قراءة في قصّة “الأسد الّذي فارق الحياة مبتسمًا”
تاريخ النشر: 25/10/19 | 7:33قراءة في قصّة “الأسد الّذي فارق الحياة مبتسمًا”، للكاتب المربّي سهيل عيساوي
• هذه القصّة من تأليف كاتب أدب الأطفال، المربّي سهيل عيساوي من كفرمندا، ورسومات الفنّانة رنا حتاملة، الصّادرة عن أ. دار الهدى ع. زحالقة، عام 2019. والقصّة من القطع المتوسّط والغلاف الصّقيل، الواقعة في 37 صفحة.
• لا شكّ أنّ الكاتب سهيل عيساوي، يأبى بقلمه الجفاف أو التّقاعس عن إرواء هذا الجانر من الأدب، الموسوم بأدب الطّفل، فهو يتحفنا كلّ مرّة بقصّة جديدة، فيها الحبكة والصّراع والنّهاية الهادفة، وهذا ينسحب بالمجمل على معظم قصصه الّتي كتبها.
لكن هذه القصّة الّتي كتبها مؤخّرًا تُنبئ بفكرة مهيبة، اِختمرت جيّدًا قبل أن يصدرها الأديب سهيل. ومن عنوانها “الأسد الّذي فارق الحياة مبتسمًا”، نجد فيه اختصار الحكاية برمّتها، ويبدع بكلّ شيء. فملك الغابة يبدو مبتسمًا، وهذا عند موته. وفي العادة لا يموت الملك من العائلة الحيوانيّة هنا، والابتسامة على محيّاه. وإذا بهذا الأسلوب الرّمزيّ أو الاستعاريّ يطرق العنوان قلوبنا، ويجعلنا نبحث عن سرّ العنوان الّذي ارتضاه الكاتب. وهو يكشف مضمون هذه القصّة المسبوقة بشيء من الإتقان والإبداع والإبحار في الاتّجاه الإنسانيّ الوجوديّ. فالقصّة لا تتكلّف الوعظ والإرشاد والتّعليم، بقدر ما تركّز على الحالة الوجدانيّة أو قل الإنسانيّة الّتي يحياها ملك الغابة، وتحاول طرح حلول واقعيّة مستساغة.
الحالة الّتي يستعرضها الكاتب في قصّته، هي استثنائيّة، تُبرز هذه الضجّة الكبرى الّتي أثيرت حول الأسد؛ كونه عظيم الحيوانات. والأسد ذو القدر المهمّ، فالحيوانات دونه لا تستطيع تدبّر أمورها المعيشيّة والحياتيّة. إذ بدون الأسد واقفًا وقوفًا صلبًا شامخًا، تتعطّل هيبة الحيوان في الغابة، فهو من يَهب الأمن والأمان والرّزق، وحتّى الألفة بين أفراد المجموعة الحيوانيّة، الّتي تكابد سبل عيشها، وتبلغ الجهد والمشقّة لتستطيع الحفاظ على بقائها الوجوديّ والنّوعيّ في بيئة الغابة.
• إنّ الكاتب يحرص في قصّته على استعمال التّعابير المجازيّة، وبخاصّة التّشابيه في السّرد؛ ليجعل القصّة شادّة للقارئ، مثيرة، ويُغنيها بالتّكثيف اللّغويّ الّذي يركّز القصّة، وبذلك يلفت المتلقّي إلى فنيّة وأسلوبيّة القصّة، كما في قصص كليلة
ودمنة الّتي راجت وبلغت أوج شهرتها في العصر الوسيط، في الحياة الأدبيّة الكلاسيكيّة. ونضرب هنا أمثلة على مجازيّة وإنسانيّة القصّة؛ ففي البداية (صفحة 4)، جاء في القصّة: “في غابة مترامية الأطراف يجتازها نهر كبير تتدفّق المياه بقوّة، أشجارها باسقة، تعجّ بالحياة، يحكمها أسد شجاع تهابه الحيوانات والطّيور…”. أو “أطلّت عليه اللبؤةُ، وكان وجهها شاحبًا والإرهاق باديًا على جسدها” (ص 10). “انتشر خبر مرض الأسد بين الحيوانات والطّيور، كانتشار النّار في الهشيم” (ص 16). “أقبلت الحيوانات زرافاتٍ زرافاتٍ هائمة على وجهها، تتلهّف لسماع أخبار الأسد” (ص 19).
