“الحبّ حكايةُ بطلٍ لهذا الوجود”-
تاريخ النشر: 11/11/19 | 8:46 “الحبّ حكايةُ بطلٍ لهذا الوجود”-
قراءة تحليليّة في رواية “باب الأبد” لصونيا خضر
د. لينا الشّيخ- حشمة
تقسم الرّواية لثلاثة أجزاء. في الجزء الأوّل تحيي الرّاوية لوحة من اللّوحات المعلّقة على جدران بيتها، تحيي منها امرأة وتطلق عليها اسم “كارمن” وتتخيّلها في علاقة حبّ مع “جاد” حيث يتراسلان عبر الرّسائل الإلكترونيّة. أمّا الجزء الثّاني فيتناول في الأساس حكاية إيفيت المطلّقة وابنها سامي وصديقه آدم. في حين يقوم الجزء الأخير على حوار بين الرّاوية وكارمن امرأة اللّوحة.
تنتمي الرّواية للسّرد النّسويّ، لكنّها ليست نسويّة بمنحى متعصّب يقصي الرّجل ويلغي وجوده. تبدو نسويّتها متوازنة غير متطرّفة. لم تنتصر للمرأة على حساب الرّجل. لم تنشغل بها دونه. لم تسعَ إلى تقويض الذّكورة وهدمها، بل على العكس تمامًا، سعت للمصالحة وتعزيز العلاقة معه. معه فقط تبني الحياة وتصنعها، فينتصر الحبّ. تنتقد صونيا تشويه علاقة المرأة بالرّجل بموروثات ومفاهيم ذكوريّة فحوليّة قهريّة، دنّست الحبّ وأفقدته معناه النّقيّ الجميل. لم تنتهك صونيا محرّم الجنس إلى درجة الاحتفاء بالجسد الأنثويّ وتكثيف الاعتناء بوصف العلاقة الجنسيّة. وهذا برأيي لتؤكّد على رسالة روايتها. في رسالة روايتها عن الحبّ لا تتنكّر للجسد ولا لشهوته. هي لا تكثّفه ولا تكرّس روايتها له، لكنّها لا تلغي وجوده، بل تدرك حاجة الحبّ إليه، حاجة الذّكر والأنثى إليه كحبّ حقيقيّ يشمل الرّوح والجسد. ولذا لا تحتفي صونيا بالحبّ بلا زواج، فترفض الزّواج وتفكّ الرّباط مع الرّجل، بل يتزوّج أبطالها ليصنعوا الحياة. لكنّها تسعى للارتقاء بالعلاقة بينهما من الحبّ الأرضيّ الملموس، المشغول بالجسد وحده، وفي علاقات غرائزيّة متعدّدة، إلى منزلة إدراك الحبّ الأسمى، الحبّ الحقيقيّ الخالد الّذي يتربّع على عرشه في باب الأبد بعيدًا عن شهوة جسد عابرة فانية.
زجّت الكاتبة نفسها بين رسائل كارمن وجاد في الفصل الأوّل لتناقش أفكارًا وجوديّة، كما ناقشت بعضًا منها في الرّسائل نفسها. تجرّأت على التّابوات الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة، ولم تتوان عن التّساؤل عن أيّ قضيّة إنسانيّة تؤرّقها، فهي كما تقول وبآليّة ميتاقصّيّة: “لم أكتب هذا الكتاب لأقرأ، بل لأخمد الموج في رأسي”(283). بحثت صونيا في أعماق القضايا الّتي تشغل الإنسان كالحبّ، الزّواج، الأمومة، الأبناء، الفقر، الوطن، الحرب، السّعادة، الموت وغيرها، مصرّة على أنّ ما تفعله في الرّواية هو “تشريح”؛ تشريح قاسٍ في عالم يريد أن يبقى على تسطيحه. تشريح لقضايا ومعاني وجوديّة تشغلنا، فتبحث في معناها الحقيقيّ. وأعظمها هو الحبّ. من خلال علاقة جاد بكارمن وآدم بإيفيت استطاعت تشريح مفهوم الحبّ والعلاقة بين الرّجل والمرأة، مؤكّدة تشابه نساء الرّواية ورجالها كذلك، فكلّ حكايات الحبّ واحدة. تسبر أغوار الرّجل الشّرقيّ وتغوص في أعماقه، علّها تفضح مسوّغات سلوكيّاته مع المرأة وتداعياتها، فتفضح ثقافة ذكوريّة ترسّخ لديه نزعة غرائزيّة فحوليّة ترى بالمرأة طريدة من غزواته الجسديّة. كما تسبر أغوار المرأة كاشفة عن همومها وأحزانها، مؤكّدة أنّ المرأة، وبمنأى عن عمرها، باحتياج دائم إلى الحبّ.
هي رواية عن القلق الوجوديّ والاغتراب، قلق المرأة بشكل خاصّ في محاولات تآلفها مع عالم لا يشبه وجودها. تقول الكاتبة بأسلوب الميتا وعلى لسان الرّاوية: “أشعر أنّني في أوج القلق الرّوحيّ، أتهدّم كثيرًا لأبني هيكلًا لهذا السّرد.. ما قيمة الكتابة وجدواها؟ بل ما قيمة اعترافاتي هذه أنا المرأة الّتي تحيا دون امتلاك أيّ حقّ بحياة خاصّة بها؟”. كانت الرّاوية وحيدة غريبة عن كلّ ما يحيطها، تبحث عن الحبّ في هذا العالم الذي “تدور فيه آلة القتل بلا هوادة وتطحن بلا تفكير”(281). مرهقة من شدّة الخوف وعدم الثّقة في عالم تسعى لتأكيده وهو نفسه الّذي يقاوم وجودها فيه. تقرّر أن تكتب لتتغلّب على عزلتها واغترابها بالبوح والحكي، مدركة أنّ الحكي أفضل الطّقوس لمواجهة القلق، فتمسي الكتابة ملاذًا، تهرب إليها وتخلق كائنًا افتراضيًّا في شخصيّة “كارمن” لكي تشاركها مخاوفها وأفكارها، ولكي تقول بلسانها ما لا تجرؤ هي على قوله: “نحن نتخفّى وراء الشّاشة حين نكون افتراضيّين، نقول الأشياء بصدق أكبر وبحرّيّة، بينما الواقع يهشّم ذواتنا ويلطّخها بأوساخه ويفرض علينا قوانينه”. وهي وإن كانت تشعر “بفراغ عظيم”(20) إلّا أنّها تمتلئ بالكتابة. هكذا، لم يكن عبثًا أن جعلت الكاتبة شخصيّاتها الأنثويّة المعذّبة بالبحث عن الحبّ مهتمّة بالكتابة، فالرّاوية وكارمن وإيفيت كاتبات عاشقات للقراءة والأدب. ومن جهة أخرى، تصرّ الكاتبة على جعل آدم عاشقًا للأدب يمارس الكتابة، فكانت الكتابة سلاحًا للرّجل أيضًا، للتّطهير والكشف والارتقاء مثلما هي كذلك لدى حبيبته إيفيت. ولعلّ في ذلك تأكيدًا من الكاتبة على تكافئهما وتشابههما، وهذا ما سنبيّنه لاحقًا. ولعلّه كذلك تأكيد منها ككاتبة على قيمة الكتابة وأثر فعلها.
هي رواية البحث عن الذّات في مواجهة الأسئلة الكبرى، ولربّما أهمّها لدى صونيا: ما جدوى هذه الحياة؟ وفي بعض تساؤلاتها هذه تتجرّأ على المحرّم الدّينيّ: “لِمَ طردنا من الجنّة؟ من سمح لإبليس بأن يدخل جنّة آدم وحوّاء؟ ما سبب وجود شجرة محرّمة في ذلك الفضاء الفسيح؟ الله القويّ العظيم الجبّار نخشاه لأنّنا نحبّه أم نحبّه لأنّنا نخشاه؟”(255). ليست الرّواية تقليديّة، بل تثور ضدّ كلّ مسلّمات الواقع وأطره، ضدّ التّابوات والقناعات المقدّسة. هي رواية التّساؤل، تضع كلّ الأسئلة على المِحَكّ وطاولة التّشريح، وتعيد النّظر بكلّ شيء، مؤكّدة أنّ عناوين كبرى قد فرغت بفعل حياتنا المادّيّة من معناها الحقيقيّ وسلبت الأشياء كنهها، فبتنا نجترّها دون وعي أو مسؤوليّة منّا. تسعى إلى تسمية الأشياء باسمها الحقيقيّ، تنتهك الرّقيب الاجتماعيّ وتابواته، وتعرّي القيد والخوف والقهر والجبن، وكلّ الأعراف الاجتماعيّة والأدبيّة وموروثاتها الّتي تمنعنا من تسمية الأشياء بمسمّياتها. لكن حتّى تسمّيها يجب أن تعرّيها، أن تغوص في أعماقها وتجرّدها من كلّ التّشوّهات الّتي فعلها إنسان هذا العصر، الإنسان المادّيّ العنيف.
تصرّ صونيا على جعل روايتها أنشودة حبّ، أغنية لا يدرك إيقاعها إلّا من أحبّ. ففي الحبّ يصير كلّ شيء أجمل. إنّها حكاية الحبّ كبطل لهذا الوجود؛ “هو القيمة الوحيدة الّتي تمنحنا ذلك الشّعور الإنسانيّ العميق باختلافنا كبشر عن بقيّة الكائنات”(276)، رغم أنّها تؤكّد أنّ الحبّ الّذي نسعى إليه جميعًا، وإن وصلنا إليه، نجد دائمًا ما يمنعنا عن إشهاره: “الخوف، الخجل، الجنس الاجتماعيّ، المجتمع، الدّين، وكلّ الضّوابط الّتي تقمع وجوده وترحّب بوجوده في الوقت نفسه”(276). تنتقد الرّجل الشّرقيّ على لسان إيفيت، فتقول إنّه يتعامل مع النّساء على أساس معركة يروّض فيها نساءه، يقسّمهن تحت أبواب: “فهذه في باب الحبيبات المؤجّلات، وتلك في باب المتيّمات المتأهّبات المتطوّعات لخدمات مجانيّة، وتلك في باب الاحتياط، الخاضعات المتدرّبات جيّدًا على الخضوع لأجل الاحتفاظ بالرّجل”(222). تؤكّد صونيا أنّ الرّجل المترعرع في ثقافة تعزّز هيمنته على المرأة لن يراها إلّا جسدًا قبل الرّوح والفكر، ستدفعه خيالاته الانتهازيّة إلى كسر المرأة والتّمادي في إذلالها.
