أدب الحركة الأسيرة، باسم خندقجي نموذجًا
تاريخ النشر: 13/11/19 | 7:40تحيّة حيفاويّة لنابلس وأهلها، نابلس التي أنجبت إبراهيم وفدوى طوقان وسحر خليفة وبسّام الشكعة وغيرهم.
بدايةُ اسمحوا لي أن أشكر المنظّمين لهذه الندوة الأدبيّة على دعوتي للمشاركة، وهذا شرف لي أن أكون بينكم اليوم، وإقامة الندوة أقلّ الواجب تجاه أسرانا.
بدأت مشوار التواصل مع أسرى خلف القضبان ويكتبون لاهتمامي بأدب السجون، وهناك من بين القضبان سمعت من إحداهم نكتة بنكهة السخريّة السوداويّة القاتلة: “دخل أسير لمكتبة السجن سائلًا عن كتاب فأجابه السجّان: الكتاب ممنوع وغير متوفّر، لكنّ مؤلّفه في الزنزانة رقم 110”!!
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ كتبت الصديقة الكاتبة حنان بكير: “من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة”، وكتب أخي د. يوسف عراقي: “الحريّة هي حريّة الأفكار…بالرغم من أنّهم خلف القضبان فإنّهم أحرار بعكس الكثيرين خارج القضبان فهم أسرى بمواقفهم”. نعم، إنّهم أسرى أحرار رغم القيود اللئيمة!
يُعنى أدب السجون بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إن صحّ التعبير، “رواية السيرة الذاتيّة”. وأخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنّك إن فعلت، صارت رقبتك بيد جلادّك، وصرت تتقبّل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنّها قُبلة في خدّ الرضى، وقيل: ليسَ على هذه البسيطة، مخلوقٌ أشدُّ قسوةً وهمجيّة من الإنسان!
يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟ فهناك من كتب عن السجن دون أن يُعتقل أو يُسجن يومًا واحدًا، وهناك الكثيرون من السجناء كتبوا الرواية أو الشعر أو القصّة القصيرة وراء القضبان، دون تجربة سابقة ودون دراية بالكتابة وفنّها وأبدعوا.
جاء باسم خندقجي ورفاقه الأسرى كميل أبو حنيش، حسام شاهين، ناصر أبو سرور، وليد دقّة وغيرهم ليصرخوا: لدينا ما نقوله من الأدب الجميل الذي يستحقّ القراءة، بغضّ النظر ورُغم كوننا أسرى خلف القضبان فاقرؤونا واسمعونا ولا تُحابونا فلا نحتاج “رحمتكم” والتساهل مع كتاباتنا بسبب القضبان!
ظهر أدب السجون كنتاج الواقع القمعيّ وفقدان الثقة بالسُلطة، ليفضح النظام ويُعرّيه ويُحرّض القارئ ضدّه فيبحث عن فضاء من الحريّة وكشف المستور الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ، من خلال وصف وتوثيق التعذيب والمعاناة داخل السجن وكشف بشاعته وممارساته من وحدة ورعب وزنازين انفراديّة موحشة، وتعذيب نفسيّ وجسديّ وغيرها. وجاء باسم ورفاقه ليشرّعوا الباب والتعريف ليصبح أدب السجون الحداثيّ هو الأدب الجميل الذي يُكتَب خلف القضبان بغضّ النظر عن موضوعاته ومضامينه!
يواجه الأديب العربيّ ثالوث المسلّمات المقدّس: السياسة، الدين والجنس، ذلك الثالوث الذي يقيّد حريّته الإبداعيّة، حيث تَعتبر الدولة صوت المثقّف المعارض صوتًا مُحرِّضًا ضدّها، فتلاحقه وتقمعه جسديًّا وفكريا، فتصادر كتبه وفكرِهِ وقد يتعرض للاعتقال والسجن والتعذيب، وإلى المنفى، ناهيك عن فقدان مكان العمل والحرمان الديني والاجتماعي، ولم تُستثن المرأة من تلك الملاحقات.
صدق بسام البغدادي حين قال: “حريّة التعبير حقّك في قول ما يعجبك وحقّ الآخرين في قول ما لا يُعجبك”.
