مواطنون بين صاروخين
تاريخ النشر: 15/11/19 | 18:55جواد بولس
تتكرر سيناريوهات العبث في فلسطين وتتشابه مشاهد الفصول الدموية حتى التعب.
تتبدل أسماء الضحايا في شوارعها وتبقى غزة مفردة رديفة للوجع وللقهر. لم تشِخ ذاكرة الرمل على شواطئها الذهبية، ولم تهزم الريح موجها العنيد. لم يترك القدر لأهلها خيارًا إلا البقاء عند تخوم الأمل الأزرق، فينامون على موسيقى الفجر ورعد القذائف ولا يخافون عزيف الجن.
قبل أيام أفاقت غزة على صوت الموت، وعلى نثار الملح ينقر على خدود الغد. بعد دقائق من انتشار نبأ اغتيال إسرائيل للقائد في حركة الجهاد الاسلامي، بهاء أبو العطا، وقتل عدد من أفراد اسرته معه، غرقت فضاءاتها بسيل من أقلام المحللين والمعلّقين والمفكرين الذين أسهبوا في تحليل الحدث وفي وصف خلفياته واقتفاء غايات ودوافع بنيامين نتنياهو الشخصية من ورائه؛ فأجمع معظم هؤلاء على أنه اختار التوقيت الأمثل في محاولة جديدة منه للتملص من مواجهة القضاء ومحاكمته، وذلك من خلال تفعيل الضغوطات على جميع الأحزاب الصهيونية، خاصة على حزب “الأزرق والابيض”، وإجبار رئيسه، الجنرال جانتس، باسم حالة طواريء مختلقة ووهمية، على قبول خيار حكومة الوحدة الوطنية وفقًا لما طرحه رئيس الدولة رؤبين ريفلن .
ولقد زعم بعض الاعلاميين الإسرائيليين بأن قرار اغتيال القائد الجهادي أبو العطا كان قد اختمر في عقل نتنياهو ليلة العاشر من ايلول/ سبتمبر الماضي ؛ وذلك بعد ان أجبره حراسه على قطع خطبته الانتخابية التي كان يلقيها أمام مئات من داعميه في مدينة أسدود الجنوبية.
لقد تزامنت خطبته مع سقوط عدة رشقات صاروخية أطلقت من جهة غزة نحو مدينتي أسدود وعسقلان المتجاورتين، وأدّت تلك الهجمات إلى فتح الملاجيء والى احتماء المواطنين فيها.
كانت صور بنيامين نتنياهو التي بثت على جميع شاشات الفضائيات الاسرائيلية، وهو يُدفع ويبتعد بهرولة عن المنصة، ومناظر انفراط الحفل وهروب الحاضرين، مهينة له وجارحة لأناه المنفوخة ومناقضة لصورة “السوبرمان” التي عمل على ترسيخها منذ سنوات وحاول تسويقها لعامة الناس ورعاعها. لا شك ان هذه الحادثة قد أثّرت في قرار نتنياهو أو ربما قد حسمته.
في الحقيقة لا تعنيني دوافع نتنياهو فهي كثيرة وموجودة عنده أصلًا. كما ولا تهمني المسوغات التي استعرضها قادة الاجهزة الأمنية أمام حكومتهم واقنعتهم بضرورة تنفيذ عمليات الاغتيال واستعدادهم لادارة جولة من المناوشات الدامية الجديدة على حساب أهل غزة؛ فأنا مستفَزّ بالأساس من مواقف دول “شقيقة” عربية واسلامية بدأت تتدخل وتتلاعب في شعاب غزة؛ ومن مواقف حكومات وفصائل وتنظيمات محلية وشرق-أوسطية وعالمية آثرت الصمت أو اكتفت، في أحسن الأحوال، باصدار بيانات شجب خجولة؛ علمًا بأنها لو أرادت لكانت تستطيع التأثير على إسرائيل أو مناصرة أهل غزة بشكل حقيقي وفعلي.
نسمع كل يوم ما تكرره معظم الفصائل الفلسطينية حين يؤكد قادتها على أن عدوهم واحد، بينما نراهم يتصرفون، خاصة في وقت المحن، وكأنهم عشرون “قبيلة”وظل لمستحيل.
لن تفيدنا المكابرة ولا الانكار؛ ففي كل عام يمر، تبتعد غزة عن القدس ورام الله. وقد يستهجن البعض ما أقول، لكنني مقتنع به تماما؛ فرغم تشابه الاعتداءات الاسرائيلية بظواهرها وبانعكاساتها وبلون الدم الغزّي المسفوك، لم تستهدف إسرائيل نفس “العدو” في جميع غزواتها، ولم توصل نفس الرسائل، ونراها قد حققت بعد كل “حركشة” انجازًا مغايرًا ؛ ففي هذه المرّة، مثلًا، تعمّدت اسرائيل، بشكل رئيسي، ايصال رسائلها لمن يقف خلف “حركة الجهاد الاسلامي”، وهذا ما قد يفسّر صمت كثير من الدول الاسلامية التي ترى بايران الصفوية عدوّها؛ ويفسر ايضًا صمت بعض الحركات والفصائل الاسلامية وشيوخها، التي تستظلّ بعباءة السلطان وتدعم حلمه باستعادة دولة الخلافة الكبيرة.