تتطرّق الكاتبة كذلك إلى حرّيّة الكاتبة العربيّة ومعاناتها في ظلّ مجتمع ذكوريّ ينظر إليها نظرة متشكّكة ككائن ناقص عقل ودين. توضع تحت المجهر وتحاسب، فتمسي الكتابة هي الحياة الحقيقيّة، تمسي بحثًا عن أفق أوسع للحرّيّة. هي ما يعيد إليها قيمتها في الوجود أو الإحساس به. تؤكّد أنّ الموروث الأخلاقيّ والاجتماعيّ والدّينيّ يعمل على سلب حرّيّة المرأة في التّعبير عن تجاربها ومشاعرها، فيكون القلم لها سلاحَ كينونةٍ وبوحٍ وقوّةٍ وكشفٍ وتعريةٍ. فعل الكتابة هو فعل التّحدّي والتّمرّد. هو مخاضٌ نحو الولادة. طريق صوفيّ بكلّ توقه وعذاباته نحو البحث عن كنه الوجود. وهنا، تعترف الكاتبة على لسان الرّاوية أنّها أخرجت شخصيّة “كارمن” من اللّوحة لتستنطقها، فتقول: “أريد أن أحمّل أحدًا ما أريد أن أقول، أن أخلط الواقع بالخيال للخروج بفكرة أستطيع تدوينها دون خوف أو خجل. نعم أريد أن أتحدّث عن الحبّ، عن قيمة يتداولونها بوضاعة وخِسّة. فوحده الافتراض يمنح الشّخصيّة جرأتها.. في الافتراض نشبهنا أكثر، لا كما نحن، بل كما نتمنّى أن نكون. في الافتراض، ولأنّنا نستطيع التّخفّي أو الهروب وقتما نشاء، نجد الحياة أقرب إلى الشّكل الّذي نحلم بأن تكون عليه. ولأنّنا تربّينا على الخوف من الفقدان والوحدة والتّشهير والسّمعة السّيئة والخروج عن المألوف نجدنا بالافتراض نقترب أكثر من الذّوات فينا الّتي لا تأبه للخوف ولا للخجل”. تكشف عن الخوف الّذي يلاحق الأنثى المبدعة الشّرقيّة، وذاك الرّقيب الشّرطيّ الّذي يحاصرها، والتّحدّيات الّتي تواجه المرأة “المصابة بهاجس الكتابة والمجبرة على الاختفاء خلف اسم مستعار”: “فلا أحد يعرف معاناة امرأة شرقيّة أصيبت بلوثة البلاغة وحلم التّدوين، لا أحد يدرك كيف تتحوّل المرأة إلى فأر يهرب من جحر إلى جحر، لا أحد يعرف كم من رقيب وإله وشيطان يحرس باب رأسها لتنجو بها من مجازر التّأويل”(123)، ثمّ تتساءل عن جدوى الكتابة: “ما جدوى الكتابة في ظلّ من يروّجون أنّ ما تكتبه النّساء هو نواح عاطفيّ أو تفريغ عن كبت جسديّ أو رسائلُ يائسة؟ تتحوّل اللّغة الّتي تكتبها امرأة إلى فخّ متحرّك، تسقط فيه المرأة والنّصّ معًا، لا لشيء إلّا لأنّها امرأة، ولأنّ النّصّ الّذي تكتبه هو نصّ خارج عن أعراف اللّغة، متورّط في الصّدفة البيولوجيّة، متّهم، مدان، دون مرافعات أو منصّة للقضاة”(124). تنتقد “القارئ العربيّ الّذي يعتمد في حكمه على حقيبة موروثاته والمسلّمات الّتي استسلم لها.. في وقت لم تعد فيه المواعظ مقنعة ولا الأفكار جديدة ولا الصّور مثيرة للدّهشة، فكيف لو كانت هذه الموعظة لكائن مهما حجّ إلى بيوت العبادة ناقص دين، ومهما قدّم للإنسانيّة من تضحيات ناقص عقل؟ فما جدوى الكتابة؟ ما جدوى التّعبير لامرأة تدّعي الحرّيّة ولا تجرؤ أن تعيشها”. إلّا أنّها ترفض أن يكون تساؤلها “إعلان هزيمة أو استسلامًا بقدر ما هو استفسار عن جدوى الكتابة”، “هو استنكار وخيبة وصفعة تتلقّاها بين حين وحين امرأة تظنّ أنّها نجت من براثن الشّرق بكامل طهارتها وتفرّدها وصبرها لتجد أنّ الشّباك الّتي صارت خلفها لا تزال كما هي”(125- 126).
**في تحليل الشّخصيّات ورمزيّة الأسماء والألوان
تختار الكاتبة أسماء الشّخصيّات بعناية شديدة ملائمة بين الاسم وصفات الشّخصيّة ودورها، كما تحرص كذلك على اختيار الألوان بما يتناسب مع دور الشّخصيّة ودلالتها.
**كارمن وجاد
في وصف الرّاوية لبيتها ذكرت عددًا من اللّوحات على جدران بيتها، كانت قد انتقت لوحات لنساء بلا وجوه، منكسرات حزينات. وكم رغبت في صفعهنّ لما يظهرن من انكسار وحزن! تقول: “نساء لوحاتي لسن أكثر من نساء عاديّات لقصص عاديّة، لسن أكثر من امرأة واحدة في عدّة لوحات، وحزن أولئك هو حزن واحد لأنّ قيود العالم قيد واحد. قدر كلاسيكيّ لكائنات قابلة للنّسيان”(19). وحدها لوحة كارمن لم تثر بها الإحساس بالشّفقة، ولم ترغب في صفعها. كارمن امرأة حنطيّة اللّون ذات قبعة زرقاء، وتجلس وسط بساط أزرق. هي لوحة لامرأة بلا وجه أيضًا، لكنّها تجلس بكامل أنوثتها وأناقتها. ترفع رأسها وتدير ظهرها لكلّ شيء. لوحة لامرأة ستنسى كيفيّة البكاء. لكنّها “لم تنفصل عن كلّ ما تركته خلفها وحملت صخرتها حذو سيزيف وجلست على ذلك البساط الأزرق، وأمامها هدف واحد هو الرّحيل، الرّحيل الّذي لا يعني دائمًا انتقالًا مكانيًّا، فيكفي امرأة لأن ترحل أن تتخفّف من صناديق الذّاكرة أو أن تقفلها إلى الأبد. ويكفيها أن تنظر إلى ما سيأتي دون مرجعيّات الماضي وقواعده. كارمن هي امرأة تنكسر خلف ظهرها الحكايات دون أن تكسرها”(16-17). هي صوت من أصوات النّساء الباحثات عن معنى لوجودهنّ وتحقيق ذواتهنّ. أمّا حبيبها جاد فهو شابّ طائش مستهتر، يسعى إلى تحقيق نصره الذّكوريّ على سباياه، “حريصًا على تكديس طرائده من النّساء”. علاقة عاطفيّة بامرأة واحدة لم تكن تكفي لتحريض العاشق به. كانت كارمن في علاقتها مع جاد رومنسيّة. لها فلسفة خاصّة في الحبّ والحياة والوجود. هي ليست امرأة من النّساء المستهترات بكينونتهنّ الخانعات لعبوديّة الإطار. وليست صدفة أنّ لوحتها بلا إطار، “فما الإطار إلّا الفكرة الّتي تبنّاها الجميع من حولنا لقبولنا على النّحو الّذي يرغبون في رؤيتنا فيه”(278). “كارمن تقبع داخل الصّورة وداخل المصير الّذي تستسلم له دون أيّ إشارة للألم والاعتراض”(ص 279). هي المرأة الحديديّة الّتي تخوض معاركها بصبر وحبّ وصمود، لكنّها تعبت من غربة طوعيّة ذهبت إليها بمنتهى الرّضا، فليست هي المرأة الخارقة بلا ضعف، بل تغفو غارقة بدمعها وتعرف أنّ لا أحد يشاركها في حزنها. في حبّها لجاد تعفيه من أيّ التزامات تجعله يختنق في هذا الحبّ، فالحبّ كما تراه: “ليس مرهونًا بشيء أكثر من الإيمان بأنّ من تمنحه قلبك يستحقّ هذه المنحة دون مقابل إلّا الصّدق والاكتراث”(154). كان جاد لا مباليًا، يعيش الحبّ ويمارسه في الوقت نفسه مع ثلاث نساء: نورا ونوال وكارمن، معلّلًا ذلك: “أحتاج أن أتحقّق من جاذبيّتي كرجل”. يعترف أنّه يختار نساءه بمكر وذكاء. يختارهنّ وحيدات ضجرات يائسات. لكنّ كارمن هي امرأة الرّوح لجاد، كان ممتلئًا بها فيدعوها للاقتراب منه أكثر. يشاركها في أسئلته الوجوديّة وأحلامه وكوابيسه. “في حبّه لكارمن هو مختلف، يحبّها ويتمنّى لو لا يقول كلمة أحبّك من بعدها لسواها”(71)، “كارمن في روحه وليست في رأسه”(103). مع غياب حبيبته نورا كانت روحه تنكسر للعتمة، “فينتظرها فور أن تضيء ليواصل السّقوط”(82)، قائلًا: نورا “هي الشّرارة الّتي لا أريد لها أن تنطفئ رغم يقيني أنّها انطفأت منذ اللّحظة الّتي غادرت للمرّة الأولى دون أيّ سبب، ونوال هي الشّرارة الإلكترونيّة الّتي تسعف احتياجاتي الذّكوريّة وتأخذني إلى غيبوبات طارئة من وعيي”(94). ولعلّ في قوله هذا ما يفسّر اختيار الكاتبة لأسماء حبيباته نورا ونوال. وهكذا، في علاقة جاد بكارمن، تشير الكاتبة إلى ارتباك جاد مقابل خروج كارمن من كلّ هذه الارتباكات. كانت كارمن مسكونة بجاد دون خضوع أو سحق الذّات، أمّا هو فمأزوم مرتبك. ولعلّ ذلك يعود لانشغاله بنفسه ونرجسيّة ذكوريّته الّتي تربكه بسطوتها. أمّا كارمن فقد أدركت كيف يكون الحبّ فتصالحت مع ذاتها وارتقت. وكأنّي بالكاتبة تؤكّد بهذا قوّة المرأة وانتصارها مقابل ارتباك الرّجل واهتزاز روحه. وفي هذا بعد نسويّ واضح.