يُعنى أدب السجون بالأساس بالمواطن المقموع، وأبرزهم السجين السياسيّ المثقف الذي يسعى إلى التغيير، كما ورد في كتاب “شرق المتوسط” للروائي السعودي عبد الرحمن منيف ويمكن لها أن تُعتبر أوّل رواية عربيّة تنتمي لأدب السجون، وبفضلها تجرّأ الكتّاب على التطرّق لهذا النوع من الأدب، حيث تلاها سيلٌ من الروايات التي تُصنَّف تحت أدب السجون. تناقش الرواية الاعتقال السياسي، والقمع في الدول العربية دون تحديد أسماء أو مدن، لذلك كل عربيّ يقرأ هذه الرواية أياً كانت جنسيّته، يشعر وكأنها تتحدّث عن بلده، فالقمع هو الشيء الوحيد الذي يجمعُنا، هو علامة عربيّة فارقة مطبوعة على جبين كلّ المدن، معلّقة على أبواب البيوت، موجودة في كلّ مكان، في الشوارع، البيوت، الغرف، وقد تجدها في جيوبنا أيضاً، وتلتها روايات كُثُر في شتى البلدان العربيّة نتيجة المعاناة والكبت الفكري والجسدي ومصادرة الحريّات، فيُقال فيها وبحقّ الداخل مفقود والخارج مولود.
“أن تتعذّب أنت أهون من أن تسمع صوت الصراخ الإنساني ليلًا ونهارًا” مصطفى خليفة.
“نعم، كانت معنويّاتنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتنا هي أن نموت ميتةً فجائيةً تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين ينقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة ” هذا ما كتبه أحمد المرزوقي في روايته ” تزممارت، الزنزانة رقم 10 ” والذي يروي معاناة 18 عامًا داخل السجن وهناك تلقّى أشدّ أنواع العذاب. الرواية مؤلمة جدًا، ومن ضمن المواقف المؤلمة التي يتعرّض لها الكاتب، أن يوضع في قبر مظلم، ويُعطى الفُتات والماء المُلوَّث طيلة 18 عامًا، لا يرى أحدًا ولا يعلم بمكانه أحد!!! ما يتنافى مع قوله تعالى عن الأسرى في كتابه العزيز: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} . [الإنسان: 8]
“يا صاحبيّ السجن” للروائي الأردني أيمن العتّوم، والتي يروي فيها الفترة التي قضاها في سجون الأردن في مطلع التسعينات، رائعة إلى حدّ لا يوصف، ولا أبالغ إن قلت إنّ الرواية تجعلك تشتهي السجن ولو ليوم، ليس لرفاهيّته بالتأكيد، وإنما لروعة الخلوة بالنفس التي صوّرها الكاتب بإبداع! وهذا ما قلته له في لقائنا خلال معرض الكتاب قبل الأخير في عمان.
صدر قبل عدّة شهور كتاب جمر المحطّات للكاتب بسام الكعبي وافتتحه بمقدّمة شاملة وقيّمة حول أدب السجون؛ أبرزت جانباً واسعاً من أدب السجون في فلسطين والبلاد العربيّة، أوروبا وأميركا اللاتينيّة. تناول تجربة الشاعر الجزائريّ الرقيق البشير حاج علي التي سردها في كتابه “التّعسف” وتعذيبه في السجون الجزائريّة بأسلوب الخوذة الألمانيّة: حشر الرأس في خوذة حديديّة محكّمة ضيّقة، والطَرق فوقها بقوّة بشكل منتظم ولفترة طويلة؛ حتى يبدأ المُعتقل بفُقدان توازنه، وضياع ذاكرته بالتدريج. كُتب “التّعسف” على ورق الحمّامات، وهرّب النصّ إلى رفاقه عبر زوجته صفيّة، ممّا يذكّرني برواية الكبسولة للأسير كميل أبو حنيش. وتطرّق كذلك، وبشموليّة، لأدب السجون الفلسطيني وروّاده.
