مهرجان فلسطين الوطني الثّاني للمسرح رؤية وأبعاد
تاريخ النشر: 23/11/19 | 14:17رأي: رجاء بكريّة
“.. مشاهدُ الإخراج الجديد لمسرحيّة سحماتا شهدت إخراجا جديدا لكنّها بقيت متمسّكة بطرحها السّياسي وسهولة التّواصل الحيّ مع النّاس، أبطال الحكاية. يحدث هذا وفق سيناريو شخصيّ ينجزه ويخرجه حنّا عيدي بذاكرة الحاضر الّذي لا ينسى تلك الشّريحة من البشر الّذين يتناسلون من التّراب في أوطان ليست لهم بعد أن نُسِفت سُحماتا والبروة والشّجرة وسواها الكثير من القرى واستقامت فوقها أماكن يسمّونها مستوطنات جديدة لأناس أتَوا من كلّ مكان إلى أرض الميعاد.” (رجاء.ب)
شاركتُ مؤخّرا بمهرجان فلسطين الوطني الدّولي الثّاني للمسرح ضمن ورقة اختصرت مفهوم التّجريب في المسرح الفلسطيني، وارتكزت على تجربة المونودراما ضمن أعمال جرت معظم عروضها في مناطق ال 48، ذلك لأنّ فنّ المسرحيد خصوصا أكثر حضورا فيها منه في مناطق أخرى. ومع التّأكيد على مشاركة لعروض مونودراميّة من القدس تحديدا. إلى جانبي شاركت أوراق أخرى للأساتذة، عفيف شليوِط، راضي شحادة، سامح حجازي، د.كرمة زعبي.
والمشترك في جميع الأوراق المطروحة طموحها الجدّي لطرح واقع المسرح ونقاش إشكاليّاته وتجلّياتهِ. وغير المشترك طموح بعض الأوراق إثارة الشّكوك في المعلومة بهدف تسليط أضواء نافلة عن حاجة الحلقة الفكريّة وأهدافها، عليها. وللحقيقة فوجئتُ من شكل الطّروحات على اعتبار أنّها تجنح للتّوثيق أكثر ممّا تشتغل على التّحليل، مع التّأكيد على حاجة الواقع المسرحي للنّهج التّحليلي في طروحاتهِ، خصوصا فيما يتعلّق بالعروض الحيّة. ورغم التّباين في وجهات النّظر غير أنّ مضامين الحلقة بدت مُبهِجة ومثيرة للإهتمام.
كنت على بيّنة بإشكاليّات الورقة الّتي قدّمتُها لاشتغالها على العرض المونودرامي في الدّاخل الفلسطيني إلّا أنّني وجدتُ فيها مُتَنفَّسا لإنجازات يعرف عنها قلّة، في الشّق الآخر من الخطّ الأخضر، وأعني مناطق أل 67. وبعينيّ ليس المهمّ أن نستعرض أعمالا وعروضا يعرفها الجميع، بل مسارح وفرقا وعروضا تمتلك من المزايا ما يؤهّلها للعرض والتّحليل في محافل من هذا النّوع، وأعني المهرجانات المسرحيّة العربيّة. أضف إلى ذلك إسباغ علامة فارقة على الكلّ المسرحي الفلسطيني الّذي يُنجَز بِصورتِهِ الشّموليّة، ولفت نظر القيّمين على المهرجانات المسرحيّة العربيّة لضرورة إشراك الرّؤية الفلسطينيّة الخالصة في دوائِرِها الفكريّة ورؤياها التّحليليّة في الرّاهن العربي الجَمْعي.
