الخطاب الأيديولوجي في رواية “سيرة بني بلوط”
تاريخ النشر: 01/11/19 | 18:46رياض كامل
تمهيد
تسعى هذه المقالة إلى دراسة بنية الخطاب الروائي في سيرة بني بلوط (2004)، للكاتب محمد علي طه (1941-) وعلاقة ذلك بالفكر الأيديولوجي للروائي، وذلك من خلال ثلاثة محاور؛ الرواية بين التأريخ والتخييل، فضاء الرواية، والشخصية المركزية ودورها، كعناصر فاعلة في الرواية، تترابط فيما بينها لتكون بناء مُنجَزا واحدا يحقق لعبة “الإيهام بالواقع”. لن ندخل في مفهوم الخطاب الروائي لأن حيز البحث لا يحتمل ذلك مقتصرا على التعريف الموجز للباحث سعيد يقطين: “وليس الخطاب غير الطريقة التي تقدم بها المادة الحكائيّة في الرواية”. (يقطين، ص7) وسيقتصر على محاورة العناصر الثلاثة الفاعلة في الرواية، لنرى إلى الوسائل والتقنيّات التي يبذلها الروائي للتأثير في المتلقي. لن تلتئم عناصر الرواية دون لغة قادرة على نقل الحدث من الواقع إلى الخيال، ودون أن تحمل مواصفات الناطقين بها بما يتلاءم مع زمكانية الأحداث. ف”المتكلم في الرواية”، كما يرى باختين، هو دائما صاحب أيديولوجيا.
تناول عدد كبير من الدارسين موضوع الأدب والأيديولوجيا، عالميا وعربيا، فقد خصصت مجلة فصول عددين متتالين تناولت فيهما هذا الموضوع (فصول، 1985، م5، ع3،4)، وكتب ميخائيل باختين (1895-1975) كتابه الهام الخطاب الروائي (1987). كما صدرت بعض الكتب الهامة في هذا المجال منها كتاب تحليل الخطاب الروائي (1989) للباحث سعيد يقطين وكتاب بعنوان النقد الروائي والأيديولوجيا (1990) للباحث حميد لحمداني وغيرها. رأى البعض “أن الفن جزء من الأيديولوجيا في التحليل الأخير… لذلك كثيرا ما اتهم هؤلاء الأدباء الذين يتبعون هذا المنهج بالدعاية والمباشرة، واتخاذهم الفن وسيلة لنشر الأيديولوجيا، وهي أمور تنأى بهم عن ميدان الفن”. (الماضي، ص 142) ويرى الباحث شكري عزيز الماضي، أنه “وعلى الرغم من ذلك فإن للفن استقلالية نسبية”، ويضيف “أن الانطلاق من أيديولوجية محددة للحياة والإنسان، ومفهوم للفن، تجعل رؤية الفنان أكثر عمقا وشمولية وتماسكا، لأن مثل هذه الأيديولوجيا يمكن أن تكون سلاحا بيده، يساعده على تشريح الظاهرة التي يعالجها”. (السابق)
يعتبر المنظر ميخائيل باختين من أهم من تناول العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا، ثم جاء باحثون آخرون وتابعوا في هذا المجال مضيفين رؤى أخرى داعمة مثل لوسيان جولدمان (1913-1970)، في دراساته وأبحاثه المتعددة منها مقدمات في سوسيولوجيا الرواية (1993) وبيير زيما (ولد 1946) وكتابه النقد الاجتماعي- نحو علم اجتماع للنص الأدبي (1991) وكلهم دعوا إلى الابتعاد عن الرواية المونولوجية واتباع الرواية الديالوجية الداعية إلى تعدد الأصوات وتعدد اللغات، ووضع لوسيان جولدمان وفقا لذلك أسس “البنيوية التكوينية” أو “السوسيولوجيا الجدلية للأدب”.
من الحري بنا التأكيد على أهمية الشكل وضرورة عدم التضحية بالفن في سبيل الأيديولوجيا، وذلك للابتعاد عن المباشرة والتقليدية والدعاية، تلك التهمة التي وُجّهت، منذ زمن بعيد، للأدب الاشتراكي. إذ إنّ طرح هذه القضية في هذا السياق ليس وليد الصدفة، لأنّا نعلم أن الكاتب الفلسطيني الملتزم، سواء عاش في المنفى أو فوق أرضه، فإنه مقود، بوعي منه، أو دون وعي، لخدمة قضيته. فقد وُظّف الفن الفلسطيني، في غالبيته، لخدمة القضية السياسية والاجتماعية والفكرية. فهل تمكّن الكاتب محمد علي طه من تحاشي الدعائية والمباشرة؟ وهل نجح في توظيف الوسائل الفنية التي تتيح له عرض الأحداث وتصوير الشخصيات بمنأى عن ذلك؟
1- الرواية بين التأريخ والتخييل
اعتمدت الكثير من الروايات العربية والأجنبية على التاريخ في بناء الحبكة المركزية، واستمدت أحداثها وبنت شخصياتها اعتمادا عليه، فتداخلَ التاريخي بالخيالي وولدت روايات عالمية ناجحة. هذا الموضوع شائك وشائق في آن معا، وقد لقي من الدراسة ما يكفي تنظيرا وتطبيقا، ووقف الدارسون عند ميزات الرواية التاريخية ودوافع كتابتها. من أوائل من تناول هذا الموضوع هو المنظّر جورج لوكاتش الذي ألف كتابا بعنوان الرواية التاريخية وفي العربية هناك كتاب الباحث فيصل دراج الرواية وتأويل التاريخ – نظرية الرواية والرواية العربية، وهناك الكثيرون ممن تناول هذا الموضوع ضمن أحد فصول مؤلفاتهم مثل عبد المحسن طه بدر في كتابه تطور الرواية العربية الحديثة في مصر، وإبراهيم السعافين في كتابه تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام.
إن رواية سيرة بني بلوط مزيج من التاريخ والسيرة الذاتية والخيال، تدور أحداثها في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين، وفيها حكايات مستمَدّة من هذا الصراع بين أهل البلاد وبين المستعمِر الإنجليزي، وفيها صراع ليس خفيا بين الغنيّ والفقير وبين المستغِلّ والمستغَلّ. قاد هذا الصراع شخصيات ذات حسّ وطنيّ عفويّ غير مدعَّم بثقافة عميقة واسعة ودراسة للتاريخ والثورات، ولا تعتمد على نظريات فكرية وفلسفية. فأبطال الرواية هم من عامة الشعب ومن المؤمنين بضرورة طرد الأجنبي. وليس ذلك بغريب عما هو مألوف لنا عبر الأعمال الأدبية التي تناولت هذه الحقبة، وعبر ما قرأناه في كتب التاريخ. فالإنسان الفلسطيني عاش في تلك الفترة في ظروف سوسيواقتصادية صعبة يسعى فيها المستعمِر والمحتلّ إلى تجهيله عمدا. لذلك فإن الرواية تعكس الوضع الاجتماعي والفكري والثقافي مرهونا بزمن محدد وبشروط اجتماعية محددة.
يلاحظ القارئ المتأني أن انتقال الشخصية المركزية إلى المدينة قد أحدث نقلة نوعية في وعي الثوار، مما يدل على أن هناك تواصلا بين هؤلاء الثوار-الوطنيين بالفطرة- وبين أشخاص مزودين بفكر مؤدلج. يشعر القارئ أن هناك تماثلا بين الروائي الذي يعمل “في الخفاء” على تمرير أيديولوجيته وأفكاره السياسية والاجتماعية، وذلك منذ الحروف الأولى للرواية. فالقارئ لا ينظر إلى اللغة نظرة عابرة، وهي التي تحمل أفكار الكاتب ونواياه في حال الوعي واللاوعي، ولنا على ذلك أمثلة عدة منها ما جاء في بداية الرواية:
“في مساء يوم الخميس الثالث من أيلول 1981 فارق أبي الحياة بصمت وهدوء.
