تجليـــات الخوف في نصوص طه محمد علي
تاريخ النشر: 04/10/11 | 7:28بقلم – أ.د فاروق مواسي
” الخوف هو المخدة التي تضعها تحت رأسك وتستيقظ وهي على رأسك ” – طه محمد علي
طه محمد علي أديب فلسطيني (1931-2011) ابن صفورية التي أضحت أطلالاً وخيالاً في الذاكرة . لجأ عام النكبة إلى الناصرة القريبة ليواصل حياته فيها.
عمل في بيع التذكاريات والأثريات والتقى السّياح الذين يرتادون متجره. وهناك كانوا يكتشفون رجلاً قارئًا مثقفًا رغم أنه لم يتلق تعليمه على مقاعد الدراسة إلا أربع سنوات فكان وما زال عاشقًا للآداب العربية و الغربية وهو حكاء لطيف العبارة ينهي قصصه عادة بنكتة فكاهية أو نكتة – هي لقطة معنى.
من هنا فقد تردد عليه معظم الأدباء من الجليل والمثلث فكانوا في مقره يتجاذبون معه أطراف أحاديث الأدب وكأن طه هو الشهادة التي يجيز هذا الأديب أو ذاك.
أصدر طه قصائده النثرية في أربع مجموعات هي : القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى
( 1983 ) ضحك على ذقون القتلة ( 1989) حريق في مقبرة الدير ( 1992 ) و إله خليفة وصبي فراشات ملونات ( 2002 ) ” ليس إلا ” ( 2006 ) .كما أن له مجموعة قصصية هي سمفونية الولد الحافي – ما يكون (2003 ) .
الخوف – نظرة في المعنى
الخوف هو الشعور بالوحدة والضعف أمام سطوة ما – سطوة تهدد كيان الإنسان أو بعض كيانه.
والخوف هو على مستويات ومستواه يتعلق بمستوى من يخاف
وتؤدي كلها إلى الحذر من العدم…. أو من العواقب التي لا تُعلَم أو تعلم. فإذا دخل في رُوع الإنسان ما يخشاه بحث عن الأمان لأنه ضرورة حياتية منَّ الله بها في قوله تعالى { …وآمنهم من خوف }.
الخوف ينتاب الإنسان بفعل خارجي أو داخلي فيؤدي إلى قلق فيبحث الإنسان عن كنف يلجأ إليه ويطمئنه.
ربما يجدي الخوف لأنه يؤدي بالإنسان إلى أن يتجنب،ويفكر يواجه يبحث عن حل وقد يندم فيتعلم.
من أسباب الخوف هو هذا الغموض الذي يلم بالإنسان والعجز أمام ما يجري. ومنه ما يصيب الإنسان من شعور بالاغتراب والاستلاب ومنه ما يتأتى نتيحة لخيبات أو آلام أو نتيجة الحزن بمشاعره المتباينة …. وصولاً إلى التشاؤم والقلق واليأس والإحباط …. الخ.
أليس الخوف إذن حاضنة لهذه المظاهر بعضها أو كلها؟
الخوف ظاهرة إنسانية لا بد منه سواء من الموت أو حتى من الحياة يقول طه في قصيدته ربما :
ربما كان خوفنا المبالغ فيه
من الموت
أساسه التصعيد المكثف
لرغبتنا في الحياة
لكن
ما أعجز فعلاً عن وصفه
في موتي
هو فقط
هذه الرعدة التلقائية
المدمرة
التي تجتاحنا….
عندما نؤمن ونحن نموت
أننا سننقطع عن أحبائنا
بعد قليل
فلا نراهم
ولا نستطيع حتى مجرد التفكير بهم …
وخوفنا من الحياة يعني – الخوف من الآخر أو من المستقبل أو من المجهول وكذلك من الجديد الطارئ بمفاجأة لا يدري الإنسان كيف تكون؟ هل تهدد وجوده؟ هل هي نهاية غير مستحبة ؟ مؤلمة ؟ وسنرى إلى أي مدى نلحظ هذا الخوف في قصائد طه النثرية ….