وفق رؤيتنا المتواضعة لما حدث في المهرجان المسرحي الوطني الثّاني، 019، فقد أُضيفَ إنجاز لافت على مستوى القطاعات والمناطق المختلفة في فلسطين لما تخلّلهُ من زخم ونشاط مكثّف للفرق المسرحيّة المختلفة وعروضها، وسط حرص على حضور قطاعات مجتمعيّة مختلفة، وهو حِراك يستحقّ الإشادة والفرح، فتضافر الجهود على مدى سنة كاملة تكلّلت بهذا الكمّ النّوعي الّذي يدعو إلى الفخر. ويبدو أنّ القيّمين على الإعداد لهذا المِهرجان قد أفادوا من تجربة السّنة الماضية فوقفوا على ثغراتها وتجاوزاتها، ولمّعوها مهنيّا ومضمونيّا حدّ الإدهاش، وإثارة التّساؤل. وإذا كنتُ من محظوظي المشاركة في الأيّام الثّلاثة الوسطى فأعترف أنّي خسرت متعة البداية والنّهاية. فما حدث على المسرحين، البلدي وقصر الثّقافة شكّل عُرسا حقيقيّا لمذاق المُشاهّدة.
وإذا كنت من المحتفين المتابعين لمشاركات جادّة تخصّ جيل الشّباب من مُخرجين وحرفيّين ومواهب، فلن يفوتني بعد ما رأيت الإشارة لضرورة أن يحتفي هذا الجيل بمعالجة أعمق إذا كان مصرّا أن تتجاوز عروضه شكلانيّتها أمام جمهور الهدف. فمسرح “الحريّة”-جنين، يسجّل للسّنة الثّانية أداء هاوي التمهّن، هكذا أسمّيه، ويلوي الأعناق حتّى آخرها وهي تتابع تجلّيهِ في عَرضِهِ، لُندُن-جنين. أمّا فراس أبو صباح صاحب مسرحيّة “كلب السّت” لمسرح القصبة، فقد حاول فرض لون جديد من المعالجة المضمونيّة في حوارها مع المستوي الدرامي مستعينا بخواص جديدة شكلانيّة ليس آخرها نوعيّة الملابس وهواجس الجيل وشكل تشظّياتها مشهديّا. ولكن برغم طموحِهِ لمعالجة إخراجيّة لافتة في ترخيص الشّخصيّات سياسيّا على مستوى الأداء المضموني، لأنّنا نملك هنا إمكانيّة تجنيس النّص حركيّا، إلّا أنّهُ أغفل القيمة الفكريّة لخطّ الدراما المضموني مقابل الشّكلاني، بعينيّ، وتبعا لذلك نسي جمهور الهدف أنّ طموح الفكر السّياسي الّذي يعالجه العَرض سَرَقَتْهُ خدعة اجتماعيّة سافرة، كأنّما أراد أبو صباح فعلا أن يسحب الجمهور خلف بنطال أحمر مشدود لجسد الشّخصيّة المركزيّة المؤديّة متجاوزا بذلك الأبعاد القيميّة العاليّة لحدّة الطّرح ومزاجيّتهِ العالية الّذي جاءت المسرحيّة تفرضهُ كدهشة نافذة الصّبر أمام جمهورها. وعكس ما انتظر أبو صباح فصوت النّقد السّياسي الحار والعالي انقلب إلى تصفيق مزاجيّ جدا بين كراسي القاعة ولم يتجاوزها إلى الشّارع مثلا. فحين تصبح جثّة كلب مزارا يجب أن تخرج الجموع احتجاجا على التردّي العارم لواقع الفرد الفلسطيني الضّائع وليس احتفاء داخل قاعة، هذا منظوري الذّاتي للأمر على الأقل.
برغم يقيني التّام لحاجة المهرجان إلى عمل من هذا النّوع بدم وفكر شبابي غير أنّي أصرّ على معالجة مضمونيّة وإخراجيّة أرحب وأعمق خصوصا وأنّنا نتحدّث عن انفتاح ملموس سينوغرافيّا ودراماتورجيّا لدى مخرج العمل وطاقمه. وإذ أحيّي هنا، فقرار اللّجنة العليا بفتح باب الإجتهادات للجيل الإخراجي الشّاب كي يُحدِثَ تغييرا في معالجة المضامين الفكريّة لأصحابها وفق توجّهاتهم، لأنّ الفكر المخالف هو بالعادة من يصنع مسرحا.
