قراءة تحليليّة في رواية “سيرة عين” للكاتب إبراهيم نصرالله
تاريخ النشر: 05/12/19 | 9:08كريمة الشّمسُ الباحثةُ عن النّور
قراءة تحليليّة في رواية “سيرة عين” للكاتب إبراهيم نصرالله
سيرة عين هي الرّواية الثّانية من ثلاثيّة الأجراس للكاتب إبراهيم نصرالله. هذه الثّلاثيّة هي إجابة صارمة لكلّ من يسعى لإخراج الدّور المسيحيّ من النّضال الفلسطينيّ، فليست الأجراس هنا إلّا رمزًا لأجراس الكنائس. تتناول الرّواية “سيرة عين” سيرة حياة المصوّرة كريمة عبّود (1893- 1940).
لم يتوخّ الكاتب الغموض والتّعقيد، وكيف يفعل وهو أصلًا يعتمد التّوثيق ويأتي بالأسماء الحقيقيّة والشّخصيّات الحقيقيّة؟ لم يعتمد ذلك وإن اعتمد على آليّات حداثيّة وما بعدها: كالتّناصّ والرّمز والهوامش والاسترجاع والحلم والتّضادّ، والأهمّ عبر النّوعيّة، أي تهجين نصّه بهويّات متعدّدة، فجمع بين الرّواية والتّاريخ والسّيرة الغيريّة، ليمسي نصّه “رواية سيرة غيريّة”. مزج نصرالله سيرة كريمة بأحداث تاريخيّة في قالب روائيّ يعتمد على الخيال. وهذا ما توضّحه إحدى عتبات الرّواية، حيث ورد في الغلاف أنّ “الرّواية استندت إلى شخصيّات حقيقيّة ووقائع حقيقيّة لكنّها بنيت بالخيال”. وكأنّ الكاتب يصرّ على أنّ الخيال يؤثّر في القارئ أكثر من كتب التّاريخ، فالرّواية كفنّ تستدعي الخيال في نسج حبكتها بالضّرورة. تخاطب القارئ على المستوى الانفعاليّ أوًلًا ثمّ على المستوى الذّهنيّ. وهي تأذن بحرّيّة أوسع في تمثيل الواقع السّياسيّ- الاجتماعيّ وفي إعادة خلقه. كما أنّ اللّغة الرّوائيّة أكثر مرجعيّة ومطابقة للتّجربة الإنسانيّة. وإذا كانت كتب التّاريخ من نصيب الحاكم المنتصر فقد باتت الرّواية كفنّ أدبيّ أهمّ من التّاريخ، فهي الأقدر على حفظ الحقيقة والتّاريخ. وعليه، يأخذ الكاتب التّاريخ ويغوص في حياة البشر والإنسان ويذيبه في الفنّ الرّوائيّ. لم يدخل التّاريخ من بابه الجافّ، ولا بسرد وقائعه كأحداث وقعت في زمن ما، بل حبكه بالفنّ الرّوائيّ بتماهٍ وانسيابيّة، فذاب الواحد بالآخر بعباءة الخيال في تناغمٍ محكمٍ، حتّى يقف القارئ متسائلًا: أين هو الحدّ الفاصل بين الخيال والواقع؟ أيّهما الحقيقيّ وأيّهما المتخيّل؟
