العنف وروح العطاء بقلم: نعمان إسماعيل عبد القادر
تاريخ النشر: 12/10/19 | 8:29حين ندرك المعنى الحقيقي للعطاء وندرك أن “ثقافة الأخذ فقط”، والتي يتعلمها افراد مجتمعنا منذ نعومة أظفارهم ما هي إلا ثقافة بائسة وعقيمة، حينها نستطيع أن نقضي على العنف في مجتمعاتنا، ونستطيع أن نصبح مجتمعا منتجا لا مستهلكا، ونستطيع أن نجعل من مدننا جنات تجري من تحتها الأنهار. ولكن الواقع المقلق يزداد سوءا للأسف يوما بعد يوم. فالقتل والسرقة والاحتيال واعمال الشغب والتخريب وغيرها من المحرمات التي تحرّمها الأخلاق الإنسانية، كلها من ثقافة “الأخذ بلا عطاء”. لهذا لا بد من إعادة النظر في المناهج الدراسية وفي أساليب التربية البيتية، والتربية في المجتمع، وحتى في التربية الدينية من أجل زرع بذور العطاء في نفوس النشء حتى نستطيع القضاء على العنف المتجذر والمتغلغل في الأعماق. ولا بدّ أيضا من تكثيف حملات توعية، بدءا من المدارس مرورا بالصحافة بأنواعها وانتهاء بالخطب الدينية، ترشد أفراد المجتمع صغيرا وكبيرا وتبين لهم مدى أهمية روح المبادرة والعطاء ووجوبهما من أجل نهضة المجتمع بكامله. كم ينتابني العجب حين أسمع خطب الجمع تتحدث عن صفات الحوريات في الجنة وتتغافل عن أولائك الذين يعيشون تحت رحمة العنف، إن كان للعنف رحمة! لا أدري لماذا لا نقارن أنفسنا بالشعوب الراقية التي تغلق أبواب السجون لقلّة السجناء وانعدام العنف؟ لماذا لا نتعلم من غيرنا؟ لماذا لا نعلّم أبناءنا أن تنظيف الشارع واجب وضروري، بل نبادر في التنظيف بدلا من الجلوس وانتظار البلدية لتقوم بذلك؟ أحني هامتي للذي يطمر حفرة في الشارع كي لا تتسبب بأذى للآخرين. وأحني هامتي للذي يتبرع من ماله كي يخفف حرارة الجو على الطلاب في مدارسهم. وأحني هامتي للذي يبادر إلى إنشاء جمعية لتقديم المساعدات للفقراء والمساكين.
نحتاج إلى أشخاص مبادرين يزرعون الأزهار في عقول شبابنا، وإلى متبرعين يبنون الكليات والمدارس والمستشفيات لا للربح بل ليصبح المجتمع أكثر تقدما. نحتاج إلى مفكرين يجلسون للتخطيط من أجل إنشاء بنى تحتية للنهوض بالمجتمع لا من أجل نهب ثرواته. نحتاج إلى مثقفين يؤثرون في المجتمع ويغيّرون فيه السيء إلى أحسن ثم يطوّرون، ولا نحتاج إلى متعلمين حزبيين او عقائديين أو قبليين أو أشباه متعلمين. ولسنا بحاجة إلى متعلمين يرون الباطل ويقفون متفرجين مكتوفي الأيدي.
عندما نتعلم روح المبادرة وروح العطاء ونذوّتها في نفوسنا، حينها لا نحتاج إلى شرطة لتحمينا، ولا نحتاج إلى شركات حراسة لتحرس أملاكنا، ولا نحتاج إلى كاميرات رقابة لتراقب الشارع والمارين فيه؛ لأن العطاء يؤدي إلى الاكتفاء الذاتي، وإلى العدالة الاجتماعية الحقيقية، ويؤدي إلى طريق الازدهار والتقدم. عجبت مما رواه لي ذلك المهندس الذي عاش في ألمانيا مدة طويلة، وقال: إن الفلاحين الألمان الذين يعيشون في القرى يعرضون محصولاتهم الزراعية على أرصفة الشوارع ثم يتركون بجانبها ميزانا ولائحة للأسعار، وعلبة لوضع النقود فيها، كي يوزن المارّون ما يحتاجونه ويضعون النقود في المكان المخصص لذلك. والعجيب في الأمر أنهم يعودون في المساء وقد بيعت بضاعتهم دون أن ينتقص من ثمنها شيء. والأعجب من ذلك أن المشترين يوزنون ما يحتاجون بكامل أماناتهم ويدفعون الثمن دون رقيب أو حسيب. ضحك أحد الحاضرين المستمعين فقال ساخرا: لو كان هذا الأمر في بلادنا فلن يجد أحد منهم لا بضاعته ولا نقوده. أي ثقافة اكتسبها هؤلاء الألمان؟ ولماذا لا يوجد لنا ضمائر كضمائرهم؟
الجواب: لأننا نعرف معنى “الأخذ” ولا يوجد معنى للعطاء في معاجمنا اللغوية، وينبغي للغويين والنحويين والمفكرين وعلماء علم الاجتماع والنفسيين أن يبحثوا عن المعنى الحقيقي للعطاء.