تشوّقت لمتابعة المزيد لكن لم يسعفني الوقت. وإذا كنت سأشيد فبمستوى الأداء الدّرامي لحسن طه ومحمود أبو جازي في مسرحيّة الغراب لمسرح الجوّال| سخنين مع ضرورة وضع الإصبع على منطقة الضّعف ممثّلة بالمستوى الدراماتورجي، والتّشديد على أهميّة فرض الرّؤية المهنيّة في مستويات النّقلة المشهديّة الدراميّة، كأنّ المعالجة لم تستوف مراحل تطويرها ممّا أدى لاختلال في مشاهد الشّخوص، وإيقاع الأداء أثناء انتقالهم بين الحالات المتواترة على مدار الخمسين دقيقة، مدّة عرضها. غير مرّة سقط صخب الصّراع تحت الأقدام بدل أن يتكاثف في الفضاء، وهذا مأخذ يجب إعادة تجهيزه بما يستوفي رؤيته السينوغرافيّة أيضا.
وإذا كنتُ سأضيف فلا بدّ من وقفة عالية أمام عرض “سُحماتا” الّذي أنجزه المسرحي العالي “لُطف نويصر” والمسرحي الشّاب “رامي صليبا”. المسرحيّة الّتي تعيد صياغة وُعورة طرحها السّياسي. وللتّذكير فقد عرضت “سحماتا” لأوّل مرّة قبل أكثر من 10 سنوات، وأعيد إخراجها وطاقمها لتخرج ثانية إلى الخشبة ممهورة بذاكرة الباقي بعد نكبة 48 على صورة خارطة فوق تراب تعكس مربّعات كثيرة، كبيرة وصغيرة متخيّلة تكاد لا تراها إلا عينهُ، الجَد، بطل العمل فوق ذات التّراب الّذي استوى بالأرض. يرسم بغصن زيتون معالم قرية نُسِفت عن بُكرةِ أبيها. مشاهدُ الإخراج الجديد لمسرحيّة سحماتا شهدت إخراجا جديدا لكنّها بقيت متمسّكة بطرحها السّياسي وسهولة التّواصل الحيّ مع النّاس، أبطال الحكاية. يحدث هذا وفق سيناريو شخصيّ ينجزه ويخرجه حنّا عيدي بذاكرة الحاضر الّذي لا ينسى تلك الشّريحة من البشر الّذين يتناسلون من التّراب في أوطان ليست لهم بعد أن نُسِفت سُحماتا والبروة والشّجرة وسواها الكثير من القرى واستقامت فوقها أماكن يسمّونها مستوطنات جديدة لأناس أتَوا من كلّ مكان إلى أرض الميعاد. هي حكاية سحماتا المؤلمة الّتي تنتقل من جيل لجيل إلى ذاكرة الصّغار، الحكاية الّتي تؤدّى بأمانة وفنيّة وألم على خشبات البلاد، وينعتها رئيس لجنة التّحكيم في المهرجان، محمّد بكري، بكلمات غريبة، “يكفينا بكاء على الأطلال!” لا نفهم نحن إذا كنّا سنتوقّف عن سُحماتا فماذا سيبقّى من حاضرنا؟ هل نفسّر الآن أنّ البكاء وسيلة للبقاء؟ وأن ّمُعدّلَ الحياة عند الباكين تتجاوز الضّحاكين والبكّائين بمسافات؟ وما لم نبكِ مستعينين بطاقاتنا الهائلة في تفريغ الوجع ضمن دراما عالية النّبضِ والحسّ كالّتي تابعتُها في سُحماتا، فهل سنبقى شعبا يعرفُ تاريخهُ. نحنُ ممّن لا تزالُ ذاكرتهم تستحمّ بماءِ العَين، وقلّة يجيدون السّباحة في مياهٍ معمّدة بالقوّة والبراءة وطّاقة الإصرار على انذهالهم وسط تردّي التّاريخ المجحف.