كنا، أفراد العائلة، متحلقين حول سريره الخشبي الذي اشتريناه له قبل عشر سنوات في عيد ميلاده الستين. في المرات القليلة بل النادرة التي تحدث فيها إلينا ذكر أنه كان ولدا في السابعة من عمره عندما احتل الإنكليز بلادنا…”. (افتتاحية الرواية، ص9). لماذا افتتح الروائي روايته بهذا النص؟
هناك عدة زوايا يمكننا من خلالها النظر إلى هذه الافتتاحية، ولكن أكثر ما يهمنا هو الإشارة إلى التاريخ الدقيق، الذي جاء على لسان الراوي، للدلالة على أن الرواية تستمد أحداثها من واقع تاريخي حقيقي، ومن أحداث تاريخية مأخوذة من الواقع، وأن هناك شخصية واقعية عاشت أيام الانتداب البريطاني لفلسطين. قارئ اليوم المتأني/الباحث يرى بوضوح ما يرمي إليه الروائي الذي يُحمِّل مسؤولية الفقر والجوع والعوز والتشرد للمحتل الإنجليزي، ويقوم بتحضير القارئ لمتابعة ما سيحدث لاحقا من أجل تجنيده ليحمل آراءه ورؤيته. بل إنه يبني خطابه الروائي مدفوعا برؤية ترى الفلسطيني مظلوما بسبب هذا الاحتلال.
رواية سيرة بني بلوط، ليست سيرة ذاتية لشخص محدد ورد اسمه في كتب التاريخ، أو سيرة شخصيات معروفة مسبقا للمؤلف والقارئ معا. تتمحور الأحداث حول شخصية مركزية تطغى على بقية الشخصيات. بالرغم من ذلك يخرج القارئ بعد الانتهاء من قراءة الرواية بانطباع أنه يقرأ تاريخ شعب في فترة زمنية محددة ضمن هذا المكان، ولا يقرأ رواية شخصية أو أشخاص، وذلك منذ العنوان سيرة بني بلوط الذي يحمل بعدا جماعيا لا بعدا فرديا. وبنو بلوط هم شعب له جذور عميقة كما هو حال شجر البلوط في هذه الأرض بالذات. فإن كان هذا هو حال عتبة الرواية، كما يقول المنظرون، فإن خاتمتها تنتهي نهاية شبه مفتوحة على أمل لقاء المحاربين من جديد ومتابعة المشوار الجماعي: “اقترب سرحان مني وقبض على ذراعي وشدني فوقفت، حدق في عيني للحظات ثم قال: حافظ على بندقيتك.. لا بد أن تحتاجها بعد سنوات.. يموت الفهد.. ويموت عبد الكريم.. ولكن القضية لن تموت […]
ومضى سرحان باحثا عن أفق.
وبقيت أنا والبندقية..
والوطن..
وتميمة..
والعصفورة..
وشجرة البلوط..
والسر..”. (الرواية، ص 198-199)
هذه اللغة الشعرية ذات الدلالات الشفافة في نهاية الرواية تشير إلى أسى وحزن وألم وأمل بتجدد اللقاء ومتابعة المسيرة الجماعية.
من عادة الروايات التاريخية التقليدية أن تعتمد في أحداثها على شخصية كان لها دور هام في حقبة زمنية معينة، فيحولها الروائي إلى عمل فني يجمع فيه بين التاريخ والخيال لتصبح رواية فنّيّة تقول ما لا تقوله كتب التاريخ، وتصبح قادرة على التحاور مع القارئ بشكل آخر بعيدا عن الطرح التاريخي الذي يحتمل الصدق والكذب والتزييف. إن الفن مدعوما بالتخييل وبالتقنيّات الفنية لقادر على جذب القارئ بعيدا عن قراءة التاريخ الجافة. وكل كاتب هو صاحب أيديولوجيا، فتتغلغل أفكاره من خلال عناصر القص كلها عبر اللغة المركب الرئيسي لعملية التخييل وأداته الأولى.
لا يمكن، برأينا، مقاربة الرواية الفلسطينية بمعزل عن المحيط الذي يكتنفها بكل مركباته وحيثياته الفكرية، السياسية والاجتماعية. كما لا يمكن التركيز على شكلها الفني بمعزل عن اجتماعية الرواية، كجزء من التاريخ، وإلا جعلنا الدراسة عملية ميكانيكية محضة. يقول لوسيان جولدمان: “لقد كانت الرواية في الجزء الأول من تاريخها سيرة حياة وعرضا لمجتمع، ولذلك كان من الممكن دائما بيان أن العرض الاجتماعي يعكس -بدرجة أو بأخرى- المجتمع في هذه الفترة، وليس شرطا أن يكون المرء عالم اجتماع حتى يرى هذا…”. (جولدمان، ص 38)
إن كان هذا هو حال الرواية العالمية في بداياتها، كما يراها لوسيان جولدمان، فإن ذلك ينطبق، برأينا، على الرواية الفلسطينية التي لم تعبُر بعد تجربة مئات السنين، كما هو حال الرواية الغربية، إذا اعتبرنا أن رواية دون كيشوت (1605) لميخائيل دي سرفانتيس (1547-1616) هي الرواية العالمية الأولى، كما يقول منظرو الرواية. ثم إن الكاتب الفلسطيني المؤدلج لم يجد الوسيلة، ولا الطريقة المشروعة التي تتيح له أن يدخل عالم الفانطازيا والخيال المحلق، بمعزل عن واقعه الاجتماعي والسياسي، إذ لم يستطع الروائي الفلسطيني بعد، أن يبتر نفسه عن واقعه وعن محيطه، فالقضية الفلسطينية ما انفكت أحداثها تتفاعل، بحيث لا نستطيع فصل الماضي عن الحاضر، بل إن محمد علي طه وزملاءه من الأدباء الفلسطينيين يبذلون قصارى جهدهم لتوثيق الأحداث السياسية والاجتماعية في ذاكرة الإنسان الفلسطيني والعربي عامة، ساعين إلى تصوير واقعهم عبر هذه المرحلة التي لم تتعد القرن بعد، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم. وعلى ما يبدو فإن قرنا من الزمان لا يعتبر فترة زمنية طويلة قابلة للنسيان. لذا لا يمكننا مقاربة رواية محمد علي طه سيرة بني بلوط دون ربطها بمحيطها الاجتماعي والسياسي والتاريخي.
تتضح في الرواية صورة القرية وأهلها؛ ثقافتهم، فكرهم، عاداتهم وتقاليدهم، بجميع أبعادها، بحيث يمكننا رسم صورة شبه سينمائية للقرية، أكثر مما تبرز صورة المدينة، بالرغم من انتقال الأحداث من القرية إلى المدينة، ورغم حرص الكاتب على تأثيث فضاء الموقعين بكل ما يحتاجانه. وقد تمكن من رسم صورتين متباينتين، رغم التشابه في العادات والتقاليد والمعتقدات. فعالم القرية هو الأوسع والأشمل لأن مجتمعنا في تلك الفترة هو مجتمع قروي لا مدني في غالبيته. وبما أن دافع الكتابة أيديولوجي فقد برزت صورة القرية بناسها وأهلها وهم يصارعون المحتلّ، وكان من الطبيعي أن تتسع رقعة الأحداث لتناسب “الواقع” التاريخي لتلك الفترة، فامتدت الأحداث لتشمل المدينة وأهلها، وبالذات تلك الشريحة التي حاربت المستعمر الإنجليزي.
يفرض هذا الموضوع، بحد ذاته، على الدارس مقالة منفردة تتناول هذه القضية بكل أبعادها، لكننا نقول إن الكاتب قد رسم صورة سليمة تجعل القارئ يكاد يشم رائحة المكان، وبالتالي نكاد نضع إصبعنا على مواقع جغرافية بعينها، من ناحية، كما يمكننا أن ندرك نوعية المجتمع وخصائصه الفكرية والاقتصادية والثقافية في تلك الفترة. والأهم أن رواية سيرة بني بلوط تتحدث عن فترة زمنية هامة في تاريخ الشعب الفلسطيني، وبالتحديد في ثلاثينيات القرن الماضي، ما قبلها وما بعدها بقليل، نجد فيها شعبا يصارع المحتلّ، فكانت حكاية مصطفى جابر بلوط مثالا لثائر فلسطيني يسعى لتحقيق هدفين؛ الاستقلال والعدالة الاجتماعية.