تجربة باسم خندقجي تجربة مختلفة ومُلفته للنّظر؛ فهو يقبع في السّجن منذ 02 تشرين أوّل عام 2004 (وطبعًا 2 نوفمبر هو تاريخ الشؤم للفلسطينيين، يصادف يوم تصريح بلفور المشؤوم، أساس نكبتنا) ولا يكتب عن تجربته فيه، وهو بذلك يختلف عن سجناء كُثُر كتبوا عن عالم السّجن وتجربتهم فيه، وتكاد أعمالهم تقتصر على تجربتهم ومحيطها، أمثال علي الخليلي الذي كان من أوائل من كتبوا عن أدب السجون في سبعينيات القرن الماضي وكتابه “المفاتيح تدور في الأقفال”، فيصل حوراني وكتابه “المحاصرون”، أصدقائي عائشة عودة في كتُبها “أحلام الحريّة” و”ثمنًا للشمس”، حسام كناعنة وكتابه “مرايا الأسر”، هيثم جابر، أسعد عبد الرحمن وغيرهم، وتساءلت حين قرأته: “لماذا؟” حين إلتقيته يوم 12 حزيران عرفت بداية الإجابة. إسمحوا لي أن أقرأ لكم ما كتبته حول تلك الزيارة:
كاسك يا “ميلاد”
تعرّفتُ إلى الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي؛ شاعر وروائي فلسطيني يقضي حكمًا مدّته ثلاثة مؤبّدات داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي وله العديد من الاصدارات الشعريّة والروائيّة ومنها ديوان “طقوس المرّة الأولى”، ديوان “أنفاس قصيدة ليليّة”، رواية “مسك الكفاية ، سيرة سيّدة الظلال الحُرّة” ، “نرجس العزلة” و”خسوف بدر الدين”، عبر رواياته التي تناولتُ بعضها.
التقيته صباح اليوم في سجن “هداريم” وقابلني بابتسامة طفوليّة بريئة (ابتسامة لم تُفارقه لساعتين ونصف) وقُبًلات عبر “الحاجز الزجاجيّ” البغيض فسألته، بغرض كسر ذلك الحاجز، عن سرّ الابتسامة السرمديّة، فأجابني بعفويّة: “أشعر أنّ اليوم عيد ميلادي لأنني سجين منذ خمسة عشر عامًا وللمرّة الأولى يزورني “غريب” بسبب كتاباتي، أشعر حقًا أنني اليوم أصبحت كاتبًا!!!”.
تحدّثنا كثيرًا عن كتاباته ومشروعه الأدبيّ، الاغتراب الثقافي، التطبيع، متابعته لما أكتب وأسلوبي في الكتابة، الرواية المحليّة وأدب السجون على تعريفاته: التقليديّة النمطيّة والحديثة، عن دور نادي حيفا الثقافي في تنشيط الحركة الثقافيّة في البلاد، إشهار روايته الأخيرة في بيروت وافتقاده لصورة والده، رحمه الله، في حفل الإشهار، حيث فارق الحياة وباسم يقبع خلف القضبان، الحياة داخل السجن وتعرّفه عن كثب على الجناح الآخر للوطن: كريم يونس، وليد دقّة وباسل غطاس وغيرهم، والابتسامة تلازمه كلّ الوقت، ووجهه الذي يشعّ حياةً وأمل، وعن نسيان وضياع قضيّة الأسرى.
عذرًا ايها الباسم، لقد خذلناك.
في طريقي خارجًا من غرفة المحامين لمحت الأسير كريم يونس يتحدّث مع محاميه، الذي كان متدرّبًا في مكتبي، استوقفني وتبادلنا أطراف الحديث وتطرّقنا لمقالة كتبتها عن الأسر ولوحة د. يوسف عراقي التي رافقتها، وكانت مفاجأة سارّة.
وعدت باسم أن نرفع نخب “ميلاد” الموعود قبالة بحر حيفا، وميلاده حتمًا سيكون فأل خير على الحركة الأسيرة، وها أنا أفي بوعدي.