وفي المجمل العامّ نجد أنّ القصّة، تبرز حالة إسقاطيّة أو ترميزيّة إليغوريّة (Allegoric) لوضع اجتماعيّ إنسانيّ، قد يسود بين بني البشر، من حيث مبدأ التسلّط والصّراع الطبقيّ والسّياسيّ حتّى. ومن هنا فإنّ مرامي القصّة أو لِنقُل قصد الكاتب من قصّته هذه، قد يكون إدراك أهميّة العيش في مجتمع متآلف متكاتف، ومتعاضد خاصّة عندما يعصف بالمجتمع مصيبة، أو كارثة لا تحمد عقباها. ولنأخذ حالة الأسد نموذجًا حيًّا على ما نقوله.
أمّا من النّاحية السّياسيّة، فإنّ الحدث الّذي يعرضه القاصّ، يكاد ينطبق على الحالة البشريّة في صراعه على السّلطة وتقلّد منصب الزّعامة على المجتمع…رأينا كيف عند مرض الأسد واقتراب موته المحقّق، اجتمعت حيوانات الغابة وأرادت أن تنصّب ملكًا جديدًا عليها، وكلّ يدّعي أنّه صاحب الحقّ في تولّي منصب ملك الغابة…
إنّ رسالة الكاتب، هي أبعد من مخاطبة عقل طفل برأينا، وتخطّي الفكرة المباشرة الواضحة أمامنا من خلال سير الحدث والحبكة عامّة. فنحن بني البشر، ننظر إلى حالات بعضنا، وما يحيق بنا من خطوب وإرهاصات وأخطار، دون الوقوف على حيثيّات المشكلة بل نحوم حولها أحيانًا، دون وضع الحلول الممكنة…كلّ منّا يدّعي الصّدق وصاحب الحلّ السّليم والواقعيّ، فالجميع يدرك أنّ عدم تولّي قيادة حكيمة لتدبير دفّة الحكم، قد يؤدّي إلى نتيجة سيّئة، وقد يودي إلى التّهلكة.
لا بدّ من إنشاء وتأكيد مبدأ القوّة والقيادة، بالمعنى الإيجابيّ في المجتمع، لنستطيع الحفاظ على أفراده، وننهج النّهج السوّي السّليم، وإن اختلفت الآراء وتباعدت عن الجادّة. الأمر مناط الكلّ، إذ لا بدّ من الائتمان والائتمار على تحقيق النّهج
الفكريّ والسّياسيّ لبناء مجتمع سليم يترشّد بالحريّات والدّيموقراطيّة الإيجابيّة. على القائد أن يطمح ليكون طلائعيًّا، ينطلق من هموم واحتياجات النّاس، ويرجع بعد تحقيق نتائجه ومآربه للنّاس، لتأكيد مبدأ المنفعة العامّة، والحقّ الشّرعيّ والعيش الكريم، المرتكز على مبدأ سنوح الفرص للمجتمع كافّة. وهذا يمكن أن نلتمسه في شخصيّة “الأسد”، السيّد المُأتَمن على أحوال العامّة، هذا إذا نظرنا إليه بشكل كيانيّ وتقييميّ.
إذ لا بدّ من بناء الفرد والوطن وتأكيد حريّة الأفراد، وإحاطتها بالعناية والرّأي السّديد الّذي يُعاين الواقع، ويقوم بإصلاح الخَلل وتنجيع السّياسة العمليّة بكلّ أطيافها… وكلّ ذلك تحصيل حاصل، لنضوج الوعي والفكر الخلّاق، والاعتقاد المبدئيّ بضرورة العيش تجربة مستندة، على أنّ إنسانيّتي وعقيدتي ملاك ذاتي. ونحاول من موقعنا أن نغيّر واقعنا ببثّ روح الفكر التّنويريّ، ركيزته الحقيقة والرّأي العامّ المنفتح على الآخر، عبر ثقافة التقبّل بعيدًا عن الكبت والقهر والاستبداد.
أحيانًا نُمثّل أنّنا نمتلك الحلول وبناء الإنسان ومؤسّساته الّتي مناط ممارساته ونشاطاته الإنسانيّة الفكريّة، الاجتماعيّة والسّياسيّة، لكنّنا نُجافي الحقيقة، ولا نملك طاقات موضوعيّة لنقود المجتمع إلى تحقيق ذواتنا، وتحقيق الرّفاهية والأمن والأمان الحقيقيّ، إذ غالبًا ما تتنازعُنا الأهواء وتقضّ مضاجعنا الأهواء والنّزعات الضيّقة لبلوغ الأهداف دون أن نلج إلى علاج الأزمات الحقيقيّة، والّتي بعلاجها نحقّق رافعة لقيادة المجتمع بكلّ انتماءاته وأطيافه…
وربّما حالنا وحال أفراد المجتمع الحيوانيّ، قد ينطبق عليه قول الشّاعر:
“لا تحسبُوا رقصي بينكم طربًا ==== فالطّيرُ يرقص مذبوحًا منَ الألَمِ
بقلم: الأستاذ محمود ريّان