يخرج القارئ بعد قراءة الرواية بانطباع أنه قرأ حكاية رجل قرويّ خرج من صلب مجتمع فلّاحيّ لاقى الأمرّين، فكافح وناضل منذ شبابه المبكر، فاكتسب وعيا اجتماعيا وفكريا وسياسيا، يرى أنّ هناك ظالما ومظلوما وأنّ هناك غنيا وفقيرا، وأنّ هذا الفارق الطبقي ينبع من استغلال القوي للضعيف. يقتل الإنجليزي المحتلُّ والدَه فلا يجد الرعاية اللازمة، لا هو ولا أمه، فيقرر أن يأخذ ثأره من المحتل، ومن فئة الظالمين في مجتمعه. هذا على الصعيد الخاص، أما على الصعيد العام فهناك مجتمع كامل يقبع تحت نير الاحتلال ويئنّ تحت وطأة الفقر والاستغلال. فكان من الطبيعي أن تنشأ ثورة يقودها رجال يؤمنون بضرورة التخلص من الغريب لأنه هو سبب الغبن اللاحق بشعبهم ومجتمعهم.
لم نقرأ تاريخ ثورة ولم نقرأ كيف ولماذا بدأت، ولم نقرأ نتائجها، كما اعتدنا في دروس التاريخ، بل قرأنا رواية فنّيّة فيها أبطال وفيها أحداث تدور في زمن الثورة. فانصبّ اهتمام القارئ لمتابعة الأحداث، من خلال عيني الراوي، الذي ينضم لرجال آخرين يحملون نفس الفكر ونفس العقيدة. وهكذا تمكّن الروائي من تمرير رؤيته العقائدية من خلال عمل فني قادر على تثوير القارئ، وتجنيده للوقوف في صف الثوار ممثلا بمصطفى جابر بلوط، الفلاح القروي الثائر، فغلب عنصرُ التخييل عنصرَ التأريخ، فاختار أسماء الشخصيات والمواقع من الخيال لتتحول الأماكن والشخصيات إلى رموز يبحث القارئ عن دلالاتها لا عن مكانها ودورها في حدث تاريخي معيّن. لكننا نصرّ على التأكيد على أنّ كلَّ الحيل الفنية لا تستطيع أن تلغي الجانب التأريخيّ من الرواية، كما أن التخييل لم يتمكن من إلغاء دور “السيرة” بالرغم من اختيار الكاتب اسما خياليا لبطل الرواية.
2- الفضاء الروائي
عندما ندخل عالم فضاء أي رواية علينا أن نؤكد أننا لا نستطيع القيام بذلك دون التطرق إلى عناصر الخطاب الروائي الأخرى. أما المرجع الأهم لدراسة الفضاء فهو اللغة التي وظفها الروائي لتأثيثه وبنائه. فقد رأى المنظر يوري إيزنزويغ أنه “مرجع فضائي لنص لغوي، مما استلزم ربطه بإطار دلائلي (سيميائي) عام، ثقافي وحضاري…”. (نجمي، ص 32) وفي هذا الفضاء “تنتظم الكائنات والأشياء والأفعال، معيارا لقياس الوعي والعلائق والتراتبيات الوجودية والاجتماعية والثقافية”. (السابق). ونحن إذ نتحدث عن فضاء الرواية فإنا نصر على ولوج هذا العنصر الروائي من خلال تمازجه التام مع عنصر الزمن، مؤكدين على مصطلح الزمكانية (الكرونوتوب) الذي اجترحه المنظر الروسي باختين، (باختين، 1990، ص 5) لأن الفصل بينهما، برأينا، شبيه بالمستحيل، “فإن الرواية بما تتسم به من سعة، تسند دورا حقيقيا لمقولتي الزمن والفضاء، بما يجعلهما حاضرتين بمختلف تمظهراتهما في كل موضع من الرواية. فالكاتب يحرص على إعطاء كل لحظة قوية وكل مشهد من مشاهد روايته إطارا زمكانيا”. (كولدنستين، ص 19)
تدور أحداث الرواية، كما ذكرنا، في عهد الانتداب البريطاني، ولهذا تأثير على فضاء الرواية، سواء في تصوير شكل البيت، أثاثه، والأدوات التي يستعملها سكانه، داخل البيت وخارجه، هذا فضلا عن المأكل والمشرب، وأسلوب الحياة اليومي في التعامل بين الناس، والمحيط الفكري والثقافي للمجتمع في هذا الحيز الزمكاني. فهناك فرق بين عصر وآخر، ولا شك أن الزمن ينعكس على المكان، مؤيدين في ذلك ما رآه باختين “أن الزمان، فيما يخص الأدب، هو العنصر الأساسي في الزمكان، فالزمكان بوصفه مقولة شكلية مضمونية يحدد أيضا (وإلى مدى بعيد) صورة الإنسان في الأدب، وبالتالي فهذه الصورة هي دائما زمكانية بشكل جوهري”. (باختين، 1990، ص 6) وقد لمسنا ذلك منذ الصفحة الأولى للرواية: “وكان ولدا في السابعة من عمره عندما احتل الإنجليز بلادنا وكان يومئذ مع أهله في الحقل يقطفون الذرة البيضاء التي يخبزون من طحينها أرغفة الكراديش العسيرة المضغ. ونظرا لصغر سنه لم يكن يجيد عملية الحصاد الخطرة التي يستعمل بها الفلاحون المناجل والسكاكين الحادة، فأمره والده، أي جدي، أن يحرس كوم عرانيس الذرة من عدوان قطعان الماعز الأسود والأبقار التي كانت ترعى في الحقل وراء الحصادين”. (الرواية، ص 9-10)
تصور هذه الافتتاحية شريحة من الناس ببعدها السوسيواقتصادي، في إطار زمني محدد، ولذلك فإن صورة المكان -الحقل- وثيقة الصلة بهذا الزمان المشار إليه. نود التنويه هنا إلى أننا قد آثرنا استعمال مصطلح “المكان” في هذا السياق، لأن المكان، كما يقول جورج بولي هو “جزر في الفضاء، جواهر [أفراد] أكوان صغرى منفصلة داخل الفضاء” (نجمي، ص 44) الذي يحوي أماكن عدة يقوم الكاتب بتصويرها بما يتلاءم مع زمن محدد دون غيره. فالحقل الذي أمامنا ليس صورة فوتوغرافية مجردة، بل إنها ذات دلالات اجتماعية، فكرية وثقافية لهذه الشريحة، بالذات، وفي هذا الزمن بالتحديد. إن ذلك ذو علاقة وثيقة بالأدوات المستعملة ضمن هذا الحيز، فضلا عن نوع المأكولات التي توحي بضيق ذات اليد، التي جعلت الناس يتناولون “الكراديش” صعبة المضغ. وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بنوع الحيوانات الأليفة التي كانت مصدر رزق للفلاحين آنذاك، وبالتالي فقد حُدِّد المستوى الفكريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ لهذه الشريحة البشريّة في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الشعب الفلسطينيّ، في مواجهة الآخر.
إن اللغة، كما نعلم، هي الأداة التي يحتاجها كلّ نص أدبي، ومن واجب الكاتب أن يصور المكان والفضاء عامة بواسطة مفردات وكلمات تُكوّن، في اجتماعها، صورة شبه واقعية تجعل القارئ يشعر بمصداقيتها، كي تنطلي عليه عملية الإيهام بالواقع. لا يحتاج القارئ المتمرس إلى مجهود كبير ليرى كيف تجاوبت اللغة مع الأمكنة وصورها، ومع أحداث معينة. فصورة بيت الفقير ليست نفسها صورة بيت الغني، مما يضطر الفقير إلى السرقة، أحيانا، من بيوت الأغنياء، وصورة المحيط القروي ليست ذاتها صورة محيط المدينة. وصورة الفلاحين في القرية والأحاديث واللغة التي يستعملونها ليست صورة المقاتلين الثوار وليست ذات الأحاديث ولا اللغة التي يستعملها المقاتلون. فهناك مستوى فكري مغاير يُنقل للقارئ عبر اللغة التي تتجاوب مع مستوى الشخصيات الفكرية.