لك عزيزي باسم أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، على أمل أن نلتقي في حيفانا الباقية حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، المدينة الصامدة الحزينة التي تنتظر عشّاقها المشرّدين في الأرض رغم الذلّ والعنصريّة والاحتلال وهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
حيفا 12 يونيو 2019
بدأ باسم بالشعر؛ شاركت في حينه ببرنامجٍ تلفزيونيّ حول أدب السجون برفقة صديقي الدكتور صالح عبود (ابن قرية عيلوط الجليليّة) وتحدّث عن خصوصيّة باسم الشاعر وتجلّيها في مجموعتيه الشعريّتين “طقوس المرة الاولى” و”أنفاس قصيدة ليلية” وأشار إلى أنّ تجربةُ السّجنِ والأسرِ بما تحملهُ من دلالاتِ القمعِ والتّعذيب والتّضييقِ، وهيَ تجربةٌ نضاليّةٌ ترفعُ رايةَ مقاومةِ الأسرِ والاستبدادِ فَتنتصرُ للحرِّيّةِ والإنسانيّةِ بالكلمةِ والسِّحرِ الحلالِ، في أحوالٍ تكتنفُ الأسيرَ وَتغتالُ فيهِ حركتَهُ وَتُسْلِمُهُ إلى صَدى السّكونِ.، يعالجَ حالتَهُ النفسيّةَ في سجنهِ بِداءٍ هوَ غايةُ كلِّ من رامَ انعتاقًا من ذاتهِ الحبيسَةِ في ضَنكِ يومِها، سَجينًا كانَ أم مُحرَّرًا، إذ قَمعَ وجعَهُ الظّاهرَ بِوجعٍ لذيذٍ يَستصرخُ من خلالِهِ غَزَلًا وَشوقًا لامرأةٍ تُعيدُ فيهِ أُنسَهُ التّائِهَ في صقيعِ الليالي المغمضَةِ وغربةِ النفسِ المتأرجحةِ بينَ قريبٍ يَنزعُ الدّمعَ منَ العيونِ نَزعًا، وبعيدٍ يَجمعُ فيهِ الشّجونَ جَمعًا.
“نرجس العزلة”؛
يصف باسم الكتاب بمنثور روائي “محض صدفة أو محض عشق”. انها رواية شاعر أحَب امرأة البدء ، لاجئة من قرية السنديانة قضاء حيفا، حبيبته الأولى وأوّل العشق وأوّل الدهشة وأوّل حيفا ،أحبّها وخذلته لتتزوج غيره وتعيش في الخليج، وعلاقته مع فاديا النابلسية المُغايرة، وحُبّه لامرأة الهويّة والدهشة الحيفاويّة التي يشتهيها ويقرر العزلة الحارقة ومن ثم يقرّر ألّا يزور حيفا لأجلها كما زار قرطبة ليصير شاعرًا بلا مدينة … بلا وطن… بلا شعر …
يتطرّق باسم، بجرأة نادرة على الساحة الأدبيّة الفلسطينيّة، إلى مهزلة أوسلو والرهان الخاسر على طاولة المفاوضات، ترويض القضيّة الفلسطينيّة ونضالها بواسطة منظّمات المجتمع المدني والأهلي، التنازل عن الثوابت وحقّ العودة المقدّس وضياعه، مأساة الاحتراب والاقتتال الفلسطيني الداخلي، ظواهر اجتماعيّة سلبيّة مقيتة ولا ينسى الاحتلال وجرائمه.
يتطرق باسم لانتفاضة الحجارة حين مارس الاحتلال اجراءاته التعسفيّة بحق العمليّة التعليميّة في الاراضي المحتلّة: إغلاق الجامعات والمعاهد والمدارس وحملة الاعتقالات العشوائيّة وحرمان الشباب الفلسطيني من الحياة الطبيعيّة العاديّة، كما يثير قضية معاناة الوطن من شُحّ المياه في القيظ وسرقة الاحتلال المستمرّة لمياهه، فلا يحق للفلسطيني حفر الأرض لاستخراج المياه الجوفيّة وغيرها. كانت فضاء من الطهارة والنقاء وسطوع المغامرة حين أصبح مهر العروس سنة أو سنتين سجن وأكثر!!! ووحشيّة الاحتلال وعنصريّته مقابل صمت العالم!
باسم، نصير المرأة، فهو يتذمّر من وضعها حين يقول: “هكذا هي نون النسوة في بلده وفي كل الوطن العربي، تراها بجانبك طفلة وعندما تكبر فأنت تكبر وحدك إلى أن تتفاجأ بغيابها سائلًا أين هي بحق السماء؟ اختفت…اختطفت … اغتصبت اغتصابًا شرعيًا ؟!” وينتقد “ذكوريّتنا المُفرطة” قائلًا: “مجتمع ذكوري مقيت وقاسي عليها، هي المرأة التي يجب أن ترتدي عباءة وخِمارًا يسترها عنهم ويسدّ رمق التلصّص في عيونهم لكي تعيش مختنِقة في تنافخ أحمق لشرفٍ مُزيّف مُموّه” (ص 47).
