدثة. وتلعب ثورة الاتصال والمعلوماتية دورا هاما في الترويج لمثل هذه المفاهيم، بحيث تنقلب المسلمات والثوابت لتتحول الى نقيضها، فتصبح الثورة على العدو لغة خشبية لا تتفق ومنطق العصر، ويتحول الجلاد والمجرم الى حليف، ومحو ادلة قانونية والعبث بساحة الجريمة تصبح بطولة، وعمليات التهجير الجماعي تغدو خشبة الخلاص، بعد ان كانت حتى وقت قريب خطوطا حمراء لا يجوز اللعب بها بل كانت جزءا من مشروع مشبوه، خاصة اذا ما اقترنت مثل هذه السياسات مع حروب عسكرية وامنية وضغوط اقتصادية واجتماعية عادة ما تنتج تيارات وفئات اجتماعية تربط مستقبلها بهذه السياسة، وقد تتحول الى تيارات فاعلة وكبيرة اذا لم يحسن المجتمع وتياراته المختلفة كيفية التعاطي معها..
يعتمد هذا النوع من الحروب على إذكاء وتظهير التناقضات الهامشية في المجتمع لصالح صراعات عبثية بين فئات معينة من المجتمع واحيانا بين المجتمع والدولة (التيارات السياسية)، فيتم التركيز على بعض الكفاءات لزرعها بين الفئات المهمشة اقتصاديا واجتماعيا من أجل تحريضها ليل نهار وتسليحها بشعارات ومطالب تكون في الغالب صحيحة ومتبناة من قبل كل فئات الشعب، بينما استراتيجية التغيير النهائي تبقى بيد الاطراف الرئيسية التي ترسم وتخطط وتمول، فيما تبقى لها الكلمة الفصل في طريقة واسلوب وساعة “التغيير”. لذلك، فان هدفها الاساسي هو اشعار افراد المجتمع انهم مكشوفون سياسيا واقتصاديا وان لا مستقبل لهم، وهذا ما يقود بدوره الى تهيئة الارضية لإستقبال اي مشروع سياسي وتقديمه بإعتباره حلا لازمات المجتمع، مقرونا بمعطيات تفصيلية عن الظواهر السلبية التي يشكو منها المجتمع..
ان الهدف النهائي لهذا الشكل من الحروب هو الوصول بالمجتمع الى حالة من اليأس والاحباط لاضعاف ثقته بنفسه وجعل الروح الفردية تتغلب وتتقدم على الروح الجماعية وهو ما يبعث برسالة سلبية ترفع منسوب الخوف والتشكيك في كل شيء. حصل مثل هذا الامر في المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية وفي دول اخرى. لكن شتان ما بين مجتمعات محصنة وطنيا يجمعها اهداف مشتركة وتعمل على تحقيقها في ظل قيادة التحمت بشعبها لتقوده الى بر الامان، وبين مجتمعات تفتقد الى الحد الادنى من الحصانة والمنعة الداخلية التي تمكنها من مواجهة المشاريع الخارجية، وهو ما يعرف فلسطينيا بمصطلح ” الوحدة الوطنية”.
في علم السياسة تعبير يختصر الكثير من الظواهر من حولنا وهو “لا مكان للصدفة”، وكل حدث، مهما كان صغيرا فله تفسيره ومحركه وله تداعياته وانعكاساته على اطراف اللعبة السياسية والمجتمع برمته. فكل خاسر ومهزوم يقابله رابح ومنتصر، واذا كان ما هو متفق عليه ان لا مكان للعواطف في اطار السياسة، فالاولى ان لا مكان لحسن النوايا، وكل تفصيل، مهما كان بسيطا ومتواضعا فيمكن ان نجد له تفسيرا منطقيا من فعل هذا او ذاك..
مثل هذا المنطق قد نصادفه ونتلمسه في ادق تفاصيل عملنا اليومي كفلسطينيين. وبمقدار ما يتمتع مجتمعنا بصلابة داخلية، بمقدار ما تنكفأ الظواهر والتدخلات الخارجية، والعكس صحيح.. فقوة المجتمعات تكمن اولا في تماسكها الداخلي والتفافها حول هدف وطني يكون محل اجماع او توافق عام والاستعداد من اجل تحقيقه بشكل جماعي.. واذا كانت البنى المؤسساتية هي الضامن لتوحيد الجهد المجتمعي، فان الاستنتاج السابق يصبح اكثر صحة في مجتمعات ودول تفتقر الى الديمقراطية والمؤسساتية وتتحكم بها النزعات القبلية والعشائرية والمذهبية وغير ذلك من صيغ تجد مسارها في الفراغ السياسي والاجتماعي الناتج عن هشاشة هذه المجتمعات وبناها المختلفة..