ففي موقع آخر من الرواية، ومنذ صفحاتها الأولى أيضا، نقرأ على لسان الراوي الذي كان آنذاك لا يتعدى “الرابعة أو الخامسة من عمره” هذه الذكريات: “صعدت أمي في يوم ما، إلى سدة البيت لتتناول شيئا من المونة التي كانت تخزنها هناك ولحقتُ بها فشاهدت أكياسا صغيرة ومتوسطة ومرطبانات متعددة الأحجام فيها برغل وعدس وحمص وفول وبذور بطيخ وقطين وكشك وزعتر ومربى البندورة…”. (الرواية، ص 14)
إن شكل البيت ووجود “السدة” التي تحوي هذه الأنواع من الحبوب والقطنيات، كونها “مونة”، يتلاءم تماما مع أجواء تلك الحقبة الزمنية. فهناك، لا شك، ترابط وثيق الصلة بين نوع المأكولات ونوع الأدوات التي تلائم عصرا بعينه دون غيره. وهو ما نراه بالتحديد في كلمتي “السّدة” و”مونة” الآخذتين في الانقراض في أيامنا هذه، أو لنقل إن لها دلالات مختلفة عن دلالاتها اليوم، نظرا لتغير الزمن وأسلوب الحياة المغاير لذاك. هذا الأمر لا ينعكس على ملبس الناس ومأكلهم ومشربهم فحسب، بل إنا نلمسه في تصرفاتهم وأفعالهم، وفي المستوى المعيشي، تحضيرا لما سيحدث فيما بعد. فوصف البيئة، حسب رأي فيليب هامون، هو وصف مستقبل الشخصية، (بحراوي، 2002، ص 6) فماذا فعل الناس تحاشيا للمأساة التي أحسوها قادمة لا محالة في نيسان عام 1948؟
كان أهل القرية مثلهم مثل أهالي القرى الأخرى يحملون سلاحهم البدائيّ من عصيّ وفؤوس، وأسلحة نارية بدائية، مقارنة مع ما يتوفر لدى الخصوم من سلاح متطور وصل حد الطائرة. ما كان بوسعهم فعله حماية لأنفسهم هو قيامهم بحفر خندق عند مدخل البلدة “اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حفروا نفقا في الشارع الرئيسي المعبد الذي يربط بلدتنا بالمدينة، واشترى بعض الرجال البنادق من تجار في الشمال”. (الرواية، ص 15) لقد وقع الأب تحت طائلة الخوف، حين علم أن اليهود قد دخلوا القرى الأخرى، فما كان منه إلا أن خبّأ الجرّة وفيها “السيرة” التي تروي “سر اللسان المربوط للعبد الفقير مصطفى بلوط”. (الرواية، ص 31)
إن تصرف الناس آنذاك يتماشى مع ذاك العصر، ومع تلك الوضعية، مما يساهم في تصوير الواقع الذي يعيشه الإنسان الفلسطيني، من ناحية، ويساهم فنيا في عملية “الإيهام بالواقع”، من ناحية أخرى فيبدو الوصف قريبا جدا من الواقع المعيش.
إن شكل الطبيعة كان مغايرا عما هو عليه اليوم، واهتمام الناس بالأرض ونبتها وطيورها كان مختلفا أيضا. فلو قرأنا الفقرة التالية على لسان الراوي الطفل لأدركنا ما نرمي إليه: “كان الطقس ربيعيا وأشعة الشمس الدافئة تتراقص على خدود الأزهار المتعددة الألوان مثل فساتين النساء يوم العرس […]، وبدت أراضي هضبة “رأس البير” التي تقسمها السلاسل الحجرية مثل سجادة خضراء مزركشة بشقائق النعمان والصفّير والأقحوان وعيون البقرة […] والعصافير تزقزق فرحة… والبلبل والشحرور واللامي والحلاج والزرعي”. (الرواية، ص 16)
إن هذه الصورة الجميلة لطبيعة الأرض، التي وردت على لسان الطفل، لم ترد في هذا السياق عفوا، بل إن الراوي، بدعم من الروائي المتخفي، يرمي إلى توثيق هذه الصورة ليدلل على الألم والوجع الذي يعتريه اليوم بعد مرور عقود من الزمن من وقوع المأساة، وقد فقد أرضه وناسه وبات يعيش مع ذكريات كان يعشقها ولن تعود أبدا كما كانت، لأن معالمها النفسية والاجتماعية قد تغيرت. إن تأثيث الفضاء، في الأمثلة أعلاه، يعتمد على لغة ومفردات وتشبيهات وصور لغوية ذات صلة قوية بتلك الفترة، وإلا كيف نفسر تشبيه جمال الطبيعة في زركشتها وتعدد ألوانها بفساتين النساء يوم العرس؟
كانت الأعراس مناسبة لتتزين بها النساء ويعمَّ الفرح بين الأهل والجيران والأقرباء بلباسهم الذي يكون له طعم آخر مختلف عن أيامنا، فلم يعد لبس الثياب الجديدة والمزركشة مناسبة ننتظرها كل بضع سنوات. ولم يعد للثوب الجديد تلك البهجة كما كانت “أيام القلة” -كما اعتدنا أن نقول- ولذلك، أن يرى الطفل هذه الصورة يعني أنه كان، آنذاك، في أوج فرحه، وهو إذ يصورها في مرحلة لاحقة فإن ذلك ينمّ عن حسرة وألم بسبب فقدانها.
إن مراجعة قطعة “الجرة” التي افتتح الروائي بها روايته تحيلنا إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين، وإلى شكل البيوت من الخارج والداخل، إلى أزقة القرية، إلى الأثاث الذي كان يستعمل في تلك الأيام، إلى شكل الأرض وعلاقات الناس بها، وأهمية هذه العلاقة، كمصدر رزق أساسي، وإلى نوع النباتات والحشائش، مثل “الخافور” و”السبيلة” و”البسباس”، وإلى الحيوانات والطيور وطريقة تعامل شخصيات الرواية مع هذه العناصر كلها.
إن هذه القطعة صورة حية لأسلوب حياة الإنسان الفلسطيني بكل حيثياتها وأبعادها. وللزمان والمكان علاقة وثيقة بشخصيات الرواية التي يجب أن تتلاءم تصرفاتها وروحَ العصر وفضاءه. فلهذه الشخصيات أسلوب حياة وطريقة تفكير، لها عاداتها وتقاليدها وخرافاتها، وحكمتها ومكرها وجهلها وقلة حيلتها في التعامل مع مستجدات الأمور، وهو ما انعكس على طريقة مواجهة أهل القرية، أسوة بأهل البلاد، لليهود الذين ينافسونهم في السيطرة على الأرض، مزودين بأسلحة حديثة وعتاد متطور لا تنفع معه العصي والمناجل.
إن الفضاء لا يتوقف عند بعده الجغرافي، ولا يقتصر عليه، وهو ليس جبلا، أو سهلا، واديا أو بحرا، بل هو المحيط العام في زمن بعينه، حيث تحيا شخصيات معينة ترتبط ارتباطا وثيقا بزمكانية مميزة عبر تقاليدها وعاداتها، قيمها، أخلاقها، همومها، أفراحها، ملبسها، مشربها، لهجتها ولغتها. فتتكرر في الرواية أسماء المواقع، أسماء الطيور، أسماء النباتات، أنواع المأكولات والأدوات بشكل ملفت للنظر. (انظر الرواية، ص 47-49)
إن تصوير الفضاء بكل مكوناته وعناصره أشبه بالديكور في المسرح، وفي الرواية هو جزء من واقعيتها، مشيا على عادة الروائيين الواقعيين، وقد رأى مؤلفا كتاب نظرية الأدب أن الاهتمام التفصيلي بالفضاء يعود إلى عصر “الرومانتيكية الواقعية”. (Wellek, p. 220) فإن كان محمد علي طه يجهد لكي يُصنَّف، من خلال روايته، ضمن كتّاب الواقعية الاشتراكية، فإنا نرى أنه يجمع ما بين الرومانتيكية والواقعية.