لماذا اخترت طه للحديث عن خوفه ؟
في كل لقاء كنت أزور فيه طه كنت ألمح أمارات الأسى تتجلى في تصرفاته ففي ضحكه يحزن وفي عباراته قلق من المخفي من المصير فقد عاش القضية الفلسطينية على جلده وأحس مرتاعًا بهول ما جرى ويجري فعبر عن ذلك بقصائده النثرية. كنت أرى الدمعة تجوب في مآقيه وهو يحدث وألمس خوفه من النهاية التي قد تكون هاوية يقول :
…….وعن خوفي الخصوصي القديم
خوفي الأصم الأبلق المتفائل
خوفي الذي … يلازمني كقلمي
ويفجأني كزلزال
يسكنني وأجهل كنهه
يتنزه خارجي
ويحلق في دمي
تحليق الخفافيش
في قناطر الشمس
فلما قرأت قصيدته “الخوف” أحسست أنها تجميع لما يحس به من حزن وضائقة وإحباط وضياع خلاصة قلق لازمَـه فنقله لنا بلغته المعذبة عبر كلمات تشي بأنواع خوف سنأتي عليها ؛ وإليكم القصيدة :
الخوف
الخوف في أعالي الأشجار
له جذوع وفروع
أغصانِ وأوراق ولِحاء
له أيضًا عَطش
وله ندم :
لم تسلَّقتُ هذه الشجرة؟
أمِن أجْلِ ثمرتين ناضجتين
أصعد كل هذا العلو ؟
لو أستطيع أن أُثبِّت قدمي اليمنى
على ذلك الفرع
كي تتشبَّث كفّّْي
بغصنه ذاك…
ثم أضَع قدمي اليسرى هناك
ومِن ثَمََ أغمض عينيَّ
هربًا من نقاء الإحساس بهلعي
من هذا الارتفاع الشاهق !
رَهْبة الأصوات حولي
تتحرك كالضباب
والذباب هنا معدوم .
إذا استطعت أن أحضن
هذا الفرع
سأعقد ساقيّ أيضا حوله .
لكم أوَدَّ أن تصل يدي
إلى ذلك الغِصِن
لكن ما ثمرُ الوَدَادَةِ
يا أميرة ؟!
الفراشات هنا
لا تطير إلا مسرعه.
استطابت روحي
هذه الزهره
فاختطفها طائر آخر .
ها هو الرجل الذي
انتحر قبل أسبوعين
دموعه بحجم حبات الكرز
هذا الفرع الأجرد
كان أكثر ثباتًا
أقل تأرجُحًا
حين مرْرت به
قبل قليل
الزفرات القادمات
من البراعم السُفلى
مضغوطة ومُجْهَدة
ولا أمل في تنظيفها .
على الغصن الذي عن يميني
دُورِي كَهْل
يتأبط ذراع نَوَّارة
بقصد المضاجعه .
رشفة حساء
قبل الصلاه.
أحقاَ أن الحب تضحيهٌ ؟
أم ماذا؟
أفرك أناملي :
أهو أخذ وعطاء ؟
إذا كان هذا هو الأخذ
فأين العطاء ؟
أم إنه :
لولاكِ ….
لما كان رُعبٌ
مع هذا الارتفاع
وهذا البهاء لم يسطع …
ولم يورق … لولاكِ
ها هي يدي
تبلغ الغصن القوي .
ها أنذا أنزلق بسهولة
على الجذع الأمْلَس
لأجد نفسي وقدميِّ فجأة
على الأرض !
***
الآن ….
لا شك لدي
أن الصعود إلى أسْنِمَة الأشجار
أوفر يُسْرًا
أهون عناءً
من فزع الهبوط الخانق عنها !