مناسبة الاستفاضة في هذا التقديم هو بعض الظواهر الغريبة التي لم يعتد عليها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية عبر تاريخها، خاصة الجزء المقيم منه في لبنان، وربما غيره، والتي تتمثل بدعوات صريحة وعلنية الى التهجير الجماعي وجدت اصداءها لدى عدد كبير من الافراد الذين يرزحون تحت وطأة اوضاع اقتصادية صعبة وقاتلة، نجحت اطراف وتيارات تتقن اساليب الخداع والتضليل من استخدام هذا الواقع الصعب لتلعب على وتر الوجع الحقيقي لبعض الفئات الاجتماعية المهمشة والجاهزة لاستقبال دعاية محمولة بمعطيات بيانية وتفصيلية عن الواقع الصعب الذي تعيشه هذه الفئات وعن الوضع الذي وصلت اليه القضية الفلسطينية بشكل عام.
فبعضهم يحدثك عن الواقع السياسي الصعب لجهة ازدياد حدة الانقسام وما سببه من غياب المرجعية الوطنية وانعكاس ذلك على كل التجمعات الفلسطينية، وبعضهم الآخر يشير الى تجاهل القيادة الفلسطينية لأوضاع اللاجئين الفلسطينيين الذين اصبحوا مكشوفين تتقاذفهم رياح العنصرية والصراعات الاقليمية، وثالثهم يتحدث عن صعوبة الاوضاع الاقتصادية وعجز الحالة السياسية بجميع مكوناتها، منظمة تحرير وسلطة فلسطينية وفصائل ولجان شعبية ومؤسسات، عن تقديم النموذج الامثل في طريقة ادارة العلاقات الداخلية، بحيث كلما ازدادت المخاطر على القضية الفلسطينية كلما ازدادت الاوضاع الداخلية انقساما وشرذمة، ورابعهم يتحدث عن مضايقات هنا وسياسات من هذه الدولة او تلك تفتقد الى الحد الادنى من التعامل الاخوي والانساني.. كل هذه العناوين تعتبر بنظر البعض اسبابا كافية لترك ساحات النضال والهروب الى منافي الارض البعيدة، رغم ان كثيرين من اصحاب هذا الرأي، بل ربما الاغلبية الساحقة منهم، لا يحبذون هذا النوع من الحلول الفردية ويعلمون مخاطرها كما يعلمون جيدا تداعيات هذا المسار بانعكاساته السلبية على القضية الفلسطينية برمتها..
اوضاع اللاجئين الفلسطينيين المقيمين منهم في لبنان والمهجرين القادمين من سوريا الصعبة ليست بالشئ الجديد، وقد سبق للعديد من المؤسسات ان دقت ناقوس خطر قبل بضع سنوات داعية الهيئات والمرجعيات المعنية بسرعة التحرك، الا ان احدا لم يحرك ساكنا لمعالجة عشرات المعضلات التي تعيشها الكثير من العائلات. ففي دراسة اطلقتها الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع وكالة الغوث حول الحالة الاقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في لبنان والمهجرين من سوريا عام 2015 ونشرت على موقع وكالة الغوث الالكتروني جاء ان معدلات الفقر المدقع لدى اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان بلغت 3.1%، فيما بلغت نسبة معدلات الفقر العام 65%. ولعل الاخطر في هذا الجانب اشارة الدراسة الى ان فئة الشباب كانت أكثر الفئات تأثرا بالفقر لدى اللاجئين إذ يرزح 74% من المراهقين تحت خط الفقر، في حين يعيش 5% منهم في فقر مدقع. اما بالنسبة للمهجرين الفلسطينيين القادمين من سوريا إلى لبنان فقد بلغت نسبة من يعيش منهم في فقر مدقع 9.2% وأن 89.1% منهم هم من الفقراء. وهي ارقام مخيفة وذات دلالات وكانت تؤشر الى ان الواقع الاقتصادي للفلسطينيين في لبنان مقبل على انفجار حتمي.