أين الأمن والأمان في ديارنا؟ لا يأمن الواحد منا النوم في بيته إلا بعد بناء الأسوار المحصّنة العالية من جهاته الأربعة ثمّ تتبعها كاميرات رقابة، يليها تحصين النوافذ السفلى بالقضبان الحديدية، بينما لم أرَ في دول أوروبا التي زرتها بيتًا واحدًا محاطًا بالأسوار، ولا نافذةً محصّنةً بالقضبان الحديدية، بل على العكس من ذلك فقد شاهدتُ أغلب البيوت مبنيّة على أطراف الأرصفة، وصُمّمت لها نوافذ زجاجية كبيرة تحجب الستائر الداخلية الرؤية عن المارّة، وبات من السهل جدًّا اقتحامها. ولكنّ الضمائر الحديديّة، والقلوب الفولاذيّة تحول دون ذلك.. هكذا يكون الأمن والأمان، وهكذا تُبنى المجتمعات المتحضّرة.
ورث الناس الأخذ بالثأر، وورثوا الأخذ بالخاطر أيضًا، ولكنهم يثأرون ثمّ يأخذون بالخاطر. وورثوا المثل القائل: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”.
رحم الله الشاعر الذي قال:
أعطي نصف عمري للذي يجعل طفلا باكيًا يضحك
وأعطي نصفه الثاني لأحمي زهرة خضراء أن تهلك
وأمشي ألف عامٍ خلف أغنية وأقطع ألف وادٍ شائك المسلك
وأركب كل بحر هائج حتى المّ العطر عند شواطئ الليلك
أنا بشريّة في حجم إنسان فهل أرتاح والدم الذكي يسفك؟
أغني للحياة فللحياة وهبت كل قصائدي، وقصائدي هي كل ما أملك.
يا أبناء شعبنا!! علّموا أبناءكم العطاء والنفع وروح المبادرة! علموهم التسامح ونبذ العنف! علموهم أن لا مكانة لرجلٍ إلا بالأخلاق الحميدة.. وأعلى مراتب الأخلاق لا بالتدين، ولا بالمعرفة، ولا بلباقة اللسان، إنّما بالمبادرة والعطاء.
هذا فلان يصل الليل بالنهار مصلّيًا، ولكنّه حين أقام جدار بيته، سرق من أرض الشارع مترًا واحدًا وضمّه إلى ساحة بيته. وذلك فلان يعتمر كلّ عامٍ بنى بيته في أرض عامةٍ خصصها عمدةٌ سابقٌ كي تكون متنزهًا للجميع. وفلان ثالث، يصوم الاثنين والخميس، يحلو له دائمًا وضعُ مخلّفاتِ جزِّ العشب الأخضر وأغصان الأشجار من بيته، في كومة كبيرة نصفها في والشارع والنصف الآخر على الرصيف.
من حقّ كلّ إنسان أن يأخذ، ولكن عليه أن يتعلّم العطاء؛ لأن الشعوب لا تبنى إلا بالعطاء. والمقصود بالعطاء لا أن يعطي المرءُ متسولاً صادفه على قارعة الطريق بما تجود به نفسه، إنّما العطاء أن يُقدّم شيئًا يخدم به أبناء مجتمعه عامةً، عملاً وليس قولاً، حتّى لو لا يملك من المال شيئًا. فلو اجتمع بأبناء الجيران وصمّموا على إطلاق حملة توعية وتنظيف الشارع مرّةً كلّ أسبوعين، وردم الحفر، وزراعة الأشجار بجانب الأرصفة، وإزالة المطبّات لاعتبرنا هذا من أعظم درجات العطاء.. فهل يأتي اليوم الذي يدرك فيه أبناؤنا العطاء بكل مفاهيمه ونصل إلى درجة نترك فيها المحاصيل قرب الأرصفة ثمّ نعود في آخر النهار لنجمع النقود من الوعاء الذي وضع خصيصًا لذلك؟