الناصرة -05/10/19
في قصيدة ” الخوف ” هذه نجد الراوي الشاعر يصف خوفه بعد أن تسلق الشجرة وهذا التسلق هو رمز لمحاولة الوصول إلى الأعلى… إلى آفاق الأشياء،فالراوي الشاعر وهو يجسد الخوف يجعل له جذوعًا وفروعًا أغصانًا وأوراقًا ولحاء…. ويتساءل بنوع من التردد:
لم تسلقت هذه الشجرة؟
أمن أجل ثمرتين ناضجتين أصعد كل هذا العلو؟
ها هو يتمنى أن يتمكن من تثبيت قدمه كي تتشبث كفه بذاك الغصن ومن ثم يغمض عينيه ولماذا ؟ والإجابة كما يقول الراوي :
” هربًا من نقاء الإحساس بهلعي من هذا الارتفاع الشاهق”
يحس الشاعر برهبة الأصوات وهي تتحرك كالضباب وفي غمرة تلهفه للتشبث يتذكر أميرة تلك التي تذكّرها كثيرًا وفي أكثر من قصيدة – أميرة حبيبته أيام صباه فلا يرى إلا الفراشات التي لا تطير إلا وهي مسرعة إنها تغادر من غير أن يستمتع أحد برؤيتها….هي في حركة سريعة كأن لم تكن وفي مشهد آخر نجد :
” هذه الزهرة اختطفها طائر آخر …”
هي صورة أخرى من الفقدان والعدم وتتجسم القتامة بصورة حادة تتمثل في منظر الرجل الذي انتحر قبل أسبوعين … وما زالت “دموعه بحجم حبات الكرز”.
يحس الراوي أنه أخذ يفقد توازنه تدريجيًا فهذا الفرع الأجرد كان أكثر ثباتًا وأقل تأرجحًا قبل قليل أما الآن فقد أخذ يهتز ويضعف …. وربما سيتهاوى .
تنثال صور – هي من مخزون ذاكرة الراوي فيصوغ ذلك بصورة شعرية موحية :
” على الغصن الذي عن يميني
دوري كهل
يتأبط ذراع نوارة
بقصد المضاجعة
رشفة حساء
قبل الصلاه
أحقًا أن الحب تضحية؟
أم ماذا؟
أفرك أناملي:
أهو أخذ وعطاء؟
إذا كان هذا هو الأخذ
فأين العطاء؟
هي صورة الضعف الإنساني أمام النهاية وربما تكون بوحي التجربة وبسبب القصور والمعاناة والضعف الذي لا بد آت .
ويتساءل الراوي الشاعر مخاطبًا أميرة:
أم أنه
لولاك
لما كان رعب
من هذا الارتفاع
وهذا البهاء لم يسطع
ولم يورق لولاك؟
تبلغ يده الغصن القوي ولكن بدلاً من أن يتشبث وهو يحاول الهبوط ..فإنه ينزلق بسهولة على الجذع الأملس… ليجد نفسه وقدميه فجأة على الأرض…..
يعترف الشاعر بصعوبة الفزع- فزع الهبوط الخانق عن الأشجار:
” لا شك لدي
أن الصعود إلى أسنمة الأشجار
أوفر يسرًا
أهون عناءً
من فزع الهبوط الخانق عنها.”
نلاحظ في القصيدة تعابير كثيرة تدل على الخوف فبالإضافة إلى العنوان – وللعنوان دلالاته المشعة في النص – وكم بالحري وقد تلته علامة التعجب والدهشة نلاحظ أنه يستخدم اللقطة في أول النص في جملة خبرية مفاجئة؛ كما يستخدم ألفاظًا هي من حقل الخوف الدلالي:
الهرب الهلع الرهبة الانتحار الدموع الزفرات الضغط فرك الأنامل الانزلاق الفزع…
إن الخوف في أعالي الأشجار ومنها (أسنمة الأشجار كما يسميها في نهاية النص) له عطش وله ندم. العطش هو الظمأ إلى المجهول هو البحث عن الأعلى وأما الندم فهو التساؤل عن جدوى أي فعل نفعله وما بين العطش والندم يكون هذا الصعود على الشجرة رمزًا دالاًّ على البحث عن الحياة …عن كرامة العيش …عن جمال اللحظة… عن أميرة – المرأة الحلم عن …وعن …
يصف الشاعر الخوف والتهيب بشكل مجسّم يحسه كل من يصعد على الشجرة العالية ويتلمس خطر الهبوط . يقول في صعوده وهو يتساءل:
“لكم أود أن تصل يدي إلى ذلك الغصن…
لكن ما ثمر الودادة
يا أميرة ؟”
إن السؤال هو بلاغي كما نرى فالعدم هو الذي يتمثل لنا في إجابته – وها هي الفراشات الجميلة تطير مسرعة… وها هي الزهرة المستطابة- اختطفها طائر آخر.