تؤرّخ الرّواية وتوثّق أحداثًا تاريخيّة وشخصيّات وطنيّة وأسماء مصوّرين فلسطينيّين وأجانب، كما تؤرّخ لأمكنة كبيت لحم والقدس وحيفا وغيرها. ويعتمد الكاتب في هذا على الهوامش بغرض التّوضيح والتّفسير أو التّعريف بالشّخصيّات أو الأحداث. ويخطئ من يظنّ أنّ الرّواية عن كريمة وحدها، إنّها حكاية كريمة، وحكاية أسرتها الّتي تهشّمت بالموت الّذي انهال عليها مع قدوم الاستعمار على أرضها، وحكاية فلسطين الطّبيعة والبشر والفنّ وجمال الوطن، وحكايتها في ظلّ الاستعمار الإنجليزيّ من نهاية القرن التّاسع عشر حتّى الأربعين من القرن العشرين، حكاية وطن عاش استعمارًا وثورات وكان ينحو نحو مصير غامض، وهي حكاية فنّ التّصوير الفوتوغرافيّ أيضًا. يعي نصرالله أنّه حين يسجّل حياة كريمة كمصوّرة لا يستطيع انتزاعها من خصوصيّة عصرها ومجتمعها ومكانها، ولا من عائلتها ووجودها، ولا حتّى من كونها إنسانًا بالدّرجة الأولى. من الواضح أنّ الكاتب درس شخصيّة كريمة وحلّلها نفسيًّا واجتماعيًّا محاولًا أن يدرك فلسفتها في الحياة والتّصوير، وحتّى يستطيع تصويرها ووصفها للقارئ. لقد بحث ودرس العمق الإنسانيّ خلف هذا الاسم “كريمة عبّود الفلسطينيّة المصوّرة”، ساعيًا لتجاوز عائق البعد الزّمنيّ الّذي يفصله عنها. لكن، من الواضح هنا أنّه لا يمكننا الحديث عن مطابقة دقيقة وحرفيّة بين ما كان حقيقة وما سرد في الرّواية. ولذا لا يمنحها الكاتب سلطة السّرد وبضمير الأوّل، أي ضمير المتكلّم، وإنْ بدا لنا نسويًّا في الرّواية، بل اعتمد على الرّاوي المشرف العليم الكلّيّ المعلّق، وبضمير الغائب الّذي يرتبط بالمتخيّل، حيث يمكّنه هذا الضّمير من رؤية شاملة للأحداث ومعرفة التّفاصيل بحذافيرها، والإحاطة بعدّة أمكنة وأزمنة في الآن نفسه، والدّخول إلى أعماق الشّخصيّات وكشف دواخلها وأفكارها وصراعاتها.
هي رواية تضعنا أمام جدليّة الغياب والحضور، فإلى أيّ مدى تستطيع صورة أن تلخّص حياة؟ إلى أيّ مدى نستطيع قراءة الحياة في صورة؟ هي الرّواية تذكّرنا بحتميّة الموت حيث لا يتبقى منّا إلّا صورنا، الصّور الّتي تثبّتنا في ذاكرة من بعدنا، تحفظ لنا استمرارنا بعد الموت.. وكم من أموات هم أحياء بذاكرتنا ووعينا وروحنا! هي الكاميرا الّتي تخلّدنا، وإن كان تخليدها ليس إلّا لعبة الغياب والحضور، و”الغياب والصّورة لا يجتمعان”. يذكّرنا الكاتب بأنّ صورنا أقوى من أسمائنا. أجمل اسم قد لا يساعدك على استحضار ملامح شخص بصورة كاملة، لكنّ صورة واحدة كافية لأن تجعلك ترى عشرين وجهًا، خمسين وجهًا. هي الصّورة تحكي قصّة، هي لا توثّق فقط للحظة تاريخيّة، إنّما تحكي قصّة هذه اللّحظة دون كلام. صورة واحدة يمكن أن تقول ما تقوله قصّة أو أكثر. وإذا كان التّاريخ يغيّب أوطانًا فالرّواية تحضرها، تحضر ذاكرتها وتبنيها من جديد. هي إذًا رواية التّضادّ في جدليّة الغياب والحضور، الحياة والموت، الضّوء والعتمة، الحقيقة والخديعة.