لماذا ألف الكاتب روايته؟ أو ما الدافع إلى ذلك؟ سؤال يطرح نفسه مع كل قراءة. إن وضعية الكاتب العربي الذي مرّ، ولا يزال، في تجربة فريدة بهمومها، وإشكالاتها، وتعقيداتها دافع ملحّ لخوض غمار تلك التجربة. إنّ العربي الفلسطيني ما انفك يعيش تبعات “النكبة” و”النكسة” حتى اليوم ملاحقا بأسئلة لا تبرح ضميره ووجدانه وعواطفه: ماذا حدث؟ لماذا؟ وكيف؟ أين الخطأ والصواب؟ أين كنا؟ وأين أصبحنا؟ إنها أسئلة ملحة لم تترك كتابنا، روائيين وشعراء، دون تناول هذا الوضع المعقد. إن “نكبة” 1948 أفرزت حالة مأساوية فريدة من نوعها بعد أن ترك الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني قراهم ومدنهم إلى الشتات يكابدون ألم الغربة، ولم يبق في البلاد سوى قلة مجروحة مفككة تعيش واقعا جديدا في ظل دولة باتت فيها أقلية بعد أن كانت أكثرية.
من هنا لا يمكننا فصل الفضاء بأمكنته ومركباته كلها عن الأيديولوجيا الموجهة للروائي، لأن مركبات الفضاء هي جزء من الكاتب، يسعى إليها بكل جوارحه لترسيخها وحفظها خوفا عليها من التلاشي والضياع. إنه دافع خفي أكبر من مجرد وسيلة يلجأ إليها الكاتب عمدا، بل هي نبض لاإرادي يتفجر عبر الفضاء محسوسا وملموسا ومصوّرا بلغة ومفردات لها فرادتها عبر التصاقها بالزمان والمكان الخاصين بأحداث الرواية. إن الحنين والذاكرة، معا، يلعبان دورا هاما، وحافزا لاإراديا لتحريك عناصر الفضاء حفاظا على الكيان والوجود الإنساني.
إن الرواية ليست تاريخا جافا، بل إنها تشارك الشعر في كونها مشاعر وأحاسيس وعواطف، فضلا عن مركباتها الأخرى. إن الفضاء في هذا السياق دليل وجود مادي وعاطفي، لذلك تجهد الشعوب في ترسيخ وجودها عبر الأمكنة والمحافظة عليها إثباتا على الوجود والكينونة، ودليلا على البقاء، وهكذا يتحول المحسوس إلى دلالات وجدانية.
يذهب بعض المنظرين مثل جورج ماتوري إلى التشديد على أهمية الفضاء في حياة الإنسان بحيث يرون بأن له قوة قادرة على اختراق حياتنا كلها معيشا وكتابة. (نجمي، ص 40) “وإذا كان علينا أن نستعير تعبيرا لغابريئيل مارسيل، فسنقول بأن الإنسان غير منفصل عن فضائه، بل إنه هذا الفضاء ذاته”. (السابق) من هنا نرى إلى أهمية التوكيد على رسم الفضاء في رواية محمد علي طه سيرة بني بلوط، وكأنه من خلال تصوير الأماكن، بأبعادها وحيثياتها يسعى إلى ترسيخ المكان في وجدان القارئ، والتأكيد على أهمية هذا الإطار العام في حياة الإنسان الفلسطيني، خاصة وأنه يعيش “غربة” زمانية ومكانية عبر تغير معالم الأرض والبيت والشارع والزقاق والنبت والشجر. وربما، دون وعي منه، يسعى إلى ترسيخ هذا الواقع الزمكاني في وجدانه هو كإنسان قبل أن يكون روائيا.
لا نبغي الدخول في الوصف ودوره بشكل مفصل، لكن يجب علينا أن نؤكد على أهميته كلغة ضمن زمانية معينة لا تحيد عنها أبدا، وإن لم يتمكن الروائي من توظيف لغة غنية، فإنّ الوصف ليبدو منبتّا عن أصوله الزمانية، مجافيا لواقعه، غريبا على القارئ. وللوصف وظائف عدة منها التخييلية، والمجردة والاستشرافية. (للمزيد انظر: عبد اللطيف محفوظ، وظيفة الوصف في الرواية) ويرى جيرار جينيت أن للوصف دورين أساسيين، الأول ذو طابع تزييني ويشكل استراحة للقارئ وسط الأحداث السردية، ويكون له دور جمالي خالص مثل دور النحت في الصروح الكلاسيكية، أما الوظيفة الكبرى الثانية للوصف فهي ذات طبيعة تفسيرية ورمزية في نفس الوقت. (جينيت، ص 76-77)
إننا نؤكد أن الوصف عنصر هام من عناصر الرواية لأنه يكمل السرد ولا ينفصل عنه، وفي روايتنا هناك اهتمام كبير بهذا العنصر مما جعل الفضاء يتحول إلى مركب هام جدا من مركبات الخطاب الروائي، وبالتالي لعب الفضاء دورا مهما في بناء الشخصية المركزية، وفي التعريف بأهم مواصفاتها، فاكتملت واتخذت هيئتها بانسجامها مع الفضاء العام للرواية. إن صورة القرية بكل مركباتها ليست مجرد زخرف أو زينة، فالقرية مكان جميل فيها مركبات عدة لا يمكن لأبنائها العيش بدونها، بل تستحق النضال من أجل حمايتها كي يحمي أبناؤها ذاتهم ومستقبلهم. ولذلك هناك اهتمام بارز بتصوير القرية بكل مركباتها وعناصرها من جغرافيا وأدوات وأمكنة، مرورا بناسها وحيواناتها لتكوّن مع بعضها صورة عزيزة على نفس الراوي والروائي في آن معا، لتنتقل فيما بعد إلى المتلقي ليكتمل الخطاب الروائي، وتتحقق الرسالة التي يحملها هذا الخطاب في تواصله مع المتلقي.
3- الشخصية الرئيسية
نعلن بداية أن ولوج عالم الشخصيات يتأتّى من زاوية الرؤية التي تؤمن بالعلاقة الوثيقة التي تربط بين جميع مركبات وعناصر الخطاب الروائي، “ذلك أن الروائي أكثر تنبّها إلى العلاقات التي توجد بين الشخوص التي يبدع، والعالم الروائي الذي يحيط بها. فهو يقيم الديكور الذي يتحرك أبطاله في داخله لكي يتيح لنا أن نراهم رؤية جيدة”. (كولدنستين، ص 19) فلقد بينا، أعلاه، أن وصف المكان هو وصف لمستقبل الشخصية كما يرى المنظّر فيليب هامون، “فحيث لا توجد أحداث لا توجد أمكنة فيما يعتقد جورج بولان، والمكان لا يظهر إلا من خلال إحداثية زمنية يندرج فيها، كما يرى جيرار جينيت، ومنظور السرد هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي ويرسم طوبوغرافيته، على حد قول فرانسواز روسم”. (بحراوي، 2002، ص 6).
قبل الخوض في التحليل والدراسة علينا أن نطرح بعض التساؤلات التي تساهم في فهم الشخصية المركزية وما يتعلق بها: من هو بطل الرواية؟ ما هي مواصفاته؟ من أي بيئة أتى به الروائي؟ ولماذا؟
إن أخلاق الناس وتصرفاتهم لها علاقة وثيقة بالمكان، فساكن القرية يختلف عن ساكن المدينة، وساكن المدينة اليوم مختلف عن ساكنها في الماضي. وهكذا الملبس والمشرب واللغة واللهجة. (الماضي، ص 39-40) يقوم الكاتب ببناء الشخصية المركزية بشكل تسلسلي، لكن ذلك يسبقه مقدمة عبارة عن فصل كامل بعنوان “الجرّة”، (الفصل الأول من الرواية) يخبرنا فيه الراوي أن الوالد قد توفي تاركا وراءه جرّة مخبّأة تحمل سرا. يقوم الأبناء والوالدة بفتحها فيجدون فيها مخطوطا. كان ذلك مفاجأة لهم جميعا إذ يكتشفون أن والدهم كان يجيد القص، وأنه كان يدوّن ذكرياته وأسراره. أما الفصل الثاني فهو بعنوان “أنساب الأشراف” ينتقل فيه السرد إلى السارد الرئيسي/الشخصية المركزية بضمير المتكلم الذي يتّبع أسلوب السرد التسلسلي حتى نهاية الرواية.