ولو أضفنا صورة الرجل الذي انتحر قبل أسبوعين- هذا الرجل بخطورة حالته وفاجعتها،
.. وصورة الفرع الأجرد الذي أخذ يترجح وكذلك صورة الزفرات القادمة من البراعم السفلى وهي تتصاعد نحوه لأدركنا معنى هذا الخوف الذي أصاب الراوي وتلمسنا هذا النتاج الغرائبي الذي أفرزته مخيلة مذعورة .
من هذا الحزن العميق يتجلى الخوف ومن هذا الخوف المريع يتجلى الحزن علاقة تبادلية ولنقرأ مثلاً آخر على ذلك يشف عن رؤية غنية بالدلالات :
الليل يخيفني يا سيدي
وأقصى ما يبلغه المساء مني الآن
……
سم هاري المساء
الذي أمضغه كالعلف.
وإليك مثلاً آخر يجمع بين الحزن المريع والهلع والفجيعة :
لو رأيتني وأنا أحترق
لما عرفتني يا سيدي !
أي حزن هذا
الذي لا تذيبه النيران ؟!
لو دنوت مني وأنا أصرخ
لألفيتني وجد غمام
تتداوله السَّموم
أي فجيعة هذه
التي لا يجمدها الصقيع ؟!
آه لو تراني وأنا أفنى
آه لو تراني وأنا العنق
من مذبحة تزدهر
والذراع التي تظهر وتختفي
من ذاكرة تغرق
آه لو تشاهدني وأنا الذوائب والمرآه
من موجة مذعورة
يطاردها الفيضان الغادر
لغة الشاعر – كما لاحظنا – فيها هذا التصوير البارز لمظاهر الحزن والخوف فصراخه والفجيعة التي تلم به والحديث عن المذبحة والموجة المذعورة والليل المخيف- كل ذلك هو جزء من واقع فأحزانه لا تذيبها النيران لكثرتها أو لكبرها وما مر به من فجيعة كأنه سائل لا يستطيع الصقيع ببرودته أن يجعل منها باردة وصورة الذراع المستنجدة التي تبين وتختفي في حالة تضادها – ينعكس فيها هذا الرعب الذي جسده لواقع ذاكرته وحاله ……تضاف إليها صور الأعناق والمذبحة والسموم والليل المخيف وهذه كلها تجعلنا نتمثل ما يعانيه الشاعر وما يتكبده من أهوال.
الشاعر في قصيدته القصيرة “إضافة !” يبين لنا مدى عبثية هذه الحياة وبالتالي ألمه الممزوج بالخوف …. لنقرأ:
ما رأيته مرقومًا على شاهدي
في باحة أحد كوابيسي
“هنا يرقد امرؤ
حاول عبثًا
أن يضيف خيط شعاع
إلى الشمس!
العنوان وعلامة التعجب يكفيان لإثارة التساؤل وقراءة النص ترينا أنه يتحدث عن كوابيس . إذن هي جمع وليست مفردة ولو شاء لحدثك عن كابوس آخر وآخر. وكل كابوس هو خلاصة ذعر ولولا ذلك لما سماه هذا الاسم. والذعر يمكن أن يكون ويتأتى استمرارًا لواقع حال أو تنبؤ بوقوعه.
يختار الراوي كل كلمة فـ “الشاهد” و”يرقد” مثلان على أنه تصور شخصه هو وقد رحل عن الدنيا و(امرؤ) هي تنكيرية تمامًا – كالشخص الذي ذكره توماس غراي ( 1716 – 1776 ) في قصيدته Elegy Written In a Country Churchyard
فغراي يقول في خاتمة القصيدة – The epitaph = الشاهد :
Here rests his head upon the lap of earth
A youth to fortune and to fame unknown….