كريمة هي ابنة القسّ سعيد عبّود راعي الكنيسة الإنجيليّة اللّوثريّة في بيت لحم. بيت القسّ سعيد هو نموذج لكلّ البيوت الفلسطينيّة، فمع قدوم الإنجليز حلّت المصائب فيه. اعتقلوا ابنه كريم الّذي أتمّ العشرين من عمره بعد أن عثروا في جيبه على كتاب بالألمانيّة هو “آلام فارتر” للكاتب يوهان غوته فاتّهموه بالجاسوسيّة. تغدو “آلام فارتر” آلامه ويعاد إلى بيته مريضًا بالسّلّ بعد خمسة أسابيع من التّعذيب القاسي. يدخل الموت بيت القسّ سعيد مرّة أخرى، يعود ليطارد عائلته بعد أن سرق الطّفل نجيب وهو في الرّابعة من عمره، وبعد أن كاد يسرق الطّفل منصور حين سقط من الجرسيّة أثناء صعوده لقرع جرس الكنيسة، لكنّه يعيش مشلولًا ويقطن في مستشفى الأمراض العقليّة. بعد موت كريم تنتقل عدوى الموت إلى كاترينا، ثمّ الأمّ الّتي تسبق كاترينا إلى الموت، لينتقل المرض إلى كريمة بعد أن تتزوّج وتنجب سميرًا وتنتهي الرّواية بموتها.
كريمة والبعد النّسويّ:
عاشت كريمة الابنة الثّانية في أسرة حاضنة وداعمة يغمرها الحبّ، أسرة فنّيّة قدّرت الفنّ والموسيقى والكتاب. كان والدها مدرّسًا في بداية مشواره وعازفًا ماهرًا على الأورغن، وكان يميل للأدب ويعمل على جمع الأمثال الفلسطينيّة في مؤلّف. كانت أمّها مدرّسة. أمّا الأختان كاترينا، الأخت البكر، وليديا الأخت الصّغرى، فعزفتا على الجيتار، وتنتهي الرّواية وقد بدأت ليديا تلجأ للكتابة لتبوح عبر القلم بعذابات روحها. وإضافة إلى سحر الموسيقى في البيت والكنيسة عاشت كريمة في أجواء يكسوها بهاء الطّبيعة وجمال البرّيّة وروائح النّباتات وروائع الأمكنة. غمرتها هذه الأجواء وأيقظت الجمال الرّوحيّ ورهافة الحسّ في داخلها، فبحثت عن سحر الحياة وباتت عينها لا تنتقي إلّا الجمال. ظنّ والدها أنّها ستقع في حبّ الأورغن الّذي وصل بيت لحم في السّنة الّتي ولدت فيها، لكنّها اختارت أن تعيش معزوفة البصر. وحين لمس والدها ذاك الشّغف بالكاميرا اقتنى لها واحدة.
بدت كريمة واعية لما تريده، رفضت أن تخيط أطراف فستان معلّمتها الإنجليزيّة على الرّغم من أنّها تجيد الخياطة، رفضت لأنّها إن فعلت سيكون مصيرها أن تكون خيّاطة، فردّت على معلّمتها بإصرار جريء: “أريد أن أكون فنّانة وأرسم بالشّمس”. كريمة الّتي غدت مدرّسة قرّرت أن تترك التّدريس بعد سنة، مكتشفة أنّها آخر مهنة تصلح لها، فتمتهن التّصوير. وهذا ما كان ينقص الأمّ لتصرخ في وجهها: “ستكونين السّبب في موت كريم.. فتاة وتعمل مصوّرة؟ هل رأيت فتاة تعمل مصوّرة من قبل؟”. كادت كريمة تتراجع أمام صراخ أمّها الموجوعة لمرض أخيها، ولكنّ والدها يمنعها، والدها الّذي لمس لديها ذاك الشّغف بالكاميرا. كان في البداية يريدها معلّمة مثله ومثل أمّها، لكنّه كان سعيدًا بمِلء اسمه حين اختارت مهنة تمتلئ بها وتكتمل بشغف. قال لها: “ألم أقل لك إذا ما أردت شيئًا فإنّ عليك أن تكوني أكثر جرأة لتناليه.. لقد قلتِ شيئًا تريدين أن ترضي به أمّك وتخوني نفسك. لقد وهبك الربّ عزيمة وموهبة لكي تكوني أوّل فتاة تشقّ دربًا كأوّل مصوّرة في فلسطين كلّها، وربّما في بلاد العرب جميعها، وتريدين أن تقولي للربّ، وليغفر لي: لا أريد العزيمة الّتي منحتني إيّاها ولا هذه الموهبة؟ شيء واحد أريده منك أن تنامي اللّيلة كما أردتِ متردّدة خائفة فاقدة إيمانك بنفسك، ولكن حين تنهضين غدًا أريد أن أرى كريمة واحدة، كريمة الّتي أعرفها، نور العين لا ظلمتها”(ص 57).