نتعرف إلى مصطفى بلوط الشخصية المركزية بدءا من عهد الطفولة حتى الحاضر، زمن توقف السرد. كما نتعرف إلى جذور الشخصية منذ الوالد جابر بلوط وما صادفه من تحديات ومغامرات تدل على رجولته وشجاعته، مما اضطره إلى الرحيل والهجرة حتى وصل إلى قرية غريبة هي قرية “كفر الزعتر”. يقع هناك في حب فتاة من النظرة الأولى فتصبح زوجة جابر وأم مصطفى. يقتل المحتلُّ الإنجليزي جابر بلوط تاركا وراءه أرملة صغيرة فريسة لعيون الرجال، وطفلا في مقتبل العمر. يكبر الطفل حاملا جينات والده الرجولية، التي تتفتح وتتكشف لأمه ثم لمحيطه وبيئته منذ سن مبكرة.
هذه الخلفية ما هي إلا تمهيد لما قد يحدث مستقبلا، من ناحية، وهي، من ناحية أخرى، وضع للّبِنات الأولى في بناء شخصية تحمل مواصفات الإنسان الشجاع الذي واجه صعوبات الحياة ومشاقها على أكثر من صعيد؛ أب شجاع مغامر يتعرض للملاحقة من مجتمعه، يقتله الإنجليزي المحتل، وأم قوية شريفة ومكافحة من أجل لقمة العيش، تبذل قصارى جهدها للحفاظ على عرضها وعلى ولدها رافضة أن تتزوج بعد جابر بلوط، وهناك بيئة اجتماعية فقيرة يكدّ أهلها من أجل توفير لقمة الخبز، ومجتمع كامل يتعرض للظلم من المحتل والإقطاعي معا. وكان والده قد غرس فيه حبّ الأرض أولا وصفة الشجاعة ثانيا.
فعندما يقوم الابن بتصوير والده وهيئته وشكله، فإن القارئ يتلقف صورة الأب غير مفصولة عن الفضاء والبيئة والمحيط: “وقف بجوار شجيرة البطم وفحص المكان بعينيه السوداوين الصغيرتين مثل عيني النسر”. (الرواية، ص 16) إن المتابع لقراءة الفقرة المتعلّقة بصورة الأب فسيراه مُعملقا في عيني الابن، كما هي العادة، أصابعه غليظة، ويملك عينين كعيني النسر، وكلامه مختصر دون حاجة إلى الإفاضة، ولا يجرؤ الطفل على طرح الأسئلة لأنه لن يتلقى إجابة ترضيه. إنّ الصور والتشبيهات التي ترد هناك هي جزء حيويّ من البيئة القروية والأجواء الفلاحية من نبات وتراب وأدوات. هذا المكان هو جزء حيويّ من شخصية الوالد فهو فلاح يده متشققة ولونه بني كلون التراب الذي يحفره يوميا، وصورته خشنة كأدواته التي يستعملها، وهناك ارتباط وثيق حميم ما بين الأرض والإنسان، فهي كرامته وعرضه ومصدر رزقه وضمان امتداد للأجيال القادمة.
هذه الصورة المُعملقة للوالد وطريقة تصرفاته وارتباطه بالأرض هي عبارة عن خلفية لدور الابن الذي سيكبر ويتطبع بصفات والده في القوة الجسدية وفي الشجاعة وحب الأرض والارتباط بها والذود عنها.
تكبر هذه الشخصية في ظل هذه الظروف الصعبة ليصبح فتى تتكشف شجاعته تدريجيا أمام أترابه، وأمام من هم أكبر سنا، يتغلب على بعضهم جسديا ويقوم بمغامرات فلاحية تصل أخبارها إلى أبناء البلد، فتتفتح أعين الحاسدين، والمختار والأفندي من ناحية، وعيون العذارى من ناحية أخرى، حتى جّرته إحدى نساء الأفندي إلى سريرها معجبة بشجاعته وجماله، يكتشف الزوج صدفة هذه العلاقة، فيهرب مصطفى خوفا على نفسه تاركا أمه وحيدة في القرية. يصل إلى المدينة ويتعرف على الثوار ليصبح واحدا منهم، ويترقى ليصبح قائد مجموعة يُحسب لها ألف حساب، تقارع جنود المحتلين وتسبب لهم الإحراج، وتضحي بدمائها من أجل الوطن. تصل أخباره إلى أهل القرية ومختارها والأفندي الذي يضطر أن يسايره ويتحاشاه رغم “الاعتداء” على عرضه.
إن سيرة بني بلوط تروي حكاية مصطفى جابر بلوط، بطل فلسطيني في مفهومه الشعبي، يشبه كثيرا أبطال قصص وحكايات سمعنا شبيها بها في “دواويننا” الفلسطينية من الآباء والأجداد، ومن كبار السن. لذلك فبطولته -التي تشبه أصلا بطولة والده- هي بطولة فردية فيها الكثير من “الشقاوة” الفلسطينية منذ مغامرات الوالد جابر، مرورا بمغامرات الابن مصطفى الذي حمل مواصفات والده في الشجاعة والجرأة، مع تشابه طفيف مع أبطال السير الشعبية. يبذل الروائي جهدا لا بأس به لتحويل “حكاية” مصطفى إلى حكاية شعب كامل، لا قصة فرد بعينه، وبالذات أن مصطفى جابر بلوط، كما ذكرنا، ليس اسما مأخوذا من كتب التاريخ الفلسطيني. فهل نستطيع أن نقول إن بطل الرواية يستمد بعض مواصفاته من بطل رواية روبن هود الإنجليزية؟ وهل تحول بطل الرواية إلى نموذج للمقاتل الفلسطيني في سبيل الحق والذود عن المظلومين في الأرض ضد السلطة الحاكمة؟
سؤال كبير أكبر من حجم روايتنا، لكننا لا نستبعد مطلقا أن يحمل مصطفى بلوط بعض جينات روبن هود المقاتل في سبيل العدالة، لكنه يظل في إطار مجتمع آخر وظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية أخرى. مصطفى بلوط لم يحمل العمق الفكري “الاشتراكي” لروبن هود، ولم يسعَ الروائي، برأينا، إلى ذلك، بل جعله بطلا شعبيا مشاغبا مغامرا ينتقم من “الأفندي” من خلال إقامة علاقة جنسية مع إحدى زوجاته حتى اكتشف الأفندي أمره، فولى هاربا مختفيا عن العيون، وينتقل إلى المدينة ليتحول إلى مقاتل حقيقي ضد المستعمر الغريب، يفشل أحيانا وينجح أحيانا أخرى، ويظل باب الأمل مفتوحا، خاصة أن البطل ورفاقه يتمكنون من كسب ودّ الفلاحات والفلاحين الذين لا يتوانون في تقديم العون للثوار، وإخفائهم عن عيون الجنود المحتلين وأعوانهم من الداخل.
حين نقرأ العنوان سيرة بني بلوط فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو سيرة بني هلال، ومن ثم كتب السير الشعبية الأخرى مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة الزير سالم وسيرة سيف بن ذي يزن وغيرها. يوحي العنوان بأن الرواية تدور حول سيرة جماعية لمجتمع، لا سيرة فرد. لكن القارئ يتابع الأحداث من خلال سرد الشخصية المركزية للأحداث بضمير المتكلم. ولذلك لا بد من طرح السؤال التقليدي: لماذا هذه التسمية؟ ولماذا لم يسمها سيرة مصطفى بلوط كما هي سيرة عنترة أو سيرة الزير سالم؟
يحمل مصطفى جابر بلوط، بطل الرواية، الكثير من مواصفات أبطال السير الشعبية حيث تبدو عليه ملامح البطولة منذ سن مبكرة، كما هو حال البطل في السير الشعبية الذي يتحوّل مع الزمن، بفضل أفعاله، إلى رمز يتحلى بشيم الشجاعة والمروءة، ومثال يُحتذى به في خدمة الجماعة والتضحية بالذات. فقد تحول عنترة العبسي إلى رمز يحارب من أجل التحرر من الظلم، ومما تعرّض له من غبن منذ سن مبكرة. ولقد ذبح الزير سالم، وهو لا يزال فتى، الأسد ونحر اللبؤة وأخذ من حليبها ليقدمه لزوجة أخيه الجليلة التي أرادت له الهلاك. فيرى الجميع أفعاله حتى بات الكبير يعمل له ألف حساب قبل الصغير.