– بمعنى ” هنا يرقد رأسه فوق أحضان الأرض شاب لم تعرفه الثروة ولا الشهرة …”
ولكن المجهول لدى غراي كان إنسانًا بسيطًا عاديًا بينما هو لدى طه له فعاليته وجديته حتى في الاستحالة فقد حاول أن يضيف خيط شعاع إلى الشمس. وهل يعقل ذلك؟
لا نسأل السؤال – منطقيًا – في الشعر؟ ولكننا نعرف مدى العبثية في ذلك حتى بدون لفظة- عبثًا- التي وردت إضافة حقيقية من غير ضرورة .
إن الشمس لا يضاف إليها حتى لو وقر في نفس الشاعر أن يفعل ذلك فهو إذن يرقم على الماء وهو يخفق في مشوار حياته ويحس بعمق أنه بلا طائل.
إذا كان الحزن رفيقًا للخوف – فيما سبق – فإن ذلك يتردد أيضًا في تجليات الخوف من النهاية …من الموت ففي قصيدته “شاي ونوم” يقول بنوع من التساؤل والطلب :
“إن كان ثمة مدبر لهذا الكون
بيده البسط والقبض
……
فأنا أصلي له
طالبًا إليه:
أن يقدر أجلي
حين تنضب أيامي
فيما أنا جالس
أحتسي من كوبي المفضل
طفيف حلاه
في ظل صيف بعد ظهريَ
الحميم.
وإذا لم يكن شاي وظهر
فإبان نومتي العذبة
بُعيد الفجر.”
أمنيته هي أن يكون جزاؤه مقتصرًا على – أن يلمح مرة كل شهر أو كل شهرين تلك التي حُرم من رؤيتها منذ فارقها في صدر عمره .. طلب إنساني بسيط وموحٍ بهذا الحنين المستبد . وأما الطيبات في الآجلة فحسبه منها ” الشاي والنوم ” .
وفي غمرة هذه الأمنيات التي تبعث على الابتسام يعرفنا بهويته التي يذكّر الله بها :
” لم أبقُر
في عاجلتي
بطن نمـــله
ولم أسلب مال قاصر
ولم أزوّر مكيال زيت
……
وما استهدفت قط
أن أكون الغالب في لعب
مع جار أو صديق
أو حتى أحد المعارف !
لم أسرق قمحًا
ولم أنهب ماعونًا …….
هذا الخوف من النهاية يفلسفه الراوي ويؤكد فيه على هذه البساطة غير البريئة – التي تشع في حياته ومن حياته .
النهاية تتمثل كذلك في قصيدته (ليس إلا ) فهو يروي لنا فيها عن التغيرات التي تعرض لها في جسده وبعد أن وضع قدميه في الستينيات من عمره فقد كانت هذه أولاً معدودة وعادية :
” بضع تغيرات ليس إلا :
ضغط يضاغط سكري
التهاب مقيم في المفاصل
اضطراب مزمن
في عصارات كوكبة
من الغدد الأساسية .
فُضَّ فمي
ثقُل سمعي
خلل جذري
في رؤيتي عبر نظارات سميكه
الاعتماد الكلي على العكاز
حتى عندما أسعل !
أرق مجوسي لا يخمد
في ليل أسود أسود
أطول من شعر ستين غوله
بضع تغيرات كما ترى
إلى جانب وهن دائم
في عضلة الفرح
من قلبي
أيضًا ملاحظة حالات عامة
مُلفتـــه :
من فئة اللجوء إلى استعمال التعبير
” فُضَّ فمي ”
بدل القول
” تساقطت أسناني ! ”
صفورية منها الخوف…. وعليها الخوف :
يلاحظ الدارس لشعر طه أن صفورية هي التي عمّقـت حزنه وشجاه وهي التي صاحبت مسيرة كلماته ونجواه …هي بمن فيها : أميرة وقاسم وعبد الهادي ووليد ووو…. أسماء ومعالم لا تمحي من الذاكرة وحينما تغمره الذكريات بحدتها وشوكتها تصيبه رعشة هي خشية ممزوجة بالحزن – خشية على بلده وعلى ذكرياته وعلى تراب بلدته ونباتاتها وعلى هواء صفورية حتى يظل نقيًا …. فلنتابع أين يتوقف الراوي الشاعر بعد أن زار بلده في ذكرى الأربعين سنة لتهجير أهلها :
صفورية
ماذا تفعلين هنا
في هذا الليل المجوسي
العاكف على ذاته
عكوف القلب
على البغضاء ؟
ماذا صنعت بسيف صلاح الدين ؟
وأين وفود الظاهر
أين الجميع !