يتطرق باسم إلى الحيرة الأوسلويّة ويصرخ ضد المبادرات المغشوشة والتطبيع ويصفها ببناء للوهم ولحظات سُكر ووطن الأناقة السياسيّة والواقعيّة في غرف المفاوضات المغلقة ذات التكييف الهوائي الذي كان نتاجه ” مشروع دولة من اسمنت ومنح وقروض وطحين وتمثيلات ثقافيّة مُختلّة ومُشوّهة” (ص131) فعادت القيادة من الشتات بأضغاث حلم تجسّد على الأرض بأجهزة أمنيّة عديدة، وشبه الوزارات والحكومات والمجالس في وطن من وهم وفُرقة وطنيّة وعبث وفراغ يعاني أهله من أزمة في كل شيء وعلى كل شيء” (ص 61-62).
يتحدّى النظريّة الصهيونيّة السائدة والمهيمِنة عالميًا قائلًا: “ذلك المفهوم الوحشيّ الظالم، قدر شعبي أنا الذي دفع “دية الضحيّة” … لتتحوّل تلك الضحيّة ما بين مجزرة وتطهير عرقي إلى جلّاد مع سبق الاصرار والإجرام، تلك الضحيّة التي أحرقوها بإسم التقدّم والارتقاء الجرمانيّ النقيّ في معتقلات الوحشيّة وأفران الغاز، أحرقوها هناك، وما إن أخمدوها في أرضي حتى إحترقنا نحن. حرقوا قلبَ شعب بأكمله” ولذلك يرفض النهج المهادن صارخًا: “ها أنا وسط المبادرات المغشوشة والمسمومة بالسلام المزيّف، أرفض الاستماع إلى صوت السلام النشاز الذي يطالب بتطبيع العلاقة مع المحتلّ، هذا المحتل الذي يريد إحراق إنسانيّتي فكيف أسالمه؟!” (ص130) .”لست عنصريّا ولا متطرّفا، بل طفلا سرقوا منه لعبَته وقطّعوا ارجوحته واحرقوا طائرته الورقيّة”.
قلبت المفاوضات المعايير على الساحة الفلسطينيّة والاحزاب صارت انتهازيّة في زمن الردّة الفكريّة والتخبّط وغيّرت “من كان رجل حزب حاد وحازم، تغيّر دفعة واحدة بعد أوسلو، إمّا أصابته ضربة سلطة أو خذلان أصاب قلبه الثوريّ تحوّل من أقسى اليسار إلى أقسى اليمين” (ص 81) فيتساءل “هل كنّا أنظف صغارًا أم أنّنا حين كبرنا اتّسخنا لدرجة أننا نستحمّ في كلّ يوم ألف مرّة لكي تعود إلينا نظافة الطفولة” ؟
تحزّ في نفسه حالة الاحتراب الداخلي على وهم وخذلان في التيه وصراعات ونزاعات مريضة فيقول: “كان يؤكد على ضرورة البندقيّة دون عبث وفوضى، ربما رومانسيّة البندقيّة لا توتّرها وجنونها حين أشهرها الإخوة في وجوه بعضهم بعضا، وانتهكوا أسمى ما فيهم من قداسة وشرف ودم وحرام، هكذا تصارعوا على وهم ثم أقسموا على تقسيمه نفوذًا، قطاع محاصر ماديًا وميتافيزيقيًا ووطنيًا، وضفّة مزدحمة بالثغرات الأخلاقيّة والكانتونات والمستوطنات والطرق الالتفافيّة” بما لا يخدم القضيّة وكما صرخ صديقي الروائي عاطف أبو سيف في روايته “الحاجة كريستينا”: ” نتقاتل من يحرس بوّابة السجن لإسرائيل” فيخاطب بطل الرواية رفيقه الذي استشهد في سبيل القضية “ايّها الشهيد الأكرم والأشرف والأجمل منّا جميعا قم فابصق علينا واشتمنا فنحن لم نصن الدم ولا العهد ولا الحجر منذ أن سفكنا دمنا على دمنا” (ص62).