**إيفيت وآدم
يتّضح للقارئ في الصّفحات الأخيرة للرّواية أنّ لوحة كارمن ليست إلّا إيفيت، اللّوحة الّتي رسمها آدم وأهداها إليها في عيد ميلادها الأربعين. وهذه اللّوحة تركتها إيفيت عند كاهن الدّير لتشتريها الرّاوية فيما بعد وتعلّقها في بيتها، وهي الّتي أطلقت عليها اسم كارمن. إذ تقرّ الرّاوية بأسلوب الميتا أنّها استطاعت الولوج إلى قصّة إيفيت من خلال اللّوحة، وأنّها استلهمتها منها، معلنة أنّها بعد اللّقاء مع يبوس، حفيدة “إيفيت”، لم تعد لها أيّ رغبة في كتابة الرّسائل بين كارمن وجاد، ورأت أنّها قد أوفتها حقّها كاملًا، وكأنّ كارمن في ذلك اليوم قرّرت أن تختفي، حيث تريد لما تبقّى من الحكاية مع جاد أن يستمرّ سرًّا(196).
إنّ حكاية كارمن وإيفيت هي حكاية واحدة، فحكايات الحبّ واحدة. “أمّا المختلف فيها فهو القدرة على الاستمرار والإيمان بجدوى الحبّ لجعل هذا المرور الوحيد في العالم أمرًا ذا قيمة تذكر”(197). وحكاية آدم وإيفيت رمز للقدرة على الاستمرار، بينما جاد وكارمن تنتهي الرّواية ولا يُعرف إذا ما كانت كارمن ستلتقي بجاد أو سيصلان إلى باب الأبد حيث إيفيت وآدم، إذ تتعمّد الكاتبة ترك قصّتهما مفتوحة. ولعلّها تؤكّد بذلك على ارتباك جاد وعدم وصوله إلى حالة التّطهير والخلاص الّتي بلغها آدم.
عانت إيفيت من عذابات كثيرة، فكان طريقها معبّدًا بالآلام، كالمسيح حملت صليبها: زواجٍ مبكّر لم تختره فسلب كيانها وكانت سجينة فيه؛ أمومة مبكّرة زادت من إبعادها عن تحقيق ذاتها، ثمّ علاقة حبّ انتهازيّة خائبة بمفهوم غير ناضج للحبّ، إلى أن أحبّت آدم، وفي حبّه كان الخلاص. عاشت حياة تقليديّة مليئة بأعراف حبستها داخل إطار مجتمعيّ قاتل، لكنّها أدركت كيف تعزّز أنوثتها بحقّها في الحبّ. ثارت على مجتمع صادرها بتقوّلاته وبحرّاس موروثاته، فتركت أهلها ووطنها بحثًا عن حياة جديدة مع ابنها. ليست إيفيت امرأة نمطيّة ضعيفة، بل تحدّت كلّ الأطر فوصلت باب الأبد، وأصبحت صورتها بلا إطار. هي امرأة مثقّفة تقدّس الحرّيّة والحياة، ثالوثها: الخير، الحبّ والجمال. ولذا لا غرو أن تمارس الرّسم والكتابة. هي امرأة سعت للبحث عن أعماق المعاني والوجود. هي نموذج أموميّ جميل، أدركت كيف تكون الأمومة فعاشتها واعية، مضحّية بحبّ ورضا. حتّى مع آدم كانت أمًّا وصديقة قبل أن تمسي حبيبة. كانت تحثّه على رؤية الألم الّذي يتركه في جثث النّساء خلفه. لم تحاكمه، لكنّها جعلته يرى نتائج أفعاله وأعماقها. كانت الزّوجة الواعية الّتي أدركت أنّه ليس من حقّها أن تسلب حبّ زوج لا تحبّه فأعتقته. لم تستغلّه مادّيًّا ولم تخنه في اللّحظة الّتي كانت تتوق فيها إلى الحبّ. لم يكن وفيق الّذي انتظر إيفيت وهي تكبر أمامه حتّى يتزوّجها “موفّقًا”، فعشرة أعوام معها وهو لا يعرف ما الكفيل بإسعادها، كان الحارس والسّجّان والسّائق الّذي يحرص دائمًا على تذكيرها بربط حزام الأمان. لكنّه فقدها بمبالغته في الحبّ ومحاولات الاستحواذ عليها. هي الّتي لجأت إليه لتتحرّر من القفص لتجد نفسها في قفص أكثر ضيقًا. قبلت أن تكون ابنة لهذا الزّوج الطّيّب الّذي منحها اهتمام أب لم يكن موجودًا قطّ في حياتها. في لحظة ما بدأت إيفيت تعي معنى قيمة وجودها، أدركت فجأة وهي تتابع أخبار صديقاتها اللّواتي تمهّلن بالصّعود إلى قطار الزّواج أنّها تسرّعت كثيرًا في ذلك، فكلّ واحدة منهنّ حقّقت ذاتها وتعلّمت وعملت. أمّا هي فبعد ثماني سنوات من زواجها تدرك كيف تمّ مسحها تدريجيًّا. في السّابعة والعشرين من عمرها لم تكن تعرف كيف تكون نفسها. لذا كان وفيق مجبرًا على منحها جناحيها من جديد فيطلقها ويهاجر. بعد الانفصال تهرب إلى مقاعد الدّراسة. تحصل على بكالوريوس أدب إنكليزيّ وتلتحق بمعهد للفنون الجميلة، ثمّ ترحل إلى الأردن بعيدًا عن العيون المتلصّصة والوصاية والرّقيب الاجتماعيّ. بدأت إيفيت تكتشف العالم مجدّدًا. وفي عمر الثّلاثين تجد نفسها في علاقة حبّ مع عمر. لكنّها تقضي عشر سنوات أخرى تحت سلطة حبّ انتهازيّة، تقاوم محاولات مسح كيانها وتهميشها، مدركة في النّهاية أنّ هذا ليس هو الحبّ، وتعلّمت كيف تخفي دمعها وتدير ظهرها لكلّ ما آلمها.
كان لقاء التّعارف بين إيفيت وابنها سامي وآدم ووالدته في صباحات أيّام الآحاد في الكنيسة بعد رحيلها إلى الأردن. توطّدت علاقة آدم بسامي الّذي كان في مثل عمره تمامًا، وتكرّرت زياراته لبيت سامي وتعلّق به فوجد فيه كلّ ما افتقده في بيته، الهدوء والخصوصيّة والأناقة، والأمّ الّتي يستطيع أن يجدها دائمًا ويخطفها من كتاب بين يديها لتستمع إليه. ومرّت السّنوات وثلاثتهم يكبرون معًا. كانت إيفيت أمّ سامي لا تشبه أمّ آدم في شيء. كانت مثالًا للمرأة الجميلة النّاعمة الرّقيقة المثقّفة المتعلّمة، بعكس أمّه الثّرثارة الّتي تقضي معظم وقتها مع صديقات المطبخ الدّائمات. هكذا بدأ افتتان آدم بإيفيت كأنّه كان يبحث عن الأمّ فيها، مقارنًا بينها وبين أمّه. كانت علاقته مع أمّه بعيدة باردة، فكم من مرّة اشتاق إلى أن تحضنه ورفضت بسبب انشغالها في بيت كثير الأنفار وكثير الصّخب العائليّ، فينزوي خائبًا متعطّشًا للحبّ والدّفء. كبُر آدم وأصبح مثل جاد في عدّ سباياه من النّساء. آدم هو رمز لكلّ الرّجال، ولذلك سمّته آدم. تقول إيفيت عنه: “هو مجموعة كاملة من الرّجال، يملك الطّيش والحكمة والمكر والطّيبة والطّفولة والذّكاء والجشع والاكتفاء. هو رجل مختلف في كلّ حكاية، لكنّ نهايات حكاياته متشابهة دائمًا، يسلك طرقًا يسلكها معظم الرّجال للوصول إلى النّساء، الاهتمام والإعجاب والطّيبة والشّهامة والتّدقيق في التّفاصيل والاستماع الجيّد في بداية الأمر، بالإضافة إلى عذاب عاطفيّ يجعل منه محطّ اهتمام النّساء وعطفهنّ”. توطّدت الصّداقة بين آدم وإيفيت، فأمست صديقة له تعي أسراره والقلوب المعذّبة خلفه. وكان آدم يأتمنها على أسراره وعلاقاته العابرة، مردّدًا أمامها أنّ “أوجاعه أوجاع حالم يبحث عن الحبّ ولا يجده”(198-199). أمّا هي فأخذت تشاركه بقصّة حبّها لعمر. وحده من باحت له بسرّها، الحكاية الّتي لم تكن تجرؤ على الكلام عنها أمام سامي. احتاجت إيفيت إلى شخص يشبهها لتبوح له بهواجسها وآلام حبّها، فاقترب آدم من أعماقها حتّى وجد نفسه واقعًا في حبّها، وهنا ينجح في التّطهّر من علاقات الجسد، ويرقى في الحبّ ويدرك أنّ “الرّجل أنانيّ في علاقاته مع النّساء إلى أن يحبّ الحبّ الحقيقيّ”. وفي يوم ميلادها الأربعين يهديها لوحة. هي اللّوحة الّتي تشتريها الرّاوية من كاهن الدّير وتطلق عليها اسم كارمن.