لقد تحدى مصطفى بلوط الفتيان الأكبر سنا، وقام بأفعال و”بطولات خارقة” فتحدى الجن ولم يخف منه ودخل المقبرة ليلا ووضع حجرا فوق أحد القبور، جعلت الكبير يعمل له ألف حساب قبل الصغير، وكان ذلك بداية مرحلة جديدة في حياته فتحت له أبواب الرزق كي يعمل ويساعد أمه الأرملة في تحمّل أعباء الحياة، رغم أنه ليس ابن عائلة كبيرة تمده ب”العزوة” والدعم كما هو الحال في المجتمع العربي التقليدي.
إن الزير سالم هو أخو كليب الذي شغل الدنيا في أيامه، فكان الفارس الشجاع الذي يهابه الجميع، لكن يد الغدر طالته، فما كان من أخيه سالم إلا أن يحمل وصية أخيه التي كتبها بدمه (لا تصالح) ويعمل على تنفيذها حتى يأخذ بثأره ليهدأ باله ويشفي غليله. أما في سيرة بني بلوط فإن القتلة هم الجنود الإنجليز المحتلون الذين قتلوا جابر، والد مصطفى بلوط، مما حدا به، في مرحلة الشباب، إلى أن ينتقل إلى المدينة وينضم إلى الثوار لمحاربة الإنجليز وطردهم والانتقام منهم.
إن بطل السيرة الشعبية يعمل من أجل الجماعة، ويدافع عن المظلومين، هكذا هو مصطفى بلوط لا يعمل من أجل ذاته أو من أجل أمه فقط، بل من أجل مجتمعه عامة، يحارب في الداخل وفي الخارج فيكسب ودّ المجتمع واحترامه. وكما أن أبطال السير الشعبية يلفتون نظر العذارى، هكذا يحظى مصطفى بلوط بقلب الحبيبة التي تغامر بذاتها وسمعتها وحياتها في سبيل بطلها، وكان قد سبا من قبلُ قلب زوجة الأفندي، وهو لا يزال فتى في مقتبل العمر واحتل فراشه.
إن الفارق الأبرز بين السير الشعبية التي أشرنا إليها وبين سيرة بني بلوط هو في اللغة. فلغة السير الشعبية هي لغة ما بين الفصحى والعامية لها مواصفات خاصة، ليس هنا مجال بحثها، تعتمد على السجع والجناس، لكن لغة سيرة بني بلوط هي لغة الرواية الحديثة، حتى وإن لجأ الكاتب إلى ترديد جملة “وبقي السر مكتوما بيننا” في نهاية كل فصل، كما هو حال التكرار في السير الشعبية، ورغم أن عنوان المخطوطة التي تركها الوالد تعتمد على السجع “سر اللسان المربوط للعبد الفقير مصطفى بلوط”. (الرواية، ص 31)
بالرغم من أن الأحداث تدور كلها حول شخصية مصطفى بلوط وتتمحور حول شخصيته اللافتة، إلا أنّ الكاتب أراد لهذه الشخصية أن تكون رمزا ونموذجا للإنسان الفلسطيني الذي يقارع من أجل طرد الإنجليزي المحتل ومحاربة كل من يقف معه من “مخاتير” و”أفندية” لا تهمهم سوى المصلحة الذاتية. إني أعتقد جازما أن التسمية الجماعية أكثر نجاحا من التسمية الفردية، وبالتالي فقد أصبح مصطفى بلوط رمزا من رموز بني بلوط الذي يقارع العدو، فتتّسع الرقعة من محاربة فرد إلى محاربة جماعية. والبلوط شجر راسخ وثابت من أشجار بلادنا التي تغور جذورها في الأعماق، فباتت رمز الثبات والصمود، وبالتالي هي إشارة إلى الشعب الذي رسخت جذوره في أرض الآباء والأجداد، قارع جيوشا عدة منذ مئات السنين، حتى ولّوا، وعادوا من حيث أتوا وبقي السنديان وبقي البلوط راسخا في مكانه يعمر مئات السنين.
خلاصة
تستمد رواية سيرة بني بلوط أحداثها وشخصياتها من التاريخ الحديث، اعتمادا على حقبة زمنية هامة جدا على الصعيدين السياسي والاجتماعي، تلك الفترة التي يدخل فيها الانتداب البريطاني إلى فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فيتعرض لمواجهة مسلحة من أهل البلاد. يعرضها الكاتب من خلال عمل فنّيّ بعيدا عن التاريخ الجاف، فبدا أهل البلاد أصحابَ حقّ يعملون من خلال وسائلهم المتاحة لرفع الغبن اللاحق بهم. ينقسمون إلى فئتين؛ الفئة الأكبر والشريحة الأوسع تلك التي ترفض الاحتلال، وفئة المنتفعين الذين يجنون أرباحا من خلال ربط علاقة مع المحتل حفاظا على مصالحهم الخاصة.
يطّلع القارئ على سير الأحداث من خلال الشخصية المركزية، شخصية مصطفى جابر بلوط الذي يولد من رحم والد مغامر مشاكس يتحلى بالشجاعة، ومن رحم أم فلاحة قروية تعمل كل ما بوسعها لرعاية ابنها وحيدها الذي اختار طريق المواجهة على الصعيد الخاص والعام، فرفض الانصياع لأوامر المحتل الإنجليزي الذي قتل والده، وتركه يتيما يصارع مع أمه من أجل لقمة عيش شريفة ونظيفة، فتحول إلى رمز المقاتل الذي ينتمي إلى شريحة الفقراء الذين يدافعون عن الحق الضائع.
بناء عليه يمكننا بسهولة إدراج رواية سيرة بني بلوط تحت باب الرواية الواقعية الاشتراكية لأسباب عدة فهي تدعو إلى العمل الجماعي لا الفردي. وأبطالها من عامة الشعب يحاربون من أجل الحرية والمساواة، ويرون في الإقطاعي عدوا داخليا كما المحتل هو عدو خارجي، فضلا عن ذلك فالرواية تحمل رؤية مستقبلية تفاؤلية. وتحث القارئ على التغيير لأجل خلق عالم سليم يتساوى فيه الجميع.
يعمل الروائي على رسم الشخصية المركزية وبنائها في آن معا بشكل تراكمي، بما يتلاءم مع تجارب البطل عبر الأحداث المتتالية من الأبعد فالأقرب، اللهم إلا في الفصل الأول الذي يبدأ القص فيه من الزمن الأقرب لزمن القراءة. يتعرض البطل لتجارب عدة منذ سن مبكرة ثم تتراكم التجارب والأحداث، وتنمو الشخصية بالشكل الذي خطط له الروائي، لتبدو شخصية قوية قادرة على المواجهة وإدراك مفهوم الظلم والظالمين، لينمو الحس الوطني العفوي.
تحمل الرواية بعض ملامح السيرة الشعبية التي ألفناها في أدبنا الشعبي من حيث بروز شجاعة “البطل” القادر على اجتراح المعجزات، الذي يتصدى للظلم والظالمين وينجح في رد الحق لأصحابه ورفع الغبن عن المظلومين. مصطفى جابر بلوط يتمكن منذ نعومة أظفاره من تحقيق ذاته وإثبات “رجولته” في الحارة منذ شبابه المبكر، ويثبت “فحولته” في جيل الشباب المبكر، فيكسب ودّ العذارى والمتزوجات في آن معا، ثم يثبت بطولته وشجاعته من خلال محاربة الإنجليزي المحتل، ومحاربة سلطة ذوي النفوذ الذين يستغلون الفلاحين والفقراء. برأينا كان من الممكن أن يعمل الروائي على توسيع مهمة البطل، وتوسيع رقعة المقاتلين من حوله، وتحويل الرواية إلى سيرة أكثر شمولية، وذلك تجاوبا مع عنوان الرواية.
عمل الروائي على بناء خطابه الروائي من خلال رؤيا تجسد صراعين؛ الأول صراع أصحاب الأرض مع المحتل الغريب، وصراع الفقراء والمظلومين ضد الإقطاعيين، فاختار بطلا من عامة الشعب كان قد تعرض للغبن والظلم منذ نعومة أظفاره ليقوم بدور مركزي، فبدا الروائي منحازا لتلك الشريحة التي يمثلها البطل، فبرز الصراع الطبقي ودور المناضل المقاتل، وبالتالي تلقّف القارئ الأحداث من خلال سارد مشرف كلي مشارك يسرد الأحداث بضمير المتكلم فبدا في عين المتلقي صاحب حق.