يتناول باسم جمعيات المجتمع المدني والأهلي ذات التمويل الغربيّ وترويضها للمقاومة. الوطن يختنق بكلّ أصناف منظّمات العمل الأهليّ التي تصرف بغير حساب على أمورٍ لا علاقة لها بشأن الوطن كما كتب صديقي الروائيّ سامح خضر في روايته “يعدو بساق واحدة” ، لتلك المنظّمات انعكاسات سلبيّة على المجتمع الفلسطينيّ كما تروي صديقتي ليانة بدر في روايتها “الخيمة البيضاء”. يرفضها باسم ويصفها بدكاكين مختصّة في التنمية المستميتة لتُصبح سلع وطنيّة رابحة راتبها الشهريّ بالدولار أو يورو أو كذبة، “في زمن “البروبوزل” والمشاريع ذات الربحيّة التي تستثمر في المعاناة الفلسطينية… في زمن الذين يفتخرون بشهادات ووصفات البنك الدولي” (ص 132)، فهذه الجمعيّات تعمل وِفق أجندة وشروط الجهات المانِحة والمموِّلة بالتوافق وإطار أوسلو السياسيّ ومكافحة “التمرّد”، أي المقاومة ، وجوهر مكافحة التمّرد يرتبط بالسيطرة على السكّان وقتل المتمرّدين والعمل كبديل لفشل الأساليب التقليديّة في إخماد اعمال المقاومة والثورة وهذه العقيدة مبنيّة على مفاهيم استعماريّة مصاحبة لحالات الحروب التي يفشل فيها التدخّل العسكريّ بالأساليب “الخشنة” فتتحايل باتّباع أساليب جديدة أكثر “نعومة” من أجل حسم المعركة وتنفيذ مشروع تفكيك للمجتمع متجاهلين حقيقة وقوع فلسطين تحت الاحتلال وضرورة العمل والتخطيط لتحريرها من ذاك الاحتلال البغيض وبالتالي تحطيم الانتماء الوطنيّ والقومي فيصرخ صرخته : “أخذلوني أكثر يا اخوتي حتى أعرّيكم واحدًا واحدًا بقصائدي” (ص 21).
يتمسك بقضيّته ووطنه وثوابته رافضًا عرض صديقته “باربرا” الانجليزيّة باللجوء والجنسيّة والجنس معًا لأن حيفاه تبقى حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، هي الوطن كله، لم تكن كامرأة البدء، كانت امرأة الهوية والدهشة، والبلاد كلّ البلاد، هي المدينة الصامدة الحزينة التي تنتظر عُشّاقها المشرّدين في الأرض رغم الذلّ والعنصريّة والاحتلال وهي التي تسكنك امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
يعاني وطن باسم من خذلان مزمن وتيه ويتخبّط بين الرصاصة وغصن الزيتون (ص 149) ويصل الى النتيجة الحتميّة بأنّه يتوجّب أن تكون زيتونة أولا ولكي تنتصر في الحرب عليك أن تكون رصاصة متفجرّة في وجه عدوّك ويقول: “البندقيّة يجب أن تكون حاضرة أيضًا.. لا بدّ من بندقيّة دومًا” ويصرخ صرخته المجلجلة: “عذرًا ايها الوطن لقد خذلناك”.
تحاشى النوح والبكاء والشكوى، وتحاشى استجداء رحمة القارئ وشفقته. فهذه كلّها من دلائل الهزيمة. والهزيمة عار على من سلّحته الحياة بالفكر والخيال فنراه يتوق إلى السير في ركاب الظافرين ويكره مماشاة المُنهزمين ووُفِّق في ذلك.
يلجأ باسم في روايته “مسك الكفاية- سيرة سيّدة الظلال الحرّة” إلى التّاريخ ولا يكتب عن عالمه، وحين تحدّثنا عن ذلك قال أنّه يضيف شيئًا جديدًا، فهو شخصيّا مُغرم بالتّاريخ وبالرّواية التّاريخيّة، تربّى في أحضان الرّواية التّاريخيّة التي أرضعه إيّاها والده المرحوم صالح خندقجي والمكتبة الشعبيّة النابلسيّة فأراد مواصلة الكتابة في هذا النّوع من الرّواية مع قيمة مُضافة.. ونجح في ذلك. كتب “مسك الكفاية- سيرة سيّدة الظلال الحرّة”؛ رواية تاريخيّة في فترة العبّاسية، حيث يكشف فيها النقاب عن دولة لم يستتِب لها الحكم إلّا بالدم، يصوّر الخيزران، بطلة الرواية، كشجرة شامخة سامقة عصيّة على الانكسار، شجرة ممتدّة بجذورها، وظلالها الحرّة، ورجال مغاوير متسربلين الفروسيّة والأصالة في زمن عَزّ فيه الوفاء وشحّت الشهامة وهوَت المروءات. كتب الرواية لمُحاربة التغيير والقمع فنجح بكشف العيوب ورأى من مهمّته عدم التستّر عليها، أعاد لنا التاريخ في رواية بأبعاد رمزيّة، كتب الحاضر بأحداث الماضي، فحاضرنا امتداد طبيعي لأحداث الأمس. ثار ضد قمع الانسان في كلّ زمان ومكان، وكأنّي به يرمز لحاضرنا بأسلوب حداثيّ بإمتياز.