لم يحتمل سامي فكرة حبّ أمّه وصديقه وزواجهما، وتطلب زوجته الحامل الطّلاق فيهرب إلى الولايات المتّحدة. تموت زوجته بعد الولادة، وتبقى الطّفلة مع جدّتها إيفيت وآدم وتطلق عليها اسم يبوس. رضخ سامي لقوانين المجتمع فهرب من نظرة الازدراء الّتي كانت تلاحقه. أمّا إيفيت فتدرك أنّها لم تكن حرّة في علاقاتها حتّى مع سامي، وأنّها كانت تحت وصايته. كانت تنفذ ما تمليه عليها مشاعر الأمومة لأجل الحفاظ على الهالة المقدّسة حول الفكرة الموروثة للأمّ. والحفاظ على تلك الهالة المقدّسة كان يتطلّب منها إخفاء حاجات الأنثى ويجعلها الطّرف الأضعف بأيّ علاقة عاطفيّة. عبء القداسة منع عنها أن تكون بشرًا، فتنسى، مثلما نسي سامي، أنّها تحتاج للحبّ والدّفء. “وهذا هو السّبب الّذي غذّى وسمّن الوحش السّلطويّ داخل سامي الّذي كان يكبر ليسحب البساط من تحت قدميها”(247). وما معنى أن يسحب البساط من تحت قدميها إن لم يكن سلبًا لحرّيّة قرارها واستقلالها؟ وما معنى أن يرسمها حبيبها آدم وهي تجلس على بساط؟ يعني أنّ جلوسها على البساط، مثلما رآها آدم، دلالة إلى أنّ إيفيت استعادت بساطها في النّهاية، أي استعادت حياتها الّتي سلبت منها، استعادت حرّيّتها واستقرارها وجلست على “بساطها” بكلّ ثقة.
معنى اسم إيفيت حَوّاء، وحوّاء عطاء الحياة، الواهبة للحياة، أمّ كلّ حيّ. والمرأة هي الوطن والحياة والخصوبة، وهي في النّهاية حوّاء، واهبة الحياة. اسمها يدلّ عليها، فقد بدأت حياتها من جديد، رافضة قداسة الأمومة الّتي سلبتها حقّها في الحبّ والوجود، لكنّها لم تتنكّر لأمومتها، في حين يتنكّر سامي لها ولحقّها في الحبّ. بحثت عن حياتها فوجدتها مع آدم الّذي أحبّها وقدّرها رغم فارق العمر والسّنين، فوجدت فيه وطنها وميلادها. هكذا بُعثَت لتبعث الحبّ. إنّها ولادة ثانية، بل هي ولادتها الحقيقيّة، فبالحبّ يولد ويحيا الإنسان. برأيي، ليس عبثًا أن تختار الكاتبة اسم آدم وإيفيت/ حوّاء. وكيف يكون عبثًا وهي تتناول بآليّة التّناصّ أسباب طرد آدم وحوّاء من الجنّة؟ ولعلّنا نجد ما يؤكّد ذلك في قول كارمن: “الحياة فكرة متخيّلة نحاول أن نتفاداها لكي نعيش، والأبد هو الإيمان بجدوى تحويل الفكرة من خيال إلى باب حقيقيّ نريد الدّخول منه إلى البداية، إلى ما قبل الطّرد من الجنّة”(281). إنّ ربط اسم حوّاء بآدم يرمز إلى ضرورة إعادة بناء الحياة وبعث المعاني الحقيقيّة للمسمّيات، ودون تشويه. والأهمّ عند الكاتبة هو الحبّ، الحبّ الّذي تشوّه بفعل مادّيّة الإنسان وبشاعة سلوكه، وبشاعة الذّكورة المتسلّطة. تريد الكاتبة بعث آدم من جديد إلى ما قبل الخطيئة الأولى. كأنّها تتوق لأن يعود آدم إلى الأصل قبل هبوطه من عالمه العلويّ من الجنّة، حيث كان منزّهًا عن كلّ العلاقات الدّنيويّة، متجرّدًا من كلّ الموروث الذّكوريّ السّلطويّ، ولا يعتبر الحبّ معركة من الرّبح والخسارة، بل يرقى إلى الحبّ السّماويّ بعيدًا عن الحبّ الأرضيّ المادّيّ، الحبّ النّقيّ الخالص حيث تكمل المرأة الرّجل، ويكمل الرّجل المرأة، وذاك يكون في طريق واحد فقط، طريق الحبّ، هو طريق باب الأبد. وكأنّي بالكاتبة تعيدهما إلى هناك بعد أن أدركا ذاك النّور، أي نور الحبّ الحقيقيّ. وعليه، لا تصل ثورة صونيا إلى درجة إقصاء الرّجل ورفض الزّواج، لكنّها تكشف أوراق الرّجل كاملة. لا تريده زير نساء ولا تريده كشهريار يحمل السّيف للنّساء، بل تريده عاشقًا، صديقًا، حاضنًا لعذاباتها، يكملان بعضهما دون خضوع طرف لسلطة الآخر. هناك في باب الأبد هما متكافئان متساويان متحابّان ومتشابهان. معًا يصنعان الحياة والولادة. ولهذا لم يكن عبثًا أن تشير الكاتبة إلى أنّ إيفيت كانت تحتاج إلى شخص يشبهها. وآدم يشبهها ببحثه عن الخلاص من عذاباته، ثمّ التّطّهر والارتقاء بالحبّ. يشبهها كذلك بممارسته للكتابة والرّسم وعشق الفنون. وكلّ هذا يتكشّف بقوله عن إيفيت: “يدها الّتي كلّما كانت تمتدّ لمصافحتي يعمّ السّلام في روحي وأشعر بجروح المسيح تتفتّح في جسدي مثل الورد، كنت على استعداد وأنا لم أبلغ العاشرة من عمري بعد، أن أحمل صليبي وأصعد إلى أعلى جلجلة في المدينة لكي أمنح ذلك الجسد المعذّب الخلاص وتلك اليد النّاعمة يدي، تلك اليد الّتي كانت كلّما تمتدّ لتصافحني في قدّاس الأحد تدسّ بين أصابعي النحيلة الكلام، فأعود لأبحث في البيت عن زاوية لأختبئ فيها وأكتب”(174-175). هكذا يحيا آدم وإيفيت معًا إلى أن يصاب آدم بمرض فيفارق الحياة، فتفارقها إيفيت بعده بيوم واحد دون أيّ سبب، بل من فرط الحزن على فقدانه. ولعلّ ذلك دلالة لفقدان الحبّ، فقدان الدّافع إلى الحياة واكتمالها، فإذا فُقِد الحبّ ومات المحبوب انتهت الحياة وقيمتها بزواله.
ينتصر الحبّ كذلك عند سامي ابن إيفيت. سامي الّذي أنهكه المرض يتزوّج من جانيت في دار المسنّين في الولايات المتّحدة، قبل موته بسنة. كانت جانيت في السّابعة والسّتين وسامي يصغرها بسبع سنوات. كان سامي في ليلة زواجه من جانيت، مثلما تصف الرّسالة الّتي أرسلتها جانيت إلى ابنته يبوس بعد عام من وفاته، يلبس كنزة خمريّة اللّون. وما اللّون الخمريّ إن لم يكن رمزًا للحبّ؟ ذاك اللّون كانت تعشقه أمّه إيفيت وتستخدمه في بيتها ليحيط حياتها بالحبّ وتوحي به. لقد تماهى سامي مع أمّه بفعل الحبّ، فأدرك حاجتها وتحرّر من نقمته عليها وعلى وآدم، ثائرًا على ما قام به من قمع لحرّيّة اختيارها في الماضي، فتحرّر وسما. أمّا جانيت فكانت ترتدي فستانًا برتقاليّ اللّون. والبرتقاليّ لون من مشتقّات الأحمر، دلالة الحبّ. ليس عبثًا أن تختار الكاتبة هذه الألوان في هذه اللّيلة بالذّات وتسلّط الضّوء عليها. تخبر جانيت يبوس أنّ سامي والدها قد حصل على ملفّ بعنوان “يوميّات آدم”، أرسله آدم لسامي منذ مدّة قصيرة تسمّى “بعد فوات الآوان”، لكنّها تتابع قائلة: “هذا الآوان قابل لأن يتجدّد دائمًا طالما أنّ القدرة على الغفران ممكنة. والدك وأنا على أعتاب الخروج الأخير من هذا العالم، مفعمان بالحبّ الّذي حلّ بيننا، ممتنّان له على إنقاذنا من الخروج المحمّل بالأحقاد والغضب في اللّحظة قبل الأخيرة لهذا الوجود. كان والدك قد قرأ ذلك الملفّ قبل عدّة سنوات حين وصله من كاهن الدّير ولم يزده إلّا حزنًا وغضبًا، لكنّ قراءتنا معًا لهذا الملفّ مجدّدًا والحبّ ثالثتنا وهبت لقلبه المتعب الرّاحة والغفران، وهو يقرأ من زاوية الحبّ عوضًا عن القراءة من زاوية الضّرر الّذي حلّ عليه بسببه. ليس من السّهل فهم ما يريد الحبّ قوله إن كان الحبّ لا يملأ كيان من يقرأ أو يسمع”(167). حين امتلأ قلبه بالحبّ تخلّى عن انتهازيّة الأبناء فغفر لأمّه وسما بروحه. سامي الّذي تمسّك بمفهوم تقديس الأمّ الموروث ومنعها من ممارسة حياتها أدرك أخيرًا أنّ القداسة تضع المرأة في الأمّ داخل الإطار، أدرك أنّ أمّه الّتي ضحّت لأجله سنوات طويلة من عمرها هي إنسان أوّلًا، يحبّ ويعشق ويخطئ، لكنّ أنانيّته وضعتها داخل هذا الإطار المقدّس، فسلب حقّها في الحبّ وسلب حرّيّة قرارها. لم تكن صدفة أن تختار الكاتبة أن يحبّ سامي امرأة تكبره بسنوات، فالكاتبة تؤمن بأنّ القدر ليس إلًا صدفة، فتصنع هي قدر أبطالها. ولعلّ ذلك يأتي درسًا لشخصيّاتها وعبرة للقارئ. فلا شيء يحدث عبثًا في هذا الكون، وإنْ كان الكون ذاته عبثيًّا فوضويًّا. لقد علّمه الحبّ درسًا في التّسامح واحتواء الآخر. فإذا كان سامي قد رفض حبّ أمّه لشابّ بجيله وأصغر منها، فها هو اليوم يجد خلاصه، وفي أقسى فترات حياته وعلى أبواب الموت، عند امرأة تكبره سنًّا. الحبّ منقذ من براثن الحقد، هو الوحيد القادر على تطهير الرّوح وتنزيه الإنسان من أعباء الكره والغضب، ورفعه إلى مراتب الإنسانيّة العظمى.