يعمل الروائي محمد علي طه على رسم صورة وطن، ورسم صورة شعب في مرحلة زمنية معينة من خلال لغة سردية قادرة على توصيف المكان والزمان والشخصيات فبدت هذه العناصر متلاحمة مترابطة ومنسجمة معا. فاللغة هي أداة الرواية التي يبني الروائي بواسطتها عالمه الخيالي. فرأيناها قادرة على التشخيص السليم للطبيعة القروية والمدنية بكل مركباتهما، وقادرة على تصوير الشخصيات المتعددة وبيئاتها المتنافرة. وإني لأرى أن الوصف في الرواية هو العنصر الأقوى والأبرز فيها، وهي ميزة القص الأنجح عند الكاتب محمد علي طه في مجمل ما يكتب. لغته غنية منسابة سلسة حية قابلة للتغيّر والتبدل وفق المكان والزمان، وبما يتلاءم أيضا مع فكر الشخصيات على اختلاف انتماءاتها.
رأينا الكاتب يعنى عناية كبيرة بتأثيث الفضاء الروائي بما يتلاءم مع زمن الأحداث وخصوصياته، فبدا “الديكور” في شكله القروي يحمل مواصفات مجتمع يعيش في حقبة زمنية يصارع فيها الناس من أجل لقمة العيش اعتمادا على مصدر الرزق الأهم، فرأينا القرية والحقل والأزقة والبيوت، وأهل القرية والمقاتلين الذين يعملون من أجل الذود عن أرضهم وكرامتهم.
رواية سيرة بني بلوط رواية ذات صوت واحد، هو صوت الراوي المشرف الكلي الذي يتحرك بفعل توجيهات الروائي. فمن شأن الرواية البوليفونية أن تترك للشخصيات مجالا واسعا للتحرك، عبر خلق حالة من الصراع بين شخصيات متعددة وأصوات متعددة. يقتصر الصراع في روايتنا على خلق حالة من التناقض بين المحتل الإنجليزي وبين أهل البلاد، وبين الفقير والغني. فيطّلع القارئ على ألم المستضعَف في الحالتين من خلال صوت الراوي المشرف الكلي. لقد حاول الروائي أن يقيم نقاشا بين بعض الشخصيات المقربة من الراوي/الشخصية المركزية وأن تعبّر كل منها، في الكثير من المواقع، عن صوتها الخاص بها، ولكن هذه الأصوات لم تتخلص نهائيا من “سيطرة” الراوي الرئيسي. أما الصراع الحقيقي بين صوتين متناقضين وموقفين متضادين فهو الصراع القائم بين فئتين من الناس؛ الفئة الأولى التي تحمل وجهة نظر الراوي وصوته، وتلك التي تحمل رأيا وموقفا مغايرين مثل المختار والأفندي وأتباع السلطة الجائرة. فالرواية تقوم أصلا على الصراع بين الاحتلال الإنجليزي ممثلا بجنوده وأتباعه، وبين عامة الشعب من فلاحين وقرويين وعمال وثوار. وعلى هذا الصراع، بالأساس، تقوم الرواية وأحداثها، وتتمايز الفئتان وتختلفان وتتصارعان صراعا وجوديا منذ بداية الرواية وحتى الصفحة الأخيرة. وبما أن الراوي يحمل نفس وجهة نظر الروائي وصوته فإن القارئ بالتالي ينحاز لهذا الصوت ولهذه الأيديولوجيا.
يحرّك الراوي الرئيسي الأحداث غير مفصول كليا عن الروائي، رغم انتقال السرد من الراوي الرئيسي وتسليمه لرواة آخرين، بحيث لا يمكننا الحديث عن تعدد الرواة. يتضح للقارئ المتأني أن الأيديولوجية المركزية والديناميكية في الرواية هي أيديولوجيا الروائي. لكن ما أعطى الرواية تلك الحيوية هو اللجوء إلى المونولوج والحوارات والأحلام والمناجاة التي تخلق المفارقات الزمنية وتتيح للسارد أن يتحرك بين الأزمنة والأمكنة المختلفة، فضلا عن الوصف وتأثيث الفضاء بكل مركباته بلغة غنية. هذه التقنيات كان من شأنها أن تفسح المجال أمام أكثر من صوت وأن تفتح باب تعدد الأصوات. لكن الروائي يصرّ على إيصال موقفه دون مواربة فأطل برأسه من خلال مصطفى بلوط ورفاقه الذين يحملون وجهة نظر واحدة، فبرز الصراع بين فئتين متصارعتين؛ إيجابية يدعمها الروائي والراوي وسلبية ممثلة بالمختار والأفندي والمحتل.
وبما أنّ الحلّ الذي يحلم به الإنسان الفلسطيني يبدو صعب المنال على أرض الواقع، يأتي الخطاب الروائي الفلسطيني، كما ينعكس في سيرة بني بلوط، كي يسدّ هذا النقص، ويفتح بابا للأمل وشبّاكا للحلم.
المصادر والمراجع
باختين، 1990 باختين، ميخائيل (1990)، أشكال المكان والزمان في الرواية، ترجمة يوسف حلاق،
دمشق: منشورات وزارة الثقافة.
باختين، 1987 باختين، ميخائيل (1987)، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، القاهرة: دار الفكر
للدراسات.
باختين، 1985 باختين، ميخائيل (1985)، “المتكلم في الرواية”، ترجمة محمد برادة، فصول، 3:5
(إبريل- يونيو 1985)، ص 104-117.
الباردي، 1985 الباردي، محمد (1985)، “الخطاب الروائي بين الواقع والأيديولوجيا”، فصول، 5:4
(أغسطس-سبتمبر 1985)، ص 159-163.
بحراوي، 2002 بحراوي، حسن (2002)، “مقدمة” ضمن: الفضاء الروائي، ترجمة عبد الرحيم حزل،
الدار البيضاء، بيروت: إفريقيا الشرق.
جولدمان، 1993 جولدمان، لوسيان (1993)، “مشكلات علم اجتماع الرواية”، ترجمة خيري دومة،
فصول، مجلد 12، العدد 2، ص 34-46.
جينيت، 1992 جينيت، جيرار (1992)، “حدود السرد”، ترجمة بنعيسي بوحمالة، في كتاب طرائق
تحليل السرد الأدبي. الرباط: منشورات اتحاد كتاب المغرب.
دراج، 2004 دراج، فيصل (2004)، الرواية وتأويل التاريخ- نظرية الرواية والرواية العربية، الدار
البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي.
زيما، 1991 زيما، بيير (1991)، النقد الاجتماعي- نحو علم اجتماع للنص الأدبي، ترجمة
عايدة لطفي، القاهرة: دار الفكر.
علي طه، 2004 علي طه، محمد (2004)، سيرة بني بلوط، عمان: دار الشروق.
كولدنستين، 2002 كولدنستين، ج. ب (2002) “الفضاء الروائي” ضمن: الفضاء الروائي، ترجمة عبد
الرحيم حزل، الدار البيضاء، بيروت: إفريقيا الشرق.
لحمداني، 1990 لحمداني، حميد (1990)، النقد الروائي والإيديولوجيا، بيروت: المركز الثقافي
العربي.
الماضي، 1989 الماضي، شكري عزيز (1989)، “الدلالة الاجتماعية للشكل الروائي في روايات حنا
مينة”، فصول، 8:3-4 (ديسمبر 1989)، ص 142-161.
نجمي، 2000 نجمي، حسن (2000)، شعرية الفضاء، المتخيل والهوية في الرواية العربية، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي.
لوكاتش، 1986 لوكاتش، جورج (1986)، الرواية التاريخية، ترجمة صالح جواد الكاظم، بغداد: دار
الشؤون الثقافية العامة.
محفوظ، 2009 محفوظ، عبد اللطيف (2009)، وظيفة الوصف في الرواية، بيروت، الجزائر: الدار
العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف.
يقطين، 1989 يقطين، سعيد (1989)، تحليل الخطاب الروائي، الدار البيضاء، بيروت: المركز
الثقافي العربي.
Wellek, 1966 Wellek Rene, Warren, Austin, (1966) Theory of Literature, Harmondsworth: Penguin Books Ltd.