أين الظلّ والرمان والمشاعل
وأين الساقية ؟
أين قاسم والمعاصر والقسطل
وأين أعراس عناقيد التبغ
الأشقر كالجدائل
الماضي يغفو بجانبي
كما يغفو الرنين
بجانب جده الجرس
والمرارة تتبعني
كما تتبع الصيصان
أمها الدجاجه ….
ولكن فيما بعد هذه الزيارة التي أغرقت فؤاده بمشاعر تترى حادة – مشاعر تكاد تفتت كبده طلبت منه مستشرقة – بعد أن اطلعت على كتاباته عن صفورية – أن يصحبها إلى مواطن حنينه وذلك لتراقب حضوره فيها ولتصف صورته في انفعالاته يأبى الشاعر رغم إلحاحها ويقدم لها قصيدة ” ريتك ما تصرّفيها ! ” بدلاً عن ذلك مبررًا سبب إحجامه فقد تخيل نفسه في الموقع ذاته وأخذ يسأل مرة تلو الأخرى بعين خياله :
أين اللوز الأخضر ؟
أين الشحـيتيّات والثغاء ؟
أين رمان الأمسيات ؟
ورائحة الخبز ؟
أين القطا والشبابيك ؟
أين رفة جديلة أميرة ؟
أين السمان وصهيل المُحجّلات
مطلوقات اليمين ؟
اين أعراس السنونو ؟
اين أعياد الزيتون ؟
وفرح السنابل ؟
أين أهداب الزعفران
وملاعب الغميضه ؟
أين قاسم ؟
أين الزعتر ؟
أين الشوحه
تنقض على الدجاجات
من عاشر سما …
فتصرخ خلفها الجده :
” أخذت الرُّزّية يا فاجري !!
ريتك ما تصرّفيها يا بعيدي
ريتك ما تصرفيها !!”
2004/4/10
فماذا نسمي هذه التساؤلات وهذا الاستحضار الذهني للتفاصيل اليومية في بلده ؟ فحتى التي تركت أثرًا سلبيًا معينًا وجد لها هنا نكهتها فمنظر الجدة والشوحة والدعاء هي لقطات تصويرية هي جزء من الذاكرة ومكون لها ……إنها جميعًا تشكل الأشجان المنبعثة من خوف على المصير وعلى الضياع .
*****
الحزن لدى الشاعر حزن متميز فهو كما وصفه في قصيدة حزن :
لا الخوف من المقابر
ولا الصَّـرَد
ولا الكوابيس
تستطيع
أن تحجب حزني عني ……
يقول في مكان آخر :
حين كنت طليقًا
كان خوفي
يلتف حول عنقي
كأفعى
وأنتِ كنت نبع الحزن.
علاقة الحزن بالخوف ماثلة كذلك في خطابه للحزن :
لن أسألك
كيف قُيّـض لك
أن تذبحني على هذا النحو ؟
لن أسألك
ما الغايه
من جعلي هكذا :
أنهار كالممالك
وأتصدع كجدران البراكين ؟
لن أطلب إليك
أن تفسر لي هدفك
من جعلي هكذا
أتبدد كالسحب
وأتساقط
كملامح النسور؟
أمور كهذه
لا شك تعنيني
لكنني أدمنتها
فلأدعها الآن تغفو
مثلما يغفو الخوف
أحيانًا
كما تغفو البذور
وتبعا ً لهذا الحنين الجارف فإن الشاعر تستوطنه المرارة وخاصة كما يصف نفسه :
” بعد ” نهش ” عجين جمجمتي
بكل مناسر العالم ”
من هنا نلاحظ المبالغة في تصوير الصورة و نحس هذه اللغة المتميّزة الماثلة بالفجيعة .