كما اشارت الدراسة الى ان 38% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يتمتعون بالأمن الغذائي وان 38% يعانون من انعدام الأمن الغذائي المتوسط و24% من انعدام الأمن الغذائي الحاد. فيما بلغت نسبة الذين يتمتعون بالامن الغذائي بين صفوف اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا 6%، ويعاني 63% منهم من انعدام الامن الغذائي الحاد. ويخضع اللاجئون الفلسطينيون القادمون من سوريا إلى لبنان لقيود قانونية وقيود على حركة تنقلهم، ويعتبر وصولهم إلى سوق العمل أمرا غير آمن وان تمكن بعضهم من ايجاد فرصة عمل فهو يخضع لظروف عمل استغلالية.
لا نقلل من خطورة الاوضاع الاقتصادية التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان سواء كانوا من اللاجئين او من المهجرين من سوريا، حيث تعاني هذه الفئة من اوضاع اقتصادية غاية في الصعوبة وتتطلب بالحد الادنى حالة طوارئ جدية من قبل جميع المرجعيات السياسية والخدماتية المعنية خاصة منظمة التحرير الفلسطينية ووكالة الغوث ومؤسسات الدولة اللبنانية ومؤسسات المجتمع المدني.. ولا ينفع هنا رمي المسؤولية وتقاذفها بين هذه المرجعية او تلك، فالمسؤوليات واضحة وكل مرجعية تتحمل مسؤولية بدرجة او اخرى والجميع معني بايجاد المعالجات الصحيحة التي توقف حالة النزف الوطني التي تشهدها المخيمات في لبنان.
(1)
التهجير الجماعي واستهداف حق العودة
يتردد على السنة البعض، عن حسن او سوء نية، ان الهجرة امرا عاديا تشهده كل دول العالم، وتعقيدات الحياة تفرض هذا النوع من الهجرات التي عادة ما تحركها الدوافع الاقتصادية بحثا عن الامن والامان الاجتماعي والاقتصادي. مثل هذا الكلام قد يكون صحيحا في جانب منه، لكن في الحالة الفلسطينية فالمقارنة ليست في مكانها وتتعدى حدود الجوانب الاقتصادية والانسانية لأكثر من سبب:
اولا: اذا كانت الهجرة في الحالات العادية تفرضها طبيعة الحياة، فان واقعها مختلف عن الحالة الفلسطينية. فالاولى هي هجرة طوعية فردية من بلد ودولة ونظام سياسي موجود، وبامكان طالب الهجرة ان يعود اليه ساعة يشاء، بينما في الحالة الفلسطينية فالمطروح هو تهجير جماعي يرغم عليه اللاجئ الفلسطيني نتيجة ضغوط سياسية واقتصادية ومفتعلة من اطراف سياسية ومن كيانات لها مصلحة فعلية في تهجير الشعب الفلسطيني.. والتهجير الجماعي هنا، ووفقا للتوصيفات القانونية، هو جريمة بعرف القوانين المحلية والدولية يفترض ان يحاسب كل من عمل وشجع عليه..
ثانيا: في الهجرة العادية قد يحتفظ طالب الهجرة بجنسيته الاصلية الى جانب الجنسية المكتسبة. وحتى لو تخلى عن جنسيته فهناك دول تعمل على ربط مواطنيها ببلدها الام من خلال استعادة جنسيتهم الاصلية. بينما في الحالة الفلسطينة فالامر مختلف تماما، والمطروح هو مقايضة الامن والامان الاقتصادي مقابل تنازل طالب الهجرة واللجوء الفلسطيني عن الحقوق الوطنية خاصة حق العودة وفقدان صفته كلاجئ..
ثالثا: ان الحقوق الوطنية الفلسطينية هي حقوق جماعية وليست فردية فقط ولا يمكن لشخص او مجموعة اشخاص ان تقرر مصير الشعب كله، لذلك يقال مثلا ان حق العودة هو فردي فقط لارتباطه بحقوق مدنية كالمواطنة والاملاك وغير ذلك، لكنه ايضا حق جماعي لارتباطه ايضا بحق تقرير المصير لكل الشعب في اطار ارض ودولة..