كانت كريمة شخصيّة مميّزة مثقّفة أتقنت الألمانيّة والإنجليزيّة والعربيّة، وكان الجوّ الغنيّ بالحوارات حول الفنّ والوطن والدّين كفيلًا بتطوير شخصيّتها. بدت ذكيّة، عميقة التّأمّل، كثيرة البحث، تفكّر بأعماق الأشياء حتّى تلمس ماهيّتها فتعيش دواخلها. أهداها والدها الكاميرا في فصل الخريف فأدركت سرّ الحياة فيه. في هذا الفصل راقبها القسّ سعيد “فبدت له والابتسامة الغامضة على وجنتيها كإنسان ما وصل أو في طريقه لأن يصل إلى سلامه الدّاخليّ”. قالت: “إذا أردت أن يفهم ابنك او ابنتك العالم بشكل صحيح، وكان حلمه الحصول على كاميرا، فلا تهده أو تهدها إيّاها إلّا في الخريف”(ص 44)، “ففي الخريف كلّ شيء: الحياة والموت، الجمال والتّجدّد والضّوء، ولون الشّمس، أجمل ألوان الشّمس، التقاء ضوئها مع ما يشبهه تمامًا، الأوراق المصفرّة المحمرّة السّاقطة داخل البساتين والحدائق”(ص 43). أدركت ذلك بوعيها النّاضج وثقافتها الّتي تسبق أبناء جيلها. وحين أدركت ذلك “غدت كريمة حرّة”(ص42). هي كريمة المرأة الباحثة عن الحرّيّة ونورها.
يحاول الكاتب أن يفسّر أسباب اهتمام كريمة بالجانب الإنسانيّ وتصوير الوجوه، فيتخيّلها حملت الكاميرا لأوّل مرّة وظلّت تبحث خلال ستّة أيّام عن صورة مميّزة، لكنّها لم تجد تلك الصّورة. وحين سألها والدها مستغربًا كيف يكون ذلك وهي في بيت لحم حيث التقط المصوّرون آلاف الصّور لهذه المدينة، ردّت بأنّها تبحث عن شيء مختلف، لا تريد أن تكون مثلهم، تريد أن تشبه نفسها لا أن تشبههم. أصابها الحزن والأسى حين مرّت الأيّام ولم تجد تلك الصّورة، لم تستطع التقاط الصّورة الّتي تحلم بها. حتّى تحقّقت الصّورة الأولى في اليوم السّابع، صورة العائلة كلّها، “رأتهم وشعاع الشّمس يسقط على وجوههم من النّافذة، كانوا هم وكانوا غيرهم. كانوا أجمل وأصفى كالنّهار في الخارج. رأت جمال وجوههم فحوّلتهم إلى ملائكة”. وقد يتساءل القارئ: لماذا في اليوم السّابع بالذّات؟ إنّه إشارة إلى الكمال، رقم سبعة رمز للكمال. فهنا اكتملت كريمة ووصلت إلى مبتغاها وبلغت هدفها، أدركت اليقين حين أدركت أنّ جمال التّصوير في وجوه البشر. فيها نجد جمال الإنسانيّة وحقيقتها. هذه الوجوه هي الوجوه الفلسطينيّة الّتي تسطع منها الحقيقة.