حين التقيته يوم 31 تموز اقتربت من الإجابة أكثر. إسمحوا لي أن أقرأ لكم ما كتبته حول تلك الزيارة:
يافاوي يا برتقال
التقيته صباح اليوم في سجن “هداريم” وقابلني بتلك الابتسامة البريئة وكأنّي بالزمن قد توقّف منذ لقائنا السابق يوم 12 يونيو؛ عانقتُ باسم عبر ذلك “الحاجز الزجاجيّ” المقيت، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا ذاك الحديث وكأنّه كان بالأمس.
تحدّثنا عن طقوس كتابته والعلاقة بين الكاتب والمتلقّي، عن رسالته يوم 23 يونيو إلى قُرّاءه وتعميمها، تفاعُل جمهوره معها، فكانت بُعَيد لقائي به، والمرّة الأولى التي يتوجّه بدون نص أو قصيدة. وها هو يشعر لأوّل مرة منذ دخوله في درب الكلمات أنّ ثمة من يكترث لكتاباته، فمتابعيه هم متنفّس كلماته.
تحدّثنا كثيرًا عن مشروعه الأدبيّ المستقبليّ، عن ترشيح دار الآداب روايته الأخيرة “خسوف بدر الدين” لإحدى الجوائز، عن لقاء تلفزيوني في قناة مساواة حول أدبه كنت قد شاركت وصديقي د. صالح عبود تلك الحلقة والقصيدة التي نظمها له.
تناولنا يافا، رام الله وباريس وما بينهم، الرواية التاريخيّة الحديثة، عبق برتقال يافا يحلّق بالأفق، الابتسامة لا تفارقه، ومرّت الساعات بلمح البرق.
حدّثته عن فكرة مشروعي “لكلّ أسير كتاب”، وعن منتدى الكتاب الحيفاوي ففاجأني سائلًا: “ما هو كتاب لقاء اليوم”؟ فأجبته: جحيم دانتي والكوميديا الإلهيّة. هزّ رأسه وعبّر عن خيبته من عدم تمكّنه مشاركتنا اللقاء، فهو يقرأه كلّ كانون أوّل من كلّ عام منذ أسره… كلٌّ وجحيمُه.
لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في منتدى الكتاب الحيفاوي، وأعدك أن يكون اللقاء حول أحد أجزاء الكوميديا الدانتيّة؛ فحيفانا ستبقى حديقة الرب السريّة المُعدّة مسبقًا للعشق، امرأة الهويّة والدهشة التي تشتهيها، فهي التي تسكنك، امرأة من وطن ووطن بلا امرأة.