**بين كارمن وإيفيت
كارمن هي الحالة النّاضجة الأخيرة من إيفيت حين كسبت حرّيّتها واستعادت حياتها بالحبّ. تدخل اللّوحة لا لتكون سجينة فيها، بل لتخلّد، فهي لوحة بلا إطار. هي الوحيدة الّتي لم تفكّر الرّاوية في صفعها. ولماذا تصفعها أصلًا وهي مثال للحبّ المخلّد على باب الأبد؟ اسم كارمن يعني الأغنية والأنشودة المفضّلة، وهذا يدلّ على شخصيّة مفعمة بالحياة تتّسم بالتّفاؤل والثّقة والرّضا. وكارمن اسم على مسمّى. هي إذًا أنشودة الحبّ يغنّيها فقط من بلغ الحبّ. لا غرو إذًا بأن تجعلها الرّاوية لوحة تزيّن بها حائطها، فمثل هذا الحبّ لا يحدّث كثيرًا في عالمنا المشوّه.
ترمز إيفيت بهذا إلى الثّورة على كلّ ما هو مادّيّ انتهازيّ بشع من أجل بدء حياة نقيّة سامية من جديد. هي رمز لمن يبحث عن الحرّيّة في الحبّ الإنسانيّ النّقيّ بالعدل، الحرّ من كلّ الفوارق. فالحبّ لا تحدّده الحدود المكانيّة ولا الزّمانيّة، ولا المعتقدات ولا العمر، بل يوحّد بني البشر في الإنسانيّة ويساويهم في الوجود. لا قداسة لشيء إلّا للحبّ والمحبّة، الحبّ الّذي يمدّ جسورًا إلى احترام الإنسان وحرّيّته. والسّؤال الآن: لماذا تجلس كارمن/ إيفيت على بساط أزرق، وما دلالة هذا اللّون؟ إنّ الأزرق لون الثّقة والقوّة والكرامة والذّكاء والسّلطة، ويدلّ على السّلام والطّمأنينة والصّفاء. وهو لون الرّوح، هو روحيّ لا نهائيّ. وإيفيت وجدت سلامها الرّوحيّ وخلاصها، وارتقت نحو الحبّ، نحو باب الأبد، متصالحة مع نفسها، تتبع روحها إلى اكتمالها وتمنحها حرّيّتها. والأهمّ من هذا كلّه، أنّ الكاتبة اختارت اللّون الأزرق، برأيي، لأنّه لون السّماء، والسّماء علوٌّ وارتفاع، وهو دلالة الحبّ السّماويّ وليس الأرضيّ. وكأنّها تؤكّد أنّ واقعنا الملوّث الّذي يشوّه كلّ الأشياء ويسمّيها بغير معانيها بعيد عن هذا السّموّ. مع كارمن أدرك جاد الحبّ الحقيقيّ: “أحبّك دون تردّد وأعرف أنّ هذا هو الحبّ، نقيّ سماويّ”(94). كارمن وإيفيت هما من بلغتا الحبّ السّماويّ بعيدًا عن الحبّ الأرضيّ المادّيّ الجسديّ. وممّا يؤكّد هذا دلالة رمزيّة اللّقب الّذي منحه عمر لإيفيت: “الفراشة الزّرقاء”، والفراشة في النّصوص الصّوفيّة هو شعار لولادة جديدة. إنّه غالبًا ما يعني الرّوح الإنسانيّة الّتي تحرّرت من العالم المادّيّ لتدخل إلى الفناء في الله. وترمز الفراشة في الأساطير اليونانيّة إلى الخلود والمحبّة الأبديّة والفرح. وهذا يتوافق مع ارتقاء إيفيت بالحبّ إلى باب الأبد. ومن جهة أخرى يرمز الأزرق الّذي يحيط بكارمن وإيفيت إلى الحرّيّة والإبداع، وكارمن وإيفيت كانتا حرّتين مبدعتين.
تضع الرّاوية لوحة كارمن على حائط وردي اللّون، مقابل كنبة خمريّة. يتشارك الخمريّ والورديّ كذلك في بيت الرّاوية وإيفيت، وهما لونا الحبّ. هي الرّاوية، كمثل الكاتبة، تريد أن تحيا بالحبّ والرّضا بعكس سوداويّة سيوران الّتي تبدأ روايتها بها. ولذا ليس عبثًا أن تختار الكاتبة اسم الرّاوية “بسمة” الّذي يتكشّف لنا في الجزء الثّاني، فبالحبّ والبسمة والرّضا تعزّز هالة السّلام الرّوحيّ والطّمأنينة، وكأنّي بها تقول: من أدرك قيمة الحبّ خلد في الحياة، فباب الأبد لا يكون مفتوحًا إلّا للّذين أحبّوا الحبّ النّقيّ السّماويّ وأدركوا المنتهى. وبسبب الحبّ لم تمت إيفيت، بل تحوّلت إلى كارمن، إلى امرأة اللّوحة وخلدت، لتذكّر كلّ من ينسى أنّ الإنسان بالحبّ يخلد وتخلّد ذكراه. تقول كارمن: “أنا على هذا الشّكل لن أكبر، لن تطالني هموم الشّيخوخة وخوف المصير. أنا امرأة اللّوحة الّتي لا تلد ولا تولد ولا تشيخ، بكامل أنوثتي، عاقر ولا أمّ لي. أنا امرأة اللّوحة الّتي لا تعرف الخوف ولا الألم. أشبهك في كلّ شيء إلّا وجودي في هذا العالم”(279). كارمن في النّهاية ليست افتراضيّة بل تصلح لأن تكون أيّ امرأة بالكون، وتشبه كلّ النّساء المحرّرات من القيود، لكنّها قد تكون ممكنة في عالم آخر، وليس في عالمنا هذا بما فيه من قيود وتشوّهات، إذ تقول الرّاوية: “لا تصلح لأن تكون أمًّا ولا أختًا ولا زوجة لكنّها تصلح لأن تكون ابنة لكلّ الحكايات، وصورة النّيجاتيف لخيالات كلّ النساء. كارمن بجلستها الواثقة ونظرتها الّتي أرصدها رغم عدم تمكنّي من رؤية العينين امرأة هاربة من كلّ حدود الزّمان والمكان، متمرّدة على كلّ خطوط الوقت”(265). كارمن الّتي هي وجه آخر لإيفيت، قوّتها في أنّها تدير ظهرها. وفي هذا حصانة لها ومناعة. فإذا كان الوجه هو من يكشف ملامحنا، وإذا كانت العينان هي من تفضح ضعفنا وأسرار مشاعرنا، فإنّها تنجو بنفسها بقوّة، وتدير ظهرها استخفافًا بكلّ من يحاول سلب وجودها، رافضة إظهار ضعفها أمام أيّ شخص مهما كان. وفي الجزء الأخير تعترف الرّاوية أنّ كارمن كانت الأقوى في الكتابة. كارمن كانت أقوى بإخفاء مشاعرها ودموعها في حين كانت الرّاوية كثيرة البكاء بعكس اسمها “بسمة”.