لن استرسل في شرح هذه الابعاد السياسية الكبرى، ولن أراجع ما قال قادة الفصائل بعد كل معركة وبعد نشر قوائم الشهداء والجرحى وإحصاء الخسائر، ولن أرهقهكم بمن غيّبوا عن “بوستاتهم” قضية غزة، أو شرّحوها وفق اهوائهم الفئوية؛ فأنا أعرف مثلكم بأن هذه الجولة ستنتهي قريبًا، وليس من الصعب التكهن بذلك، وأعرف ان جميع الأطراف والفرقاء سيعلنون مباشرةً، بعد انتهاء “المعركة”، عن انتصارهم فيها وعن سحقهم لآمال ومخططات عدوهم؛ فاسرائيل ستتبجح بأنها نجحت في تلقين كتائب الجهاد ومن وراءها درسًا؛ وبأنها علّمت غزة كيف عليها أن “تتواضع” وأن تعرّف حدودها وألا تتحرش بأمن اسرائيل وتعتدي على سلامة مواطنيها؛ وستعلن، في المقابل، جميع الفصائل في غزة وفي طليعتها “حركة الجهاد” على أنها صمدت في وجه العدوان وأفشلت مآرب اسرائيل، بل ان صواريخ الجهاد نجحت بتقويض حالة الاستقرار الداخلية وبخلخلة مشاعر الأمن العام والفردي الاسرائيلي!
أما أنا فسأكرر ، بعيدًا عن حسابات الدم المهدور، ما أكده علم السياسة وما قلناه بعد مواجهات الماضي الموجعة، بان اسرائيل لم ولن تنتصر في عدوانها المارق على غزة، لأن الطرف القوي عسكريًا، إن لم يقضِ على عدوه الضعيف عسكريًا، لن يُعدَّ منتصرًا؛ وفي المقابل، اذا لم يستسلم الطرف الضعيف عسكريًا ولم يمحق سياسيًا، فهو الذي يُعدّ منتصرًا وفق فقه التاريخ وفي أحلام البسطاء.
ويبقى ذلك الانتصار موهومًا أو على الاقل منقوصًا؛ اذ قلنا بعد انتهاء الجولات السابقة، انّ “انتصار” الغزّيّين في المعركة، لن يصير حقيقيًا اذا لم يُفضِ الى إعادة اللحمة والهواء لرئتي فلسطين/ الوطن؛ ولا يصحّ اليوم إلا أن نؤكد مجددًا، آسفين على ذلك، مع فارق مؤلم ومستجد وهو أن حكام غزة سمحوا خلال الأعوام الماضية بتحويل أرض القطاع الى ساحة تتنازعها الدول الكبيرة وبعض الدول الصغيرة الشقيقة الحليفة لتلك الدول؛ وهم بهذه الحالة رهنوا مصائر أهلهم لتلك المصالح الغريبة وأخضعوها لجهات تعمل بدوافع خارجية، وذلك كما ظهر في التحركات الأخيرة التي قادتها، هذه المرة، حركة الجهاد الاسلامي.
ما حدث في غزة يُبعد مساعي الوحدة الفلسطينية ويجهض فرصة اجراء الانتخابات التي كانت أصلًا محاولة عسيرة ومتعثرة؛ لكنه، فوق كل ذلك، ألحق وسيلحق أضرارا جسيمة فيما حققه المواطنون العرب خلال معركة الانتخابات الاخيرة للكنيست. ورغم قناعتنا بأن حزب الجنرالات، أزرق وأبيض، كان بعيدًا عن تحقيق طموحاتنا السياسية الا ان نجاحه في وجه نتنياهو تعدى اهمية كونه جزئية انتخابية هامشية وضيقة، وذلك لأننا اعتبرنا أن فشل نتنياهو ومعسكره قد يتحول الى بداية مسيرة نحو الافضل ، أو ، على الاقل، انجازًا قد يوقف زحف اليمين والفاشية نحو نظام حكم كارثي على وجودنا وعلى مستقبلنا في الدولة.
أما اليوم فنحن نرى كيف جنّد نتنياهو سقوط هذه الصواريخ على المدن الاسرائيلية؛ ونجح ، بسبب ذلك، بتمتين موقعه السياسي؛ وبالمضي، بخطى حثيثة، نحو اكتساب شرعيته من جديد وشرعية حكم اليمين المستبد واستعادة مكانته كقائد لا يستغنى عنه، على ما قد تعنيه عودته إلى رأس هرم السلطة وتبعاتها علينا.
كم قلنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل ، اننا نقف مع وجع غزة ، ونقول اليوم، رغم اننا بين نيران صاروخين، كما قال ابنها معين بسيسو لعينيها “حينما أرسف بالاسوار في كل مساء، ولَكَم مر مساء مساء، ويحوم الليل كطائر في منقاره خيط ضياء، لنجوم لا أراها في السماء، يفرد القلب جناحيه بعيدا ويطير لبساتينك يا غزتي الخضراء في ليل الجحيم”.
فنحن مع غزة عندما تتوجع..ولكن، يا ترى، من معنا؟