أما عرض المخرج فتحي عبد الرّحمن، “قلنديا رايح جاي”، الّذي يعكس واقع الفلسطيني اليومي في تنقّلاته بين أجزاء وطنه القدس والضفّة عبر الحواجز الإسرائيليّة الكثيرة، وقلنديا تحديدا. وأعني العرض الّذي غادرهُ إثنان من لجنة التّحكيم في أوج ألقِهِ وجمالِ طرحِهِ، ووسط ذهول من حولهما، فأعتقدُ أنّهُ سابقة في صناعة العرض المسرحي الفلسطيني الخالص، ولو أنّهُ أطال قليلا في جزئِهِ الثّاني. لكن ممّا لا شكّ فيهِ أنَ المعالجة الدراماتورجيّة الّتي أنجزها المخرج ذاتهُ والسّينوغرافيّة، المشهديّة والإخراجيّة معا توفّرت على مستوى عال من الثّقافة الفكريّة والمهنيّة، أضف إلى ذلك الذّكاء الفطري في حل إشكاليّات التّواصل المشهدي متداخل التقنيّات. يحدث في هذا العرض الكبير تحايلا محسوبا على حالة الإنزياح المشهدي يؤدّي لاتّساع الرّؤية المشهديّة وتلاحمها. فالخبرة الّتي يُراكِمُها هذا المخرج، وأعني فتحي عبد الرّحمن، في رؤيتِهِ الإخراجيّة على مدى سنتين من متابعتي لها تستحقّ التّوثيق والمتابعة بهدف التعلُّم والإستِفادة لدى جيل الإخراج الشّبابي الجديد في فلسطين أوّلا. أمّا لقلمي كمُتابِعة شُغوفَة بالنّقد الفنّي المسرحي، وباحثة فيه فالكثير من الدّهشة والمتعة، والتّحليل الفكري الدّرامي. خياراته المقلقة تتجاوز التوقّعات، وتفرض حالة مهولة في تشظّيات أبعادها المضمونيّة وتداعياتها الشّكلانيّة وجميعها تتأثّر من زوايا سينوغرافيّة محدّدة يختارها لحظة يوشك المشهد على الإنهيار لينهض مُبهِرا من جديد، وهي تقنيّة إخراجيّة تخصّ عبد الرّحمن وحده، يضاف لما أسلفت نسج التّداخلات المشهديّة وسط تجنيد رحب للتّكاثف المجالي، السّينما والفوتوغراف الحيّ أثناء العرض بمهنيّة ودراية رغم ضحالة الميزانيّات الّتي يجنّدها لهذا الغرض.
أهو تحكيم أم تخريب؟
وعليه، أتساءل في إعلاني لهذه الملاحظات عمّا أضَافته لجنة تحكيم السّنة للحالة المشهديّة والذّوقية؟ هل صدفة أنّها حجبت جوائز ثلاث، هل صدفة أنّها في أجمل عروض المهرجان تركت مقاعدها وخرجت، وهل صدفة أيضا أن تحتفي بمسرحيّات خارج الخطّ الأخضر وتستكثر على مسرحيّات أخرى بمستوى أداء لافِت حتّى جائزة الممثّل الثّانوي؟ لا أملك إجابات وافية لكنّ إصبعي السّادسة لا توافق على غيابها، وتصرّ أن تقدّر حجم الخسارة المعنويّة لكلّ هؤلاء الّذين انتظروا أن تفرغ خزينة المهرجان من دروعها، وخُذلوا. كما لا أناقش مدى استحقاق من فاز بجائزته، لكنّي أرفع صوت التّساؤلات الكثيرة حول خيارات المنح وسياسة اللّجنة، فمهرجان في سنته الثّانية يستحقّ الدّعم أثناء ترتيب نتائجه النّهائية، ومن المهم تحييد منطق الإسٍتعلاء في التّعليق على مستوى الأداء المسرحي وتدريج أهميّة مضامينه من عدمها، كما أنّي لا أستسيغ أن نصف مشروع نضالنا الفنّي بالتّقادم، لأنّ أحكامنا ستكون متقادمة أيضا ونافذة الصّلاحيّة. باختصار عوّلت على احتفاء يليق بجماليّة العروض، ومساحات حضورها، وخرجت بضرورة تحديد معايير جديدة تخصّ لجنة الحكم للدّورات القادمة.
تحيّة للمسرح الفلسطيني بإنجازاتهِ وإصراره على التحقّق في دورته الثّانية داخل وخارج الخطّ الأخضر وننتظر إنجازات تشرّف ماء وجهه في دوراتِهِ القادمة
نوفمبر، 019 ، الجليل – حيفا