يتوقف الراوي في القصيدة على خوف العصفور وهلعه .. هذا العصفور الذي تطارده أفعى بعد أن خلّفه سربه وراءه فيصف هذا الخوف :
” غابات وأقمار وبحيرات،
مناف جداول،
ومروج لا يحدها البصر
كلها كانت
تتكدس على عنقــه وتنهار
بسرعة البرق
من شدة الهلع
مذابح و مدن
كانت تتجمع في نظراته
بسرعة مذهله
وهناك تحترق
وتتناثر مع ريشه ….
—
هلع ذاك العصفور
لا يمكن أن يكون
هلعه وحده
خوف ذاك العصفور
لا يمكن أن يكون
خوف عصفور واحد
يا حزن
خوف ذلك العصفور
لا يفهم إلا أن يكون
خوف السرب بأكمله
ولا يظن ظان أن الحديث هو عن عصفور مجرد وعن سربه…. فالشاعر في دخيلة نفسه يحس أنه هو العصفور ولذا كانت خاتمة القصيدة تقول مشيرة إلى ذلك وموحية به :
” أغلب الظن
يا حزن
أنك لست حزني وحدي !! ”
إذن فالراوي عميق الإحساس بالفجيعة – الفجيعة التي تستلزم الخوف – يقول :
ذبحوني
على العتبه
كخروف العيد
….
وذبحوني
من الأذن إلى الأذن
آلاف المرات
وفي كل مرة
كان دمي يتأرجح كقدم المشنوق ….
لن أموت
لن أموت
سأبقى شرنيخة فولاذ
بحجم موسى الكبّاس
مغروسة في العنق
سأبقى بقعة دم
بحجم الغيمة
على قميص هذا العالم
أو ليس هذا المشهد التصويري باعثًا على الرعب إلى درجة كبيرة ومع ذلك يؤكد الراوي بقاءه وثباته فهذا هو قدره أن يبقى ثابتًا ما وسعته الحيلة ليقض مضاجع العالم المتهاون في حقه وفي إنسانيته …
وفي قصيدة أخرى يصف مثل هذا الرعب فيقول :
أي رعب .. يجتاحني
وأنا أتصفح بنفسي
في مثل تلك المعاجم .
أنا هناك :
جمل هارب من المسالخ
يعدو نحو الشرق
تطارده مواكب من السكاكين
والجباة
والزوجات الملوًحات بمــدقات الكبّه ..
وهذه الصورة – صورة الجمل الهارب لقطة تصويرية مثيرة فيها دلالات الرعب وفيها اتهام بسبب القصور فالجمل يهرب نحو الشرق ومواكب السكاكين تلاحقه ولا من مغيث !!!
ثم يصف نفسه بأنه يتنفس حالة ” جُذام فقهي وتاريخي ” ويشعر أن عري اللغة يتهرّأ في صلبه وعارضيه …
من هنا فإن خوفه يحمل رسالة اتهامية ووجودًا فاجعًا له دلالته ودعوته .
أما الخوف من الموت – وقد أشرت إلى ذلك أعلاه – فهو إدراك حسي وفيه صورة يلتقطها من طبيعة ما حوله :
عندما تنتصب العتمة أمامي
فجأة
كموجه الغريق
سأدرك أن نبع النبض
من قلبي الكليل
قد أشرف على الجفاف
وفي هذه اللحظات التي وصفها يبين له أن خوفه سيختفي وعندها لا يكون خوف :
سيرحل خوفي أيضًا
عائدًا
مع نجمة أقرب فجر
إلى بحيراته الأولى .
لكن علامة موتي ستبقى
أن أنظر إلى عينيك
دون أن أبكي
وكأن البكاء قدره فإذا نظر إلى عينيها دون أن يبكي فهذا علامة موته فعيناها إذن مثيرتان لدموعه بما فيهما من إثارة لوعة وتفجير أحزان .
يتردد الحديث عن الكابوس في أكثر من قصيدة ففي قصيدته ( هوذا المحراب ذو الفولاذ الساقط وتلك أمي قبل أن يغادرها النواح ) يقول طه :
خرجت لتوّي من كابوس أراني
” ضبعًا ” عاريًا
مخطط الوجه والفكين
يغتصب ابنة جيراننا ” فوزية ”
عن يمينها أبوها
كان قائماَ يتسم
وخلفه جنية –
على عنق محراب فولاذي
آيل للسقوط –
من شعرها معلقة .
