دقائق ذهبية للدعاء
تاريخ النشر: 05/11/19 | 6:59لا شك أن الدعاء في الإسلام عبادة من أعظم العبادات، وطاعة مستحبة في كل الأوقات، وكيف لا و الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول عن الدعاء بأنه هو العبادة، ففي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدعاء هو العبادة ) ثم قرأ “وقال ربكم ادعوني أستجب لكم” (صحيح ابن ماجه للألباني برقم/3818).
نعم.. لقد امتن الله تعالى على أتباع الدين الخاتم بهذه العبادة التي تجعل المسلم دائم الصلة بالله تعالى، يفزع إليها في وقت رخائه وشدته وفي حالة يسره وعسره، معبرا في الأولى عن مدى شكره وامتنانه على نعم الله وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، وسائلا في الأخرى – بعد الصبر والرضا بقضاء الله وقدره – الفرج والأجر والثواب على امتحانه واختباره، فتغدو أيامه ولياليه وساعات حياته بين صبر وشكر وصلة بالمولى سبحانه.
لم يتوقف الكرم الإلهي على عباده بالاكتفاء بتشريع عبادة الدعاء التي لا يعلم فضلها ومنزلتها وأهميتها في حياة الإنسان إلا من ذاق لذة طعم مناجاة الله تعالى بعد غفلة أو بُعدٍ عن هذا الكنز العظيم من كنوز الإسلام.. بل اكتمل فضل الله بوعده باستجابة دعاء عباده إن هم استكملوا شروط ذلك، قال تعالى: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” (البقرة: 186)، وقال تعالى: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” (غافر: 60).
وبعد كل هذا الفضل الإلهي والمنة الربانية خصَّ الله أتباع هذا الدين العظيم بمنة أخرى وفضل جديد تمثل بإفراد بعض الأوقات بمزيد من الفضل والمزية، من خلال التأكيد على أنها أرجى إجابة لدعاء المسلم فيها، تشجيعا للمسلمين على الإقبال على الدعاء، وتنبيها على فضل هذه الأوقات على غيرها فيما يخص طرق باب رحمة الله تعالى وكرمه وفضله.
ونظرا لكثرة الأوقات التي يستحب فيها الدعاء ويستجاب، حيث تتجاوز تعدادها العشرين زمانا ومكانا، فإني أريد أن أقتصر في هذا المقال على فضل الدعاء بين الأذان والإقامة، نظرا لتكراره كل يوم بخلاف غيرها من الأوقات التي قد تكون في العام مرة كما هو الشأن في ليلة القدر، أو في الأسبوع مرة كما هو الحال مع ساعة الاستجابة يوم الجمعة، أو في اليوم مرة كما في الثلث الأخير من الليل… إلخ، وغفلة كثير من المسلمين عن اغتنام هذه الدقائق الذهبية.
وقد ثبت فضل الدعاء بين الأذان والإقامة والتأكيد على حتمية الاستجابة فيه بالحديث الصحيح عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ” (سنن الترمذي برقم521 وصححه الألباني).
والحقيقة أن الكثير من المسلمين قد يفوتهم الدعاء في هذه الدقائق الذهبية نظرا لعدم التزامهم بأداء الصلوات الخمس جماعة كما حث على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن المتبادر إلى الذهن من نص حديث عدم رد الدعاء بين الأذان والإقامة هو صلاة الجماعة كما أكد على ذلك الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين رحمه الله حيث قال: “يُراد بالإقامة هاهنا إقامة المؤذن عندما يحضر الإمام لأداء الصلاة، فالدعاء تُرجى إجابته بين فراغ المؤذن من الأذان وابتدائه في الإقامة، ولا يدخل في ذلك الذين يُصلون في بيوتهم ولا يحضرون إقامة المؤذن للصلاة في المسجد سيما إذا كان تخلفهم من باب الكسل والتثاقل والتهاون بصلاة الجماعة… أما المرأة فإن اشتغالها بالصلاة وإقامتها لها تكون قُرب إقامة الأئمة للصلاة في المساجد، فيكون الدعاء في حقها مُقيدًا بما بين أذان المؤذن وإقامته، فلا يدخل في ذلك ما إذا تأخرت عن الصلاة، حيث يفوت وقت الاستجابة بإقامة المؤذنين”.
من جهة أخرى؛ قد يفوت الدعاء في هذه الدقائق الذهبية كثير من المسلمين ممن يؤدون الصلوات الخمس جماعة في المسجد، وذلك لتأخرهم عن المجيء إلى المسجد لحضور الجماعة حتى يقيم المؤذن الصلاة، وهو ما يحرمهم من كنز ثمين لم يقدروه حق قدره.
بل قد يغفل عن هذه الدقائق التي أكد النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أن الدعاء فيها لا يرد كثير ممن يجلسون في المسجد ينتظرون الصلاة، إما لانشغالهم بخير آخر كتلاوة القرآن مثلا، أو بالدنيا وزخرفها التي أضحت تدخل حتى إلى مساجد المسلمين وصلاتهم وعباداتهم.
أما من انشغل بتلاوة القرآن أو ما شابه عن الدعاء في هذه الدقائق، فهو وإن كان على خير فإن الدعاء أفضل كما قال العلماء، نظرا لورود النص باغتنام هذه الدقائق بالدعاء، في الوقت الذي يمكنه تلاوة القرآن الكريم في كل وقت، قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: كثير من الناس يهملون الدعاء بين الأذان والإقامة ويشتغلون بتلاوة القرآن، تلاوة القرآن لا شك أنها عمل جليل، ولكن تلاوة القرآن لها وقت آخر، كونك تستغل هذا الوقت بالدعاء والذكر أفضل، لأن الدعاء المقيد في وقته أفضل من الدعاء المطلق، وتلاوة القرآن مطلقة في كل وقت وهذا الوقت مخصص للدعاء.
وأما من انشغل في هذه الدقائق المباركة بأمور الدنيا كتصفح المحمول أو ما شابه فقد فوت على نفسه خيرا كثيرا، ناهيك عن تفويته للمقصود من تخصيص هذه الدقائق بالعبادة والطاعة، والابتعاد عن مشاغل الدنيا وملهياتها، وتفريغ القلب للإقبال على الله تعالى.
إن من يدقق في الغاية الكبرى من العبادات سواء كانت فرائض أو سنن أو نوافل، لا يشك لحظة بأنها للتأكيد على العبودية لله تعالى وحده والخضوع له سبحانه، ولعل الدعاء النموذج الأمثل للتعبير عن هذه العبودية والخضوع، ومن هنا كان اهتمام دين الله الخاتم بهذه العبادة التي قد يغفل عنها بعض الناس، فينغمسون في أداء مظاهر العبادة وشكلها – مع التأكيد على أهمية ذلك – دون أن ينفذوا إلى جوهرها ولبها المتمثل باستشعار العبودية المطلقة لله أثناء أدائها.
إن اغتنام المسلم لهذه الدقائق المباركة في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة عموما من الضرورة بمكان، فإذا كانت حاجات المسلم وافتقاره إلى الدعاء وطلب رحمة الله وفضله في زمن الرخاء والأمن والسعة كثيرة ولا يمكن أن تعد أو تحصى، فإنها في زمن الشدة والخوف والضيق والمحن والنوازل التي ألمت بالأمة أولى وأكثر ضرورة وإلحاحا.فهلا اغتنم المسلم هذه الدقائق الذهبية بحق بالدعاء لنفسه وأهل بيته وأمته.
د. عامر الهوشان