**يبوس
يبوس هي حفيدة إيفيت، ترعرعت تحت ظلال الحبّ الخالص الّذي جمع جدّتها إيفيت بآدم فاعتبرته جدّها. يحدّثها آدم عن اسمها يبوس وعن إيمان جدّتها إيفيت بأنّ النّجاة ستكون هناك في تلك المدينة “يبوس”، أي القدس: “المدينة الّتي تهدّمت العديد من المرّات دون أن تفقد روحها ولا أنفاس الأنبياء الّتي تفوح من بين حجارتها. يبوس المدينة الّتي يعبّرها التّاريخ عوضًا عن عبورها فيه وترفض الانصياع لتجاعيد الوقت وتغيّرات المكان. يومًا ما ستطهّر تلك المدينة العالم كلّه بالعرق الّذي عصرته من أثواب الأنبياء وستغسل ذنوب العشّاق بالماء الّذي استحمّت فيه الآلهة، وستمحو أيّ التباس عن الأفكار البائتة عن الحبّ”(251)، “وحدها المدن المصابة بالحبّ من لا تنحني وترضخ لصلبها دون أن تموت” (252). كانت إيفيت قد اكتشفت مدى تشابهها مع القدس: “فكلتاهما قديمتان منهكتان متنازع عليهما، كلّ يريدهما لأجل الحبّ، وكلّ يعذّبهما لأجل الحبّ أيضًا، كلّهم يغادرون لأجل ما ينبغي أن يمنح طواعيّة ويريدون أن يسلبوه عنوة، لم يبلغوا الرّضا ولم تبلغ هي الطّمأنينة، عائلتها الّتي بالغت في الحماية والكون رغم كلّ ذلك متهوّر سخيف، وفيق الّذي أحبّها طفلة ولم يدرك أنّ الأطفال يكبرون، عمر الّذي سلب غفرانها له دون أن يمنحها الغفران على ذلك، وسامي الّذي تنبّه فجأة بعد أن عرف الحبّ أنّ لا حقّ لسواه فيه”(258). تقول يبوس: “قد يكون اسمي هو كلّ الحكاية، معنًى وفعلًا واختيارًا، فهو اسم المدينة الّتي سعيا لتحقيقها. يبوس هو مجاز للمدينة الّتي تجلّى عن جلجلتها مخلّص، وأسرى من قلبها نبيّ، والّتي سيشهد على ولادة اسمها الحبّ، يبوس هو اسم المدينة الّتي تقف على باب الأبد”(163). يبوس اسم من أسماء القدس القديمة نسبة لليبوسيّين المتفرّعين من العرب الكنعانيّين، بناة القدس الأوّلين. لم تجد الكاتبة أقرب من الأنثى إلى رمزيّة الوطن، ولهذا تعمّدت اختيار اسم “يبوس” للقدس، الاسم العربيّ. هكذا تقرن الكاتبة المرأة بالمدينة/ الوطن- القدس ببعد سياسيّ رمزيّ جميل يخلو من الشّعاراتيّة المبتذلة. كانت تسعى إيفيت وآدم لبناء مدينة الحبّ المخلّدة وتحقيقها على باب الأبد حيث الخلاص والسّلام والحبّ. والقدس هي مدينة الحبّ الّتي سعيا لتحقيقها. وهكذا، فإنّ يبوس، القدس، الاسم الّذي هو كلّ الحكاية، هو إشارة إلى حكاية الخلاص والسّلام المنشودة الّتي لا تزال القدس تنتظر الوصول إليها، هناك حيث ستشهد على ولادة الحبّ. وممّا يؤكّد هذه الرّمزيّة أنّ إيفيت تمنع من العودة إلى فلسطين بعد موتها، موكلة مهمّة استرجاع رفاتها إلى حفيدتها يبوس لتنقّله إلى المدينة الّتي تشبهها. إنّ منع إيفيت من الدّخول والعودة إليها إشارة إلى النّزاع الّذي لا تزال القدس تعيش في ظلّه، جريحة تنزف، لم تجد خلاصها بعد. فكيف يدخلها الحبّ إذًا(أي إيفيت- رمز الحبّ على باب الأبد) وهي، أي القدس، لا تزال تنزف حربًا وتتلطّخ بالدّماء؟ إنّ إيفيت في حبّها لآدم وسعيها للوصول معه إلى باب الأبد كانت تسعى لبناء مدينة الحبّ المخلّدة، بتطهيرها من كلّ العذابات والألم، لكنّها إلى الآن لم تستطع تحقيقها، إشارة إلى عدم إمكانيّة تحقيقها في ظلّ هذا الواقع، في ظلّ الحروب والنّزاعات. وإذا كانت إيفيت كالقدس، فإنّ هذا يذكّرنا لِمَ أكّدت الكاتبة استحالة وجود إيفيت/ كارمن في هذا العالم وأنّها لا تصلح له، مثلما ذكرنا آنفًا، وأنّها قد تكون ممكنة في عالم آخر، وليس في عالمنا هذا بما فيه من قيود وتشوّهات. إنّ هذه القيود والتشوّهات الّتي تحاصر إيفيت، هي تشوّهات الحروب والدّماء الّتي تشوّه القدس وتلطّخها. هكذا لن تتحقّق المدينة الّتي ستقف على باب الأبد، إلّا بحلول الحبّ والسّلام والعدل. وهكذا، يمسي الحبّ بين الرّجل والمرأة رمزًا ومعادلًا موضوعيًّا للسّلام المسكون بالمحبّة الإنسانيّة. تصبح الخطيئة بالتّالي، خطيئة آدم وحوّاء الّتي كانت سببًا في طردهما من الجنّة، رمزًا إلى سقوط بني البشر من سموّهم الإنسانيّ الأخلاقيّ بلهاثهم الأنانيّ خلف مصالح مادّيّة وانتهازيّة تشوّه إنسانيّتهم. في ظلّ هذا الخراب الّذي يسود البشريّة لا يبقى ولا يصمد إلّا الحبّ. الحبّ هو الدّواء الشّافي. هو فعل تطهير للنّفس والرّوح. هو وحده الّذي يصنع الحياة وهو الخلاص. تقول كارمن: الحبّ هو الضّوء الخافت الّذي يكفي لنستدلّ به على الطّريق”، نتوق إليه دائمًا حتّى عبر تشرّدنا وحيدين في هذا العالم. الحبّ نجمة مضيئة مكانها فوق هذا العالم البشع.. الحبّ هو أن نرى كلّ شيء جميلًا حتّى البشاعة في هذا الكون.. الكون هو من يدور حولنا إن نحبّ، ودون أن ندري نصير مركزًا لدورانه الجميل، الحبّ هو أن نرتقي لا أن نسقط”(56-57).
**في البعد الصّوفيّ
بدأت الكاتبة بسوداويّة سيوران ومقولته: “نحن في هذا العالم كي لا نفعل شيئًا”، لكنّها تتحدّاه بقولها: “تبًّا لك يا سيوران، لست في هذا العالم كي أنتظر خروجي من الباب نفسه الّذي جئت منه”. وكأنّها بهذا تؤكّد على خروجها من باب الأبد، من باب الحبّ، مستغلّة الرّاوية فتقول على لسانها: “أدرك اتّساع الفراغ في داخلي، لكنّني وبالرّغم من كلّ شيء أرغب أن أقابل وجه ربّي أو أن أذهب إلى نهايتي بكامل لياقتي وامتلاء روحي وفي مزاج جيّد”(12). ولا شيء يملأ المزاج والرّوح مثل الحبّ. منذ الصّفحة الأولى تكشف صونيا بمفرداتها عن صوفيّتها، عن تمسّكها بطريق الرّضا والسّموّ بالحبّ في جدليّة التّضادّ بين تشاؤم سيوران ورضا جلال الدّين الرّوميّ، بين جدليّة العتمة والنّور. وهي بأسلوب الميتا تعلن أنّها في هذا السّرد ستعيد النّظر في كلّ شيء كصّوفيّ مشتاق إلى الحقيقة. هو البحث إذًا عن الرّضا في ظلّ القلق، العيش “بنور ورضا أكثر من جلال الدّين الرّوميّ”(13). وفي تناصّها لجلال الدّين الرّوميّ ثمّ لشمس التّبريزيّ في موضع آخر إشارة واضحة إلى الصّوفيّة.
وبالعودة إلى المفردات واللّغة والتّناصّات الّتي تعتمدها الكاتبة في روايتها نلاحظ أنّها كثيرًا ما تستخدم مفردات من العالم الصّوفيّ، كالطّريق والله والنّور والرّضا والوصول والمنتهى والحبّ والحقيقة والأزل والخلود والرّحيل، وغيرها الكثير. وكثيرًا ما تذكّرنا بطريقة تناولها للحبّ بالحبّ الصّوفيّ. ولعلّ قولها على لسان كارمن ما يؤكّد ذلك: “نبدع إن أحببنا.. نقفل بابنا علينا وننام مطمئنّين آمنين.. ليست بمصادفة بريئة أن أكتب عن الله وعن الحبّ في الصّفحة نفسها من هذه الرّسالة، بل هو ارتباكي الأزليّ بالتّفريق ما بينهما، كلاهما الطّريق، وكلاهما البدء، وكلاهما الحقيقة الّتي لا نستطيع لمسها أبدًا”(62-63). ولمّا كان الحبّ أساس فلسفة التّصوّف فإنّها بدت مسكونة به في الرّواية، بل جعلته موتيفًا. كانت شخصيّاتها معذّبة بالحبّ، باحثة عنه. وفي حبّها قلقة لا تطمئنّ، كصوفيٍّ عاشقٍ. وعشقها رحلة من الألم والمعاناة والشّوق والارتقاء. فالحبّ الصّوفيّ لا يكتمل إلّا بالألم. ولا يصل الصّوفيّ إلى حالة التّطهّر من كلّ أدران الرّغبات الجسديّة إلّا بعد معاناة وحرقة.