أتقنت كريمة مهنة التّصوير، وعرفت لعبة الضّوء، مدركة كيف وأين يكون سرّ الجمال في الصّورة. أدركت وجوب تناسق الألوان وتناغمها، تعلّمت أن تكون الألوان المتجاورة في حالة انسجام وسلام لا في حالة حرب. لم تكن تصطنع في صورها، بل كانت الصّورة بالنّسبة إليها مثل تنسيق الزّهور والقصائد والموسيقى وفي كلّ شيء. كانت كريمة تبحث عن التّناغم حتّى نجحت بتلوين الصّور. هكذا أصبحت أوّل امرأة عربيّة مصوّرة تحترف التّصوير الّذي احتكره الرّجل، أخذته مهنة واعتاشت منها. فكان ظهورها كامرأة تحدّيًا للمجتمع الذّكوريّ المحافظ. تعلّمت وخرجت للعمل، مختارة الكاميرا كسلاح وجود يمنحها الحرّيّة والقيمة الوجوديّة. خرقت المألوف وخرجت عن الأعراف السّائدة، تمرّدت على مجتمع يسعى إلى تهميش المرأة وسلب حقوقها. تمرّدت على صورة المرأة التّقليديّة الخانعة ونجحت في تحقيق ذاتها ومصيرها، فأمست شخصيّة رياديّة نهضويّة.
برعت بتصوير المناظر الطبيعيّة والمدن الفلسطينيّة ومظاهر الحياة الاجتماعيّة. كما برعت بتصوير الوجوه، ولأنها أدركت مواطن الجمال استطاعت أن تتغلّب على أفضل المصوّرين المحلّيين والأوروبيّين. لم تكن تطمح لأن تكون امرأة، مصوّرة، وحسب. كانت تريد أن تكون مصوّرة حقيقيّة في غابة المهنة وأصحابها. ألّا تكون صورها أقلّ من صورهم، بل أن تصوّر ما لا تستطيع عيونهم أن تراه. ولأنّها امرأة استطاعت أن ترى الأشياء من زاوية تختلف، فالمرأة تختلف عن الرّجل بحسّها الشّعوريّ العاطفيّ. فيه ذاك الدّفء الأمومي وإن لم تتزوّج. هي أكثر دفئًا وحنانًا وحبًّا. وإذا مزجنا هذا الحسّ بامتلائها بالحسّ الموسيقيّ الّذي عاشت في ظلال سحره، فإنّ هذا ما جعل صورها معزوفة بصريّة من الجمال، ففتحت أمامها كلّ البيوت وأغلق أكثرها في وجوه الرّجال. فلكونها امرأة استطاعت دخول البيوت أو التّصوير داخل الاستوديو في جوّ يناسب البيئة المحافظة. غلبت الرّجال في الوقت الّذي كانت هذه المهنة للرّجال فقط، وفي مجتمع محافظ لم يكن يمنح للمرأة ما يمنحه للرّجل، وفي الوقت الّذي اختلفوا فيه حول الصّور الشّخصيّة إن كانت حلالًا أم حرامًا أم رجسًا من عمل الشّيطان.