ويمكن القول ان هجرات فلسطينية كثيرة حصلت في سنوات سابقة ومنذ ما قبل النكبة. فكان التهجير الاكبر ذلك الذي حدث عام 1948، وزاد عدد الذين اجبروا على الهجرة نتيجة عمليات الارهاب الصهيوني عن ثلاثة ارباع المليون. وخلال كل الحروب التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في مختلف اماكن تواجده، كانت تحصل عمليات هجرة وتهجير شأننا في ذلك شأن كل الشعوب التي تعيد رسم حياتها من جديد نتيجة هذه الحروب. لكن هذه الهجرات بقيت في الحدود المقبولة والمعقولة، بحيث لم تشكل، بنظر الكثيرين، ظاهرة تستحق النقاش الجدي في خلفياتها ومسبباتها.. بينما الفارق اليوم هو ان الهجرة تحولت من ظاهرة فردية يمكن ان تحدث في اي مجتمع، الى ظاهرة جماعية تهدد بافراغ التجمعات والمخيمات الفلسطينية من لاجئيها.. وهنا نطرح التساؤل حول النتيجة التي يمكن ان نصل اليها على المستوى الوطني، اذا ما استفحلت ظاهرة التهجير بشكل اكبر..
في فلسطين كان التهجير يحدث بشكل مدروس من قبل اسرائيل، حيث تعمدت تهجير الفلسطينيين من الطوائف المسيحية، والاسلامية ايضا، بغية القضاء على صيغة التعايش التي كانت ولا زالت موجودة في فلسطين ولتبرير وجودها كدولة دينية في المنطقة.. وايضا في محاولة لتفريغ فلسطين من مكوناتها الحضارية وتنوعها والغاء ظاهرة التعدد السياسي والثقافي والحضاري. وهو امر يتكرر اليوم في الكثير من البلدان العربية لجهة تهجير الطوائف المسيحية والاقليات الطائفية والعرقية..
لكن الهجرات الجماعية، بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، والتي اخذت ابعادا سياسية باسبابها، كانت خلال فترات الحرب الاهلية اللبنانية. وقد يندر ان يتعرض شعب في العالم الى مسلسل لا ينتهي من القهر والمعاناة، بحيث ما ان يخرج من حرب الا ويزّج بغيرها، ولما يخرج من تهجير الا ويجد تهجيرا آخرا بانتظاره. فمن النكبة الكبرى عام 1948.. الى الحرب الاهلية اللبنانية بدءا من نهاية الخمسينات وصولا الى منتصف السبعينات وانفجار الحرب بشكلها الاكثر بشاعة.. الى الاجتياح الاسرائيلي للبنان عامي 1978 و 1982 .. الى مجزرة صبرا وشاتيلا.. الى حرب المخيمات عام 1986 فتدمير مخيم نهر البارد، الى حروب غزه المتعددة والمتكررة، الى الحرب التي شنت على سوريا وما ولدته من تدمير للمخيمات الفلسطينية وتهجير سكانها، الى عشرات القصص التي يمكن ان تشكل كل واحدة منها نكبة شخصية بالنسبة لأصحابها..
اما اليوم فلا يمكن مناقشة ظاهرة التهجير الجماعي الا في اطار المشروع السياسي الذي تطرحه الادارة الامريكية واسرائيل والمعروف اصطلاحا بـ “صفقة القرن”، حيث تعتبر قضية اللاجئين الفلسطينيين واحدة من اهم المرتكزات التي يستند عليها هذا المشروع. ورغم المخاطر الكبيرة التي تعرضت لها قضية اللاجئين منذ التوقيع على اتفاقية اوسلو التي فتحت الباب واسعا لطرح العديد من المشاريع والسيناريوهات التي كان قاسمها المشترك التنازل عن حق العودة والغاء وكالة الغوث باعتبارها احدى المرتكزات الاساسية لحق العودة، فان كل هذه المشاريع ظلت مجرد افكار معلقة، ولم يتوفر لها ظروف دولية وفلسطينية لطرحها كمشاريع سياسية باجراءات تنفيذية تحدث اختراقات معينة. اما المشروع الامريكي الراهن فهو يكاد يتجاوز في مخاطره كل ما طرح سابقا لجهة بدء الاجراءات العملية لتطبيقه ومحاولة فرضه واقعا على الارض، ما يجعله مشروعا مختلفا عما سبقه من مشاريع. ويمكن التعرف على بعض من هذه المخاطر من خلال استعراض المساعي المبذولة من قبل الادارة الامريكية واسرائيل لتصفية حق العودة والغاء المكانة القانونية للاجئين سواء عبر استهداف وكالة الغوث او غير ذلك من عناوين:
– سعى الادارة الامريكية، بشكل مباشر، الى إلغاء صفة اللاجىء عن أبناء الجيل الثاني والثالث من اللاجئين الفلسطينيين والتحريض الدائم على تهجير العدد الاكبر من اللاجئين من مناطق عمليات الوكالة الخمسة (الاردن، لبنان، سوريا، الضفة الغربية وقطاع غزه)..