نلمس كذلك تأثّرها من كتاب “قواعد العشق الأربعون” للتّبريزيّ، وكأنّها تؤكّد في روايتها على الكثير من منحى هذه القواعد وأفكارها، كالإشارة إلى أنّ الوسيلة الّتي تمكنّك من الاقتراب من الحقيقة أكثر تكمن في أن يتّسع قلبك لاستيعاب البشريّة كلّها، وأن يظلّ فيه مُتّسع لمزيد من الحبّ. ولعلّ هذا يذكّرنا بقاعدة أخرى، بأنّ السّعي وراء الحبّ يغيّرنا. فما من أحد يسعى وراء الحبّ إلّا وينضج أثناء رحلته. ولهذا نضجت شخصيّات الرّواية عندما أحبّت فتغيّرت وسمت وارتقت. كانت كارمن/ إيفيت “امرأة راحلة، تعرف أنّ خلاصًا ما سيكون بالرّحيل”(18). والخلاص يكون بالحبّ. كانت راحلة إلى تجربة صوفيّة في محاولة للبحث عن حالة جديدة في العلاقة مع العالم، علاقة روحيّة مفتقّدة مع الكون وحقيقته، كصوفيّ يبحث عن الجمال والوجد والطّبيعة والحبّ. يبدأ الصّوفيّ هذه التّجربة في ظلّ القلق والاغتراب، ليتمّ الرّحيل نحو طريق روحانيّ تطهّريّ. في رحلة الحبّ تسعى الرّوح نحو الكشف واليقين والحقيقة والنّور، تلغي حالة التّشتّت والاضطراب وتستبدلها بالصّفاء الرّوحيّ. يصبح الحبّ هنا خيارًا روحيًّا حرًّا، فالصّوفيّة تضمن للنّفس الأمن والطّمأنينة. وهذا الحبّ ليس امتداد غريزة، بل هو أصل العاطفة وأصل العقل. وهذا ما مرّت به شخصيّات الرّواية في طريقها للبحث عن الحبّ. وكلّ هذا قائم على إضعاف ذاتيّتها وأنانيّتها وقطع صلاتها المادّيّة بالعالم. ترى إيفيت أنّ الله كان حول آدم وحوّاء يرعاهما، فحيث يوجد الحبّ توجد الطّمأنينة والفرح، لكنّ آدم “لم ير أيّ طمأنينة حين كان يقبل واحدة، كان منشغلًا بالبحث عن السّرير، يفكّر في كيفيّة إقناعها بالاستسلام له”، لتؤكّد له إيفيت “أنّ هذا ليس حبًّا، بل العشّاق الأكثر إيمانًا هم من يفتقدون الصّلة بالعالم”. وفي اللّحظة الّتي يدرك فيها آدم حبّه لإيفيت ويبلغه مقتربًا منها أكثر يدرك أنّه فقد صلته بالعالم، عالم الجسد. وهذا هو الحبّ الصّوفيّ، حين يسمو الإنسان ويرتفع عن كلّ مادّيات الأرض يصفو قلبه ولا ينبض إلّا بالحبيب. مع كارمن أدرك جاد معنى الحبّ الحقيقيّ: “هذا هو الحبّ، نقيّ سماويّ”(94)، وإن كنّا لا نعرف إذا بلغ تلك الدّرجة من التّطهّر ووصل باب الأبد. أمّا مع إيفيت فقد تطهّرت روح آدم وتخلّى عن أنانيّته في علاقاته مع النّساء، وارتقى إلى الحبّ الحقيقيّ. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المتصّوفة لا ينكرون الجسد، بل يؤمنون بالحبّ الجسديّ على أنّه مرحلة في الطّريق إلى الله، وأنّ الحبّ عندما يبدأ فإنّه يكون بين البشر، ويتسامى مع التطوّر العقليّ للإنسان حتّى يصل إلى أرفع أنواع الحبّ، وهو حبّ الإنسان لله تعالى. إنّ الحبّ في هذه الرّواية ليس مادّيًّا جسديًّا محضًا، وليس روحانيًّا وجدانيًّا محضًا، لكنّه يسمو على المادّة ليصل إلى الحبّ الأسمى. وهذا لا يتمّ إلاّ بتحرير الرّوح من سطوة الجسد وأنانيّة غريزته. القوّة والسّيطرة والهيمنة هي هاجس الرّجل الّذي يركض وراء عدّة نساء وليس الحبّ لامرأة واحدة، فهو يبحث عن علاقات مادّيّة شهوانيّة، عن حبّ “أرضيّ”، يسطو فيه الجسد دون الرّوح. أمّا الحبّ الخالص فهو ذاك المعنى النّقيّ، “الحبّ السّماويّ”، يرتقي فيها الجسد لأجل حبّ امرأة واحدة، معها وبها، تكتمل حياته.
وعليه، ترى الكاتبة ضرورة الحبّ في الحياة كموتيف إنسانيّ بالدّرجة الأولى، إضافة إلى كونه أحد أهمّ مقوّمات علاقة الرّجل بالمرأة. تراه ضرورة لانبثاق الحياة واستمرارها، وكأنّي بها تتوق لزمن تدين فيه الشّعوب لدين الحبّ والمحبّة الإنسانيّة، كصوفيّة ابن العربيّ، فتدين الواقع القذر، لا تصمت ولا تنسحب ولا ترضخ، بل تسعى متشوّقة إلى الخير والحبّ والجمال.
** في ميزات الشّكل والأسلوب
تنتمي الرّواية إلى ما يسمّى “عبر النّوعيّة”، إذ توظّف الكاتبة في روايتها تقنيّات تقوّض جنس الرّواية. تنتهك نقاءها النّوعيّ وتجعلها هويّة متعدّدة الفنون من خلال المزج بين الرّسائل والتّناصّ والميتاقصّ وتعدّد الأصوات والرّمزيّة والتّضادّ والغرائبيّة ومزج الواقع بالخيال وتوظيف تيّار الوعي وآليّاته، وتهجين اللّغة واعتماد اللّغة الشّعريّة المجازيّة والمزاوجة بين الفصحى والعاميّة وزجّ كلمات وعبارات باللّغة الإنجليزيّة. إنّ توظيف هذه الآليّات الحداثيّة وما بعد الحداثيّة تمنح الكاتبة القدرة على تجاوز الواقع والتّوق إلى الحرّيّة. وقد يكون لإثبات قدرتها الإبداعيّة وإلمامها بهذه الآليّات أيضًا. هكذا يكون سعي الكاتبة إلى الانفلات من الشّكل الكلاسيكيّ ثورة على التّقنيّات الأدبيّة الذّكوريّة وأعرافها التّقليديّة، ومحاولة للوصول إلى موازٍ لحرّيّة المضمون بامتلاك حرّيّة الشّكل، فيمسي نصّها سردًا اختراقيًّا متمرّدًا غير تقليديّ.
قسّمت الكاتبة روايتها إلى ثلاثة أجزاء، فيظنّ القارئ في قراءته الأولى أنّ لا علاقة تربط بينها. إلّا أنّه في قراءة ثانية يدرك أنّ الرّواية بحبكتها المهشّمة المفتّتة مترابطة بإحكام. وكأنّ الكاتبة تدرك نظريّة “موت المؤلّف”- كما يقول رولان بارث- ودور القارئ الفعّال في ملء فجوات النّصّ وفكّ رموزه، حيث تريده شريكًا فعّالًا، لا مستهلكًا متلقّيًا، لتبعث روايتها إلى الحياة، وبناء على ذائقة القارئ الأدبيّة وثقافته.
من أبرز ما يميّز رواية صونيا أنّها كتبتها بأسلوب الميتا، الميتاكتابة/ الميتاقصّ. ونعني بالميتا القصّ الّذي يشتمل تعليقًا على هويّته السّرديّة، أي الكتابة عن الكتابة. الكتابة الّتي تشير إلى نفسها وتقدّم نقدًا وتأمّلًا ذاتيًّا لعمليّة الكتابة الإبداعيّة، فتموضع نفسها على الحدّ الفاصل بين القصّ/ الخيال والواقع. تلجأ الكاتبة إلى الميتا لأنّها توفّر لها فرصة للابتعاد عن التّقنيّات الفنّيّة التّقليديّة المعروفة، ساعية لتأسيس أعراف خاصّة بها. ولما كانت حرّيّة التّعبير ممنوعة على المرأة، ولما كان إبداعها مشبوهًا وخرقًا للأعراف، وتحدّيًا للمجتمع وذكوريّته، باتت الكتابة عن إشكاليّة الكتابة وحرّيّة الإبداع تحدّيًا لهذا المحظور وثورة عليه وسعيًا للحرّيّة. ولهذا، توظّف الكاتبة في روايتها أسلوب الميتا بكثافة واضحة، فتكتب عن الكتابة، وتكشف عن أسلوبها والطّريقة الّتي تفكّر بها. تكشف سعيها إلى كتابة رواية غير تقليديّة، ويتجلّى ذلك في قولها على لسان شخصيّتها المتخيّلة “نيتشه”: “نحن في مرحلة ما بعد الرّواية، ما بعد الخراب، ما بعد السّرد”(75). الأمر الّذي يبيّن إدراكها بأنّنا في مرحلة انتهاك الجنس الأدبيّ وتقويض نوعه. تمزج الكاتبة كذلك بين الخيال والواقع فيلتحمان، كاشفة عنه بأسلوب الميتا أيضًا، مؤكّدة أنّ الكاتب قد يعيش في عالم شخصيّاته الخياليّة ويتماهى معها. تكشف أيضًا بأسلوب الميتا كيف ألهمت يبوس الرّاوية بلقائها مصادفة بفكرة هذه الرّواية، وكيف جعلتها واحدة من أبطالها، وكيف أخرجت الرّاوية كارمن من لوحة معلّقة على الحائط في بيتها وجعلتها شخصيّة حقيقيّة على الورق، إنسانة لها وجود وتعيش قصّة حبّ مع جاد. هكذا يلتحم الواقع بالخيال على الورق. كما تصرّح صونيا أنّها استخدمت الشّخصيّات لتقول ما لا تجرؤ هي نفسها على قوله، كإحيائها لشخصيّة كارمن من وحي اللّوحة، واحتياجها إلى توظيف حيوان، الكلب “بيبو”، وجعله ينطق ويحاور كارمن، مصرّحة: “أحتاج إلى أن أزجّ كائنًا غير بشريّ بالرّواية لكي أثق به”(74)، مشيرة إلى أنّ توظيف الكلب هو لإتاحة الفرصة لإزالة كلّ معوّقات الكلام. وفي توظيف الكلب وإنطاقه غرائبيّة واضحة. تلجأ إذًا إلى تغريب النّصّ لتخرق المألوف وتبحث عن حرّيّة إبداعيّة في ظلّ حرّيّة مفقودة. استحضرت صونيا كذلك الفيلسوف “نيتشه”، فتقول بأسلوب الميتا: “بكلّ طواعيّة سأستدعي صديقًا افتراضيًّا وأسمّيه نيتشه ليدفعني على الاستمرار في الكتابة ويوقفني عن الثّرثرة المجانيّة”(20)، “اخترت اسمه ليكون اسم البطل الخفيّ في روايتي”(85). ثمّ تبيّن كيف تختار شخصيّات روايتها، كقولها: “مرغمة سأؤلّف رجلًا ليكون بطلًا لهذا السّرد، رجلًا واحدًا يصلح لعدّة نساء، ولن يكون من الصّعب علي كراوية وصف أدقّ التّفاصيل الّتي دفعته لتأليف كلّ أولئك النّساء وكسرهنّ، ثمّ تولّي مهمّة الدّفاع عنه إن اقتضى الأمر”(20). ثمّ في تفسيرها لماذا اختارت الاسم إيفيت، تقول: “أسميتها إيفيت لأقع في مطب رتابة الازدواجيّة والتّكرار السّاذج للثّنائيّات التّاريخيّة المعروفة، فلو كان اسم جدّ يبوس “عنتر” لأسميتها “عبلة”، ولو كان اسمه “روميو” لأسميتها “جولييت”(184)، مصرحة بأنّها تتحدّث بلغة إيفيت، الشّخصيّة المركزيّة، أو أنّ إيفيت تتحدّث بلغة الرّاوية نفسها: “الأمر الّذي قد يعتقده البعض مأزقًا كتابيًا إلّا أنّني اعتبره صدقًا بالغًا، حين أكتب عن امرأة أراها في اللّوحة أمامي كلّ يوم وأدّعي أنّني أعرفها جيّدًا، سينبغي لي الكتابة منها لا عنها، ولن أجد صعوبة في ترجمة اللّغة الّتي تجمعنا حتمًا، طالما أنّني أقضي غالب الوقت معها وأمامها ولا أستسلم أبدًا لمحاولات استدراجها لتقول لي ما أريد أن أكتب”(184). كما تبيّن الكاتبة كيف اعتمدت في الفصل الثّاني أسلوب السّرد الأقرب للواقع، حيث استبدلت الشّخصيّات الافتراضيّة بشخصيّات أخرى حقيقيّة.