كانت كريمة جريئة تعرف ما تريد. كرهت أن تستنسخ نفسها في الصّور، رافضة أن يفرض عليها أحد رأيه كأن يفرض عليها كيف يجب أن تكون الصّورة ومواصفتها، كرفضها متابعة التّصوير واعتذارها من ربّ أسرة في القدس، والذّي حاول ابنها الشّابّ الّذي تعلّم في اسطنبول أن يفرض رأيه عليها، فاعتذرت رافضة التقاط الصّورة للعائلة. لم تتراجع عن قرارها لأنّها أحسّت أنّها إذا تراجعت ستلتقط صورة سيّئة لا تمثّلها، لا تشبه شغفها، ستكون صورة لقيطة لا نسب لها، وإن كانت هي من ستلتقطها(ص 92). علّمتها هذه التّجربة الّتي عكّرت مزاجها لأسبوع أنّها هي سيّدة القرار وصاحبة السّلطة المطلقة على الصّورة الّتي تلتقطها، وغدت هي القائدة في مساحتها الصّغيرة. إصرارها هذا لم يكن صرامة ولا حدّة، فصرامة كهذه لا تحتملها الشّمس الّتي ترسم بها وجوه النّاس وأماكنهم. كانت تدرك أنّها تصوّر النّاس وهم يبحثون عن لحظاتهم السّعيدة الّتي لا يستطيع الزّمن أن يسلبهم إيّاها. صحيح أنّ هناك هدفًا خلف التقاط كلّ صورة، لكنّ الهدف النّهائيّ لكلّ الصّور أن تكون جميلة وفريدة(ص 92). كانت كريمة كريمةً بشغفها إلى التّجدد وحبّها للتّحدّي والتّغيير. كريمة نور العين كانت دائمًا تفكّر في الشّمس، فهي الّتي أدركت: “لقد كانت هناك دائمًا أكثر من شمس، لكن ليس باستطاعة كلّ إنسان أن يدرك هذا، ليس باستطاعة كلّ مصوّر أن يدرك هذا، لكلّ مصوّر شموسه الخاصّة به، بعينيه”.
حتّى في طريقة عملها لم تكن تقليديّة، بل كانت طموحة، وبسرعة الملهوف والمحتاج تعلّمت قيادة السّيّارة لتنتقل من بلد لبلد وبين استوديوهاتها، وخرجت من فلسطين، من حيفا والقدس وبيت لحم، ووصلت لبنان والأردن. لم يكن تعلّم ابنة القسّ القيادة مسألة عابرة في سنوات العشرينيّات والثلاثينيّات من القرن العشرين. ومرّة أخرى يصوغ الكاتب هذا الحدث بالخيال. إذ يتخيّلها تعود من درس تعلّم القيادة لتجد أمّها في انتظارها والشّرر يتطاير من عينيها، صارخة بأنّ تعلّمها هذا سينزل غضب الرّبّ على بيتهم وستكون السّبب في موت أخيها. لكنّ الأمّ كانت تعرف جيّدًا أنّ كريمة لن تتراجع وأنّها حسمت المعركة لصالحها، فليست هذه المرأة خانعة حين يملؤها الشّغف. ويكون والد كريمة، القسّ سعيد، مرّة أخرى خير داعمٍ وسند لها.
في ظلّ المصائب الّتي حلّت بعائلتها هربت كريمة إلى الكاميرا، وجدت فيها رفيقة يمكن أن تبوح لها، تحفظ لها النّاس أحياء في الصّور، أن تكون فرصة لها لتنسى، لكنّها لم تستطع أن تنسى. كلّ صورة التقطتها للنّاس تذكّرها بأسرتها، الأسرة الّتي تنسلّ إلى غياب لا عودة منه. يتساقط أبناؤها ويصفرّون كما تتساقط أوراق الخريف وتصفرّ دون أن يكون هناك أمل أبدًا في أن ربيعًا آخر سيأتي. هربت كريمة من الألم لتعود إليه. لكنّها كانت تمنح والدها قوّة يجابه بها الحياة. كانت جزءًا من قوّة إيمانه. ما فعلته كريمة كان مصدر قوّة له ولبيته. أدركت كريمة أنّها كانت خيط الأمل الّذي يفرح القسّ سعيد ويتشبّث به. لقد عرفت معنى الموت منذ أن كانت في السّادسة حين مات أخوها نجيب الّذي كان يصغرها بسنتين، كان نجيب أجمل هديّة قدّمتها لها الدّنيا، شعرت أنّ الموت اختطفه منها وحدها هي لا من أيّ أحد آخر. إلّا أنّ هناك شيئًا وحيدًا أعاد لها ما فقدته بصورة مباغتة: تلك الصّورة الّتي التقطت للعائلة وكان نجيب في حضن أمّها.