– تفعل قانون قديم سبق لمجلس النواب الأمريكي ان اصدره عام 2013 تحت عنوان “تعديل تمويل المساعدات الخارجية لعام 2013″، حيث الزم هذا القانون وزارة الخارجية بالتدقيق في اعداد اللاجئين الفلسطينيين لمعرفة من منهم يستحق المساعدات من قبل وكالة الغوث ثم شطب الذين لا يستحقون هذه المساعدة. انطلاقا من ذلك، يمكن فهم خلفيات الاصرار الامريكي على اعطاء تعريف جديد للاجيء بحصر اللاجئين في اطار من هجر منهم من فلسطين عام 1948، واسقاط صفة اللجوء عن ابناءهم واحفادهم.
– الاكثار من الحديث عن تسييس الاونروا وتحرك بعض ملفات الفساد واطلاق حملة شعواء من مراكز بحثية واعلامية، تحت شعار “حيادية المنظمات الدولية”، وصولا الى تسييس المساعدات، ما يفتح الباب امام امكانية المس بالتفويض الممنوح لوكالة الغوث..
– دعوة رئيس وزراء العدو بنيامين نتن ياهو الى حل وكالة الغوث وتحويل قضايا اللاجئين الفلسطينيين الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، لأن وجود الوكالة وانشطتها، من وجهة نظره، يساهمان في تخليد مشكلة اللاجئين.. وفي هذا الاطار من المفيد الاشارة نصا الى هذا التصريح الذي ورد بالتفصيل في صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ 8 كانون الثاني 2018، وفيه رؤية واضحة وعلنية لكيفية تطبيق الرؤية الامريكية الاسرائيلية بشأن قضية اللاجئين، وهو برسم كل من يعمل ويشارك في دعوات نقل ملفات اللاجئين من وكالة الغوث الى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
يقول نتنياهو: “الأونروا منظمة تخلد قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتخلد كذلك رواية ما يسمى حق العودة. لذا فيجب على الأونروا أن تتلاشى وتزول. إنها عبارة عن هيئة تم إنشاؤها منفردة قبل 70 عاماً فقط لصالح اللاجئين الفلسطينيين، وذلك على الرغم من وجود المفوضية السامية للأمم المتحدة المعنية بمعالجة قضايا بقية اللاجئين، مما يخلق بطبيعة الحال ذلك الوضع الهزلي، حيث تعالج الأونروا أبناء أحفاد اللاجئين الذين هم أنفسهم ليسوا بلاجئين. إنني قدمت اقتراحاً بسيطاً مفاده تحويل أموال الدعم المنقولة حالياً للأونروا إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وذلك تدريجياً وبشروط ومعايير واضحة، بغية دعم اللاجئين الحقيقيين، بدلاً من اللاجئين الصوريين الوهميين كما يحدث اليوم لدى الأونروا”.
رغم وضوح هذا الموقف بمضامينه ومفرداته ومصلحاته التي لا تحتاج الى تفسير، الا ان هناك من لا زال يناقش ويجادل بأن موقفه وتحركه الداعي الى نقل التفويض من الاونروا الى المفوضية انما هو بخلفية انسانية وانه سيبقى متمسكا بحق العودة، او انه يهرب الى نقاش مكرر حول اوضاع الفصائل والحالة السياسية الفلسطينية، وكأن واقع الشرذمة الذي تعيشه كل الحالة الفصائلية والرسمية يبرر الاقدام على خطوات تتناقض في ادق تفاصيلها مع الموقف الوطني العام وتصب بالنهاية، شاء البعض ام لم يشأ، في خانة الاطراف التي تدعو وتعمل على افراغ حق العودة من اي مضمون فعلي.