***
أفقت حلقي يابس
كقشرة جوز
شفتاي مصفدتان
أتمنى لو أستطيع أن أفر من غدي
فرار النوم من شرفة الرأس …..
لاحظنا مما سبق أن أهم ما يميز شعر طه – هذه الصور التي يقدمها عبر نصه وهي صور مجسمة حسية غالبًا حتى لو بدا أنها تنحو نحو المباشرة . إنها مباشرة ” مضلّـلة ” فهي بإيحاءاتها تثير مخيلة المتلقي فيقبس منها أجواء وتأويلات ويشكل منها ما يجعله مشاركًا في النص منفعلاً به …
والطابع القصصي الذي يسوقه الشاعر في كل نص بما فيه من سرد انفعالي،غالبًا ما يكون مدعاة تدبر بسبب ما فيه من درامية مثيرة ….
كما يلجأ الشاعر إلى التكرار اللفظي والمعنوي فنجد فيهما هذا الترديد وكأن الشاعر يتوقف لدى العبارة ثم ما يلبث أن يندفع يعيدها بنبرة جديدة وتوزيع جديد لصورة جديدة فتتراكم الصور وينسجم إيقاع .
ومن التكرار اللفظي ما وجدناه مثلاً في قصيدة ” ريتك ما تصرّفيها ” فقد كرر الشاعر اسم الاستفهام ( أين ) إحدى عشرة مرة وكان وهو يسأل يعيدنا إلى المكان ويقرع أسماعنا بإلحاحه مبررًا عدم توجهه إلى بلده فماذا سيرى هناك ؟؟!! حتى الصور التي كانت سلبية كمنظر الجدة وهي تطارد الشوحة وهي تدعو عليها مضت إلى غير رجعة لذا يتكرر الدعاء ( وقد كان عنوانًا كذلك ) : ريتك ما تصرّفيها بمعنى ليتك تموتين …لم يجعل الشاعر اللفظة مباشرة فأوحى بالتعبير ليوجد العلاقة أيضًا مع رزّيّة العجوز .
ولو نظرنا إلى قصيدة ” شاي ونوم ” فإننا نجد تكرار ( لم ) لتدل على براءة الراوي وعلى طيبته وأصالته . إنه يحكي حكايته لمدبر الكون ويطلب طلباته : الشاي والنوم فيقع الطلب في أكثر من موقع تأكيدًا لدعوته وهذا التأكيد يتماشى وبساطة الطلب والرجاء .
تبقى الإشارة إلى أن الشاعر- من خلال النصوص التي ذكرتها ومن سواها – يلجأ إلى تراكم الوصف من خلال الإكثار من الألفاظ الواصفة والجزئيات المتجاورة وذلك بقصد منه أن يعمق الحدث أو ينقل التجربة موحية ومحركة .
إن ” الخوف ” وتجلياته هو ” المعنى ” الذي طرحه الأديب وكان يلقي عليه ظلالاً فكانت اللفظة نفسها دليلاً آنًا،و كانت الألفاظ المصاحبة لدلالتها تعكس هذا الخوف أحيانًا .
ولكن الخوف وألفاظه المختلفة المتعددة تحمل في طياتها ” معنى المعنى ” الذي ذهب إليه الجرجاني حيث يرى أن المعنى هو – ” المفهوم من ظاهر اللفظ وهو الذي تصل به بغير واسطة ” أما معنى المعنى فهو ” أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك إلى معنى آخر يُفهم من ذلك المعنى إلى معنى آخر – هو الباطن الذي يحايث الظاهر ..” .
هذه الملازمة في المعاني هي الفاعلة في معظم نصوص طه . وبالتالي فإن هذا الاستغوار للنص يؤدي إلى تغيير أو على الأقل إلى مشاركة المتلقي أو على أقل الأقل إلى تعبير الشاعر عن ألمه من خلال خوف يرين وحزن دفين .