حتّى في علاقتها بزوجها لم تكن تلك الباحثة “عن ظلّ رجل”، كانت امرأة مستقلّة تعرف ما تريد، رافضة الوصاية عليها. لم تكن كريمة بالغة الجمال، لكنّها كانت تعي ذلك فتصالحت معه بحبّ ورضا، فكان جمال روحها بديلًا عنه. حتّى أمّها كانت تلوم نفسها بأنّ ابنتيها كريمة وكاترينا نسختان عنها، كأنّها تقول لها بكلامها هذا: “لا نصيب لك في الزّواج”. لكنّ دافع الأمومة غلبها فخشيت ألّا تجد حبيبًا لتلتقي بطفل منه. ولذا، في جيل السّادسة والثّلاثين تتزوّج زواجًا تقليديًّا من يوسف فارس اللّبنانيّ، الرّجل العابث بعكسها هي الهادئة الوقورة الرّقيقة، فكان زواجًا سريعًا. رفضت أن تتوقّف عن عملها أو أن تسافر معه إلى لبنان وتترك أهلها وفلسطين ورصيدها وسمعتها كمصوّرة، فحزم يوسف أمتعته وعاد إلى لبنان، ليتّضح لها أنّها حامل. تأكّد كريمة من حملها يمحو الذّكرى المؤلمة لغياب يوسف، ويتحوّل الخريف في بيت سعيد إلى ربيع. لكنّ هذا الرّبيع لا يكتمل إذ تمرض الأمّ بربارا بالسّلّ وتموت بعد ولادة حفيدها. وقبل نهاية السّنة الأولى من عمر سمير يصل والده من لبنان بعد أن يبدّد أمواله وثروته، ساعيًا لأن تنتقل معه كريمة لتعيش وإيّاه وابنهما في لبنان لكنّها ترفض، فيعود خائبًا. كريمة الّتي طوال فترة الحمل أحسّت بأنّها مثل طائر فقد جناحيه أدركت كم تحبّ التّصوير. وكلّما رأت صورة جميلة لمصوّر فلسطينيّ أو مصوّر قادم من خارج بيت لحم توشك أن تبكي، لكنّها كانت تستثمر وقتها بقراءة الكتب عن التّصوير وتاريخه. كانت قد وعدت أمّها بأنّها لن تعود للتّصوير قبل أن يمشي طفلها. هذان العامان، وهي بعيدة عن التّصوير أخافاها، فقد رأت صورًا جدّيّة وسمعت عن كاميرات جديدة. لكنّ والدها كان يدرك أنّها خلال أقلّ من شهر ستلحق بأفضل المصوّرين وتتجاوزهم، لأنّها، وهذا ما قاله لها: “لأنّ لديك قلب حصان وعيني صقر ولمسة فراشة”.
وهكذا لم تتنازل كريمة عن أحلامها في أيّ محطّة من محطّات حياتها، حملت رمحها وقاتلت رياح الجهات الأربع وقلبها يفيض حياة وحبًّا وحرّيّة. تذكّرنا كريمة بقوّة الحياة، تبتعد عن البيت لتعود ممتلئة بالحياة ولتملأ البيت بالحياة، مدركة أنّ الحياة لا تنتظر أحدًا. هي كريمة ابنة الحياة حيث الحياة لا تعيش في منازل الأمس، ابنة المستقبل الّذي لا ينتظر أحدًا، هي المرأة رمز التّحدّي والقوّة، كحصان يعدو ولا يتوقّف، المرأة المرهفة، الشّمس، الباحثة عن النّور.
يورد الكاتب إعلان كريمة الّذي نشرته في جريدة الكرمل عام 1924، مثلما نشرته كريمة نفسها. ورد في الإعلان: “مصوّرة شمس وطنيّة.. كريمة عبود.. محلّ إقامتها في دار ضومط.. هي المصوّرة الوطنيّة الوحيدة في فلسطين.. تعلّمت هذا الفنّ الجميل عند أحد مشاهير المصوّرين.. وتخصّصت لخدمة السّيّدات والعائلات.. تلبّي دعوة السّيّدات اللّواتي يفضّلن التّصوير في منازلهنّ”(ص89). يتخيّلها الكاتب تأتي بالجريدة لوالدها، يسرّ بهذه المفاجأة وتعبر قلبه موجة فرح فيقول لها: ذات يوم سأموت وابتسامة واسعة على شفتيّ، أتعرفين لماذا؟ “لأنّني لم أمنحك حرّيّتك بقدر ما استطعت أنت انتزاعها من الجميع”.