(2)
التهجير بقوالب “اللجوء الانساني”
انطلاقا مما سبق، هل يمكن تبديل ونقل الحماية السياسية او غيرها من منظمة دولية الى اخرى؟ ليست هناك من نماذج شبيهة يمكن الاستشهاد بها، لكن العامل الحاسم هو ان مسألة الحماية وانتقالها من منظمة الى اخرى امر يتعلق بطبيعة التفويض الممنوح لهذه المنظمات والصلاحيات التي تتحرك في اطارها. وفي الحالة الفلسطينية فان التفويض المتعلق بوكالة الغوث محصور في اطار الخدمات التي تقدمها وهو ما يصطلح على تسميته بـ “الحماية الاجتماعية” التي تختلف عن الحماية السياسية التي هي صلب عمل ومحور صلاحيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
ان مطالبة البعض من مؤيدي التهجير الجماعي بنقل ملفاتهم من منظمة وكالة الغوث الى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين مسألة خطرة ويجب التوقف عندها ليس لأنه كلاما فارغا لا يعني شيئا من الناحية القانونية، وليس لأن هذا المقترح او المشروع المقترح يتخطى صلاحيات المنظمتين (الاونروا والمفوضية)، بل لأن هكذا طروحات تعتبر مسا مباشرا ليس بصلاحيات وتفويض وكالة الغوث بل وبالمكانات القانونية والسياسية لقضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة. وحتى لو سلمنا بامكانيات انتقال التفويض من منظمة دولية لاخرى، فان هذا يتوقف على الكثير من الامور التي تحتاج الى توضيح:
اولا: ان التفويض هو حق من حقوق الطرف او الجهة التي منحته (الجمعية العامة للامم المتحدة)، وهو ليس خاضعا لاجتهاد من هنا وهناك، ومن اراد تغيير هذا التفويض فعليه الذهاب الى الجمعية العامة كما سبق للكثير من مسؤولي الامم المتحدة والاونروا وان اكدوا عليه في اكثر من مرة في ردهم على دعوات الرئيس الامريكي ورئيس وزراء العدو حول هذه المسألة.
ثانيا: ان مسألة نقل التفويض، في حالات اللجوء العامة، تتعلق بحالات فردية. ولو سلمنا جدلا ان هذا الامر يمكن ان يندرج في اطار حرية التعبير والاختيار الطوعي والحر للاجئين، فان ذلك يتطلب موافقة اغلبية اللاجئين الذين يزيد عددهم عن 6 ملايين نسمة. ومن غير المنطقي ان اعدادا بسيطة تعد بالعشرات او حتى المئات يمكن ان تفرض رأيها على ملايين اللاجئين الذين يصرون على ان الحل الجذري لقضيتهم هو بعودتهم وليس بطرح مقترحات ومشاريع تهجيرية تستجيب لرؤى وافكار اسرائيلية وامريكية.
ثالثا: ان نقل ملفات وكالة الغوث الى المفوضية العليا تعني مسا وتجاهلا لقرارات دولية عدة وفي مقدمتها القرارين 194 و 3236. والاهم من ذلك ان ارشيف اللاجئين الفلسطينيين وملفات العائلات الفلسطينية الموجودة لدى الاونروا والتي تزيد عن 17 مليون وثيقة تعود لاكثر من نصف مليون عائلة فلسطينية لاجئة من ضمنها بطاقات اعاشة ووثائق ولادة وغيرها هي ملك الشعب الفلسطيني، وليس من حق افراد هنا وهناك ان يعبثوا بهذا الارث الوطني الكبير تحت شعارات تتخفى بعناوين الحرية والديمقراطية.
ان بعض التحركات التي جرت سابقا امام السفارة الكندية في بيروت، ركزت على مسألة “اللجوء الانساني”، انطلاقا من صعوبة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان والمهجرون من سوريا والتي تعتبر، بنظر الكثيرين، سببا مباشرا لطرح افكار ورؤى سياسية، يعتقد اصحابها ان بها الحل، حتى لو كانت تشكل مسا خطيرا بحق وطني عام وحتى لو كان اصحاب هذه الافكار يدركون ان اطرافا سياسية محلية ودولية تخطط وتشرف وتضع الاستراتيجيات والسيناريوهات المختلفة لتحركاتهم، اقتناعا منهم بأن اوضاعهم الاقتصادية تشكل سببا كافيا يمكن للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين ان تقبله كي توافق على منحهم “حق اللجوء الانساني” رغم ان العدد الاكبر من المشاركين في هذه التحركات لا يعرفون معنى “اللجوء الانساني” وخلفياته، وايضا لا يعلمون تداعياته على المستوى الوطني الفلسطيني..