ولمّا كان العنوان في المنظور السّيميائيّ العتبة الأولى في الرّواية، ومفتاحًا ضروريًّا لسبر أغوار النّصّ، وأسلوبًا ميتاقصّيًّا، كان العنوان “باب الأبد” عنوانًا موفّقًا، يشي بالمضمون ويتعالق معه حيث ورد عدّة مرّات في الرّواية. كانت العتبة الثّانية هي عتبة الإهداء، وهي تعتبر كذلك ميتاقصّيّة هامّة. تقول صونيا في الإهداء: “دائمًا إليّ…”. ولعلّ صونيا تقول: حان الوقت لأن أهدي نفسي ما تستحقّ. ولمّا كان الأجمل لدى الكاتب المبدع هو ولادة كتاب، فلِمَ لا يكون الإهداء لها؟! ومن جهة أخرى، كأنّي بها تقول: في ظلّ عالم يخلو من المحبّة والحبّ، لِمَ لا أهدي ذاتي أوّلًا؟! فإذا كانت الرّواية تعالج سقوط الحبّ وافتقاده لأصالة معناه، ساعية لبعثه وارتقائه السّماويّ، وإذا كانت الكاتبة قد تحدّت سوداويّة سيوران مؤكّدة له أنّها ستدخل إلى الدّنيا من أعمق أبوابها، باب الحبّ، فلِمَ لا يكون الحبّ، وحبّ النّفس بهذا الشّكل البعيد عن النّرجسيّة هو المنشود، وهو الطّريق والمنتهى؟ من يقرأ الرّواية يدرك أنّ إهداءها ليس أنانيّة أو نرجسيّة بقدر ما هو تقدير للذّات، تقدير تحتاجه النّفس دائمًا. وما أحوجنا إلى صدق التّقدير في زمن بات الرياء والنّفاق والأنانيّة فيه أسيادًا! لقد حان الوقت أن تحبّ نفسك وتهديها ما تستحقّ دون أن تنتظر ذلك من أحد. وأجمل الهدايا تلك الّتي لم تأت بعد. وليس أجمل من يهدي إلى نفسي من نفسي، وليس هناك أعرف من نفسي بما أحبّ أكثر من نفسي. ولعلّ الكاتبة، بهذه الرّواية الأولى، كانت تشتهي اكتمالها وإصدارها، فهي روايتها الأولى بعد مجموعات شعريّة. أوَ قد تكون هي الهديّة الّتي كانت تشتهيها دومًا ولمّا تصل إليها؟! وهل هناك أجمل من هديّة صنعتها يداها بمهارة وبعد طول تعب وانتظار؟! ولمّا كانت الكتابة حياة وصنعًا للحياة عند الكاتبة المرأة في مجتمع ينتقص منها هذا الحقّ في الإبداع ويشكّك فيه ويسلب حرّيّتها في صنعه، فلا غرو أن تكون الرّواية هي الهديّة الأجمل لدى المرأة المبدعة.
ممّا يقوّض حدود جنس الرّواية الأدبيّ والحبكة التّقليديّة استخدام أسلوب الرّسائل. تعتمد الكاتبة هذا الأسلوب كوسيلة تستطيع من خلالها منح الشّخصيّة القدرة على البوح والكشف عن دواخلها وهواجسها بصدق، والتّركيز على صوتها الدّاخليّ العميق في مكاشفة صريحة دون تصنّع أو مواربة. لم تكن الرّسائل إلّا وسيلة يكشف من خلالها جاد وكارمن عالمهما الخاصّ الحميميّ الذّاتيّ. هو أسلوب الكتابة من الذّات، مناجاتها ومونولوجها الدّاخليّ. يتيح فرصة أكبر لكشف صراع الشّخصيّات، مع ذواتهم ومع الآخرين، كاشفًا عن التّصوّر الذّاتيّ للشّخصيّة وعن وضعها الوجوديّ ورؤيتها الخاصّة للعالم. وهذا يتوافق مع فكرة التّشريح الّتي صرّحت بها الكاتبة. وكأنّ الكاتبة، ولأنّ العالم الخارجيّ أقرب لأن يكون حكرًا على الرّجل بحكم سلطته وقمعه، اختارت تفكيك وتحليل وتشريح العوالم الدّاخليّة، والغوص في باطن النّفس البشريّة.
توظّف الكاتبة كذلك آليّة تعدّد الأصوات، ممّا يعني تفتيت زاوية السّرد وتوزيعها على شخصيّات مختلفة. الأمر الّذي يؤدّي إلى زوال الرّاوي الأحاديّ، العليم بكلّ شيء. تمسي الرّواية مجموعة أصوات هي رؤى مختلفة تشكّل المادّة السّرديّة، وتقدّم من وجهات نظر مختلفة. تتحدّث كلّ من الشّخصيّات بصوتها وبضمير المتكلّم لخدمة أسلوب البوح وكشف المشاعر والهواجس. تتوزّع الرّواية في معظمها على أصوات كلّ من الرّاوية وكارمن وإيفيت وجاد وآدم. ممّا يدلّ على أنّ المرأة لا تريد إقصاء الرّجل، بل تحفظ له سلطة السّرد وحصّة من الوجود. إنّه سرد نسويّ يحترم الرّجل ويريده حاضرًا في حياة المرأة ويسمع صوته. وهي بذلك تؤكّد على وجوب حضور الرّجل في حياة المرأة، فالحبّ يحتاج إلى طرفين، ولا حياة بلا حبّ. وهذه رسالة خلق آدم وحوّاء. وأخيرًا يجدر بنا أن نذكر كثرة التّناصّات الّتي توظّفها الكاتبة في الرّواية، وهي كثيرة ومن مجالات عديدة ومتنوّعة، وللأسف لا نستطيع حصرها كلّها والوقوف عند أغراضها ودلالاتها في هذا السّياق، لكنّنا كنّا قد أشرنا إلى قسم كبير منها خلال بحثنا في قضايا أخرى. كما لا غرو أن نجد مبنى الرّواية مهشّمًا متشظّيًا لاعتماد الكاتبة على تيّار الوعي وآليّاته من الاسترجاع والمونولوج والاستباق وأسلوب القطع والفجوات أو الحلقات المفقودة زمانيًّا ومكانيًّا.
إنّ توظيف هذه الآليّات الحداثيّة وما بعدها، والّتي تهدف إلى لجوء النّصّ إلى ما هو رمزيّ وشاذّ وغير مألوف ومزج عالم الواقع بالخيال، المنطقيّ بالغرائبيّ، كلّ هذا ساهم في كسر التّتابع الزّمنيّ وشوّش الحبكة، وجعل النّصّ غامضًا. إنّ تشويش الحبكة وتهشيمها مرآة تعكس الواقع نفسه، فالواقع مشوّش وغامضّ وعبثيّ وفوضويّ. الأمر الّذي يكشف عن تجانس الشّكل بالمضمون وتناغمهما، فيكون الشّكل تعبيرًا فنّيّا وشكليًّا للواقع المتشظّي. وكأنّ تفتيت الحبكة والبحث عن الحرّيّة على صعيد الشّكل الفنّيّ هو انفتاح وحلم بالحرّيّة على صعيد المضمون. أو كأنّ تهشيم الحبكة ليس إلّا انعكاسًا للرّوح المنكسرة والقلقة للكاتبة في ظلّ هذا الواقع المشوّه الّذي لا يزال يهوي بعيدًا عن باب الأبد.
(ألقيت المداخلة في نادي حيفا الثقافي في أمسية إلاشهار بتاريخ 24.10.219)