حيفا 31 يوليو 2019
“خسوف بدر الدين”؛ يسرد لنا باسم في الرواية الحدث التاريخيّ مطعّمًا بالأجواء الصوفيّة مرتكزًا على شخصيّة بدر الدين التي حيّر التاريخ والمؤرّخون بأمره، ليجعلنا نستنبط الحالة الإنسانيّة عامّةً، وحالتنا العربيّة والفلسطينيّة خاصّةً لرفض الوضع القائم والتمرّد عليه. يغوص في جدليّة الحياة: هل هناك جدوى من الرفض والتحدّي، وصفّ الصفوف وتجنيد الناس وراء فكر مهما كان ساطعًا مشرقًا إنسانيًّا وعادلا، أم أنّ في الدنيا توازنًا ما يفرضه الأقوياء؟ عندها هل تبقى لجذوة الكفاح نفس الجدوى؟ هو سؤال يخترق التاريخ والمستقبل، ويجثم على كاهل الحاضر. إنّه سؤال يُحرج الأيديولوجيّات المذهبيّة، السياسيّة، العلمانيّة والدينيّة، ويُعرّيها أمام النتائج، يجعلنا نتساءل: ما جدوى رفض القيم القائمة؟ ما جدوى التأرجح مقابل القبول؟ ما جدوى الرفض مقابل الرضوخ؟ هل نتقبّل الوضع القائم كما هو؟ وظّف باسم المدرسة والنهج الصوفي ليصدمنا بالحقيقة، كما يراها، يدور به القدر والزمن فينهار المجد، بخسوفه بدرًا من النور إلى العتمة، وفي خسوف القمر حركة دائريّة أدّت إلى حدوثه، ولولا الدوران لربّما بقي الخسوف، أو لربّما ما كان أصلًا. لهذا فالرواية تحثُّ على التغيير وعدم تقبّل الوضع القائم المرير، فالتغيير أفضل من الجمود، ولا بدّ أن يوصلنا لما نُريد: “ها أنت قد عدت إلى سيماونة شيخًا، لا بل معلّمًا، لا بل ثائرًا، بل ممسوسًا”(ص 304).
الرواية مليئة بالخيبات، تسعى شخصيّاتها إلى تحقيق ما تصبو إليه، ممّا يجعلنا نتساءل لماذا نحلم إن كانت الخيبة تتربّص هناك في طرفه، وهل هي واهنة وواهية إلى هذا الحدّ تلك الخيوط التي ننسج منها أحلامنا هذه؟ وهنا يوجّهنا باسم بحنكة إلى جدوى الإقدام، والتغيير، والرفض، والنيّة في البناء وعدم الاستسلام! فالصّوفيّ لا يبقى في بوتقتِهِ ومِحرابِهِ، بل يسعى إلى تحقيقِ العدل والمساواة!
نجد باسم حداثيًا قد خرج عن المألوف في رواية أدب السجون، ورغم سوداويّة الحياة نحن محكومون بالأمل، والأمل مزروع في كلّ طيّات الرواية رغم نهايتها المأساويّة، فقد مات بدر الدّين، دفاعًا عن مفاهيم تبعث الأمل في النّفوس، ودفاعًا عن العدل، دفاعًا عن المساواة، دفاعًا عن الإنسانيّة بكلّ معانيها.
قال لي الأسير ناصر أبو سرور: “الأديب يعيش أكثر من السياسي”، فالأدب يُعمّر أكثر من السياسة وتحفظه الأجيال وتتناقله بينما السياسة تموت على الغالب مع صاحبها، وتبقى كلمات أسرانا وكتاباتهم أبديّة.
إسمحوا لي أن أنهي بما كتبته حول زيارتي لباسم حين التقيته يوم 15 أيلول:
ابتسامة عالقة
التقيته صباح اليوم في سجن “هداريم”، قابلني بابتسامته الطفوليّة الملائكيّة التي ما زالت عالقة في ذهني وترافقني منذ لقاءاتنا السابق يوم 12 حزيران، واللقاء من يوم 31 تموز؛ عانقتُ باسم عبر الحاجز الزجاجيّ اللئيم، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وأكملنا حديثنا.
تحدّثنا عن قراءاته وكتاباته الأخيرة و”المُصادرة” الكتابيّة التي تبنّاها من إدوارد سعيد، حدّثته بدوري عن رواية “عليّ، قصّة رجل مستقيم” لصديقي حسين ياسين ووعدته بنسخة منها لقرب أسلوبها من مشروعه الكتابيّ المستقبليّ، وبشّرته أنّ أيمن صار أبًا!
تحدّثنا حول لقائي بعائلته في نابلس، تفاعل قُرّائه مع كتاباته،
خبّرني عن تشجيعه لزملائه الأسرى على الكتابة وضرورة النشر كمُتَنفّس لهم؛
أكملنا نقاشنا حول يافا، رام الله وباريس وما بينها، والرواية التاريخيّة الحديثة التي يوظّفها لنقل رسالته.
لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفا ونابلس وكلّ أرجاء الوطن ونكمل حديثنا، بدون زجاج وسمّاعات وحواجز.
الحريّة لكافّة أسرى الحريّة
حسن عبادي