فاذا كانت الاوضاع الاقتصادية الصعبة تشكل سببا كافيا كي تتجاوب المفوضية مع طروحات التهجير تحت شعارات “اللجوء الانساني” لكانت اولويتها واجندتها مختلفة، وهي حكما كانت ستتصدى لمشكلات ملايين البشر حول العالم الذين يعانون اوضاعا اقتصادية وسياسية اسوأ بكثير من اوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والمهجرين النازحين من سوريا، اضافة الى ان مهمة اخراج الملايين من براثن الفقر هي ليست مهمة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، بل مهمة منظمات ومؤسسات دولية اخرى تعنى بهذا الامر كمنظمات العمل والصحة الدولية وغيرها..
ان الاهم من كل ما ذكر ان قضية اللاجئين الفلسطينيين ليست قضية انسانية حتى يتم اقتصار حلها في مصطلح “اللجوء الانساني”، بل هي قضية سياسية مكتملة الاركان والعناصر، سواء رضي البعض بذلك ام لم يرض، وبالتالي فان حلها يجب ان يكون سياسيا مستندا الى حق اللاجئين الطبيعي بأرضهم في فلسطين والى عشرات القرارات الدولية. ووكالة الغوث تعتبر عاملا مساعدا ومؤقتا، ووجودها مرهون بانهاء السبب الذي انشأت من اجله وهو عودة جميع اللاجئين وفقا لنص القرار 194.
وطالما ان مصطلح “اللجوء الانساني” قد دخل قاموس القضية الفلسطينية، من زاويته السلبية التي تشكل تناقضا مع الحقوق الوطنية الفلسطينية، فمن المفيد التعرف على هذا المصطلح من الزاوية القانونية وتوضيح ابعادة كي لا يقع البعض ضحية سماسرة التهجير والقوى الدولية التي تسعى بشكل يومي للمس والعبث بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
فالهجرة عملية ارادية تحدث نتيجة الخيار الطوعي والحر لطالبها، وهي عملية انتقال الفرد من بلده الى بلدان اخرى طلبا لحياة افضل ما يلبث ان يحصل على جنسية هذه الدولة، وهذا النوع من الهجرة موجود لدى جميع المجتمعات خاصة الفقيرة منها وهو امر يمكن وصفه بالطبيعي، وهي تحدث نتيجة اسباب اقتصادية كالبحث عن مكان افضل للعيش او نتيحة اسباب طبيعية كالكوارث كالبراكين والزلازل او التلوث البيئي، اما التهجير الجماعي فهو يحدث بالاكراه والقوة نتيجة اسباب خارجة عن ارادة الافراد الذين يقبلون بالهجرة مرغمين اما نتيجة حروب عسكرية او صراعات طائفية وعرقية او بخلق اوضاع اقتصادية – سياسية غاية في الصعوبة يعجز خلالها الفرد على تحمل نتائجها فيصبح التهجير مطلبا، او عبر ممارسات حكومية او شعبية ضد اقليات معينة او نتيجة عمليات تطهير عرقي بهدف طرد جماعي للسكان لاحلال جماعات بشرية مكانهم، وهذا النوع من التهجير هو الذي حدث عام 1948 وما بعد نتيجة عمليات الارهاب والقتل والمجازر التي ارتكبت من قبل العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني ونتح عنها تهجير ما يزيد عن ثلاثة ارباع المليون من الفلسطينيين اصحاب الارض الحقيقيين.
اما مصطلح اللجوء وان كان يتقاطع في بعض اسبابه مع التهجير الجماعي، الا ان هذا النوع قد يكون مؤقتا وينتهي بانتهاء السبب، اي حرب عسكرية ثم تنتهي باتفاق، او صراع طوائف تنتهي بتقاسم سلطة او احتلال ارض ينتهي بانسحاب المحتل، وغير ذلك من الاسباب التي يشكل انتهاءها سببا كافيا لانتهاء حالة اللجوء بكل تفاصيلها.. او قد يكون لجوءا سياسيا لافراد لا يشعرون بالامان على حياتهم في بلدانهم نتيجة آرائهم السياسية او معتقداتهم الدينية، وهذا النوع من اللجوء له قوانينه الخاصة التي يتعين على طالبه الالتزام بها وهو لجوء خارج عن سياق نقاشنا..