ينتقل الموت الّذي حلّ في بيت سعيد باحثًا عن روح كريمة، ذاك الموت الّذي كان يتوقّع أن يقبض على كاترينا أوّلًا يصيب كريمة وتموت قبل أختها. تبدأ عوارض إصابتها بمرض السّلّ ويغلبها السّعال وهي في طريقها إلى مشاهدة فيلم مع والدها القسّ وابنها سمير وأختها ليديا، وهو الفيلم الملوّن “ذهب مع الرّيح” المأخوذ عن رواية “مارغريت ميتشل”، والّذي تمّ عرضه في سينما الحمراء في يافا عام 1939. يوظّف الكاتب هذا التّناصّ الثّقافيّ الفنّيّ ليوحي إلى نهاية كريمة، ويربط موتها و”ذهابها” مع عنوان هذا الفيلم، حيث يتزامن موتها (عام 1940) مع عرضه. وعلى الرّغم من أنّنا لا نعرف إذا كانت فعلًا قد شاهدته أم أنّ هذا من مخيّلة الكاتب، إلّا أنّ الكاتب وبلا شكّ يوظّفه رابطًا به الأحداث ليشير إلى الحياة الثّقافيّة والفنّيّة الّتي كانت تسود في فلسطين، مؤكّدًا مدى التّطوّر ورقيّ الحياة الّتي عاشها الفلسطينيّون في تلك الفترة، منكرًا الادّعاءات الًتي كانت تقول إنّها “أرض بلا شعب”. وإذا كان توظيف الفيلم كتناصّ فنّيّ هو إشارة إلى موت كريمة فإنّه يوظّف تناصًّا فنّيًّا آخر يربطه مع سنة ميلادها، ألا وهو وصول الأورغن إلى بيت لحم من القدس عام 1893. يوظّف الكاتب هذا التّناصّ حين يجعل والدها يظنّ أنّ كريمة ستقع في حبّ هذه الآلة الّتي وصلت بيت لحم تزامنًا مع سنة ولادتها. هذه الآلة الموسيقيّة الّتي انبهر بها والدها يوم رآها فتحوّل إلى جزء من جسدها، أخذ يهرب إليها حين تغلبه أوجاعه وآلامه، فتشفى روحه بسحر جمالها. إنّ هذا الرّبط بتناصّ فنّيّ بسنة ولادة كريمة وسنة موتها كذلك، رغم أنّ ذلك لم يكن إلّا صدفة تزامنت مع حياة كريمة، هو دلالة على إبداع الكاتب الجميل الّذي جعل بطلة الرّواية تبدأ حياتها وتنتهي بتناصّ فنّيّ، وكأنّ دائرة حياة كريمة ومسيرتها توازي الوطن فلسطين بهذا البعد الثّقافيّ الفنّيّ الجميل. بمعنى، هو تأكيد على أنّ فلسطين في تلك الفترة كانت تنبض ثقافة وحبًّا وفنًّا وموسيقى. ممّا يعني أنّ هناك حياة كانت على هذه الأرض، وشعبها كان يتمتّع بثقافة ورقيّ حياة ويقدّر الفنون والموسيقى والجمال. وقد سبق غيره من الشّعوب بنسائه الرّائدات بالفنون، وخاصّة بالتّصوير الفوتوغرافيّ ككريمة عبّود. هكذا يكتب نصرالله التّاريخ من جديد، التّاريخ الّذي سمعنا عنه والّذي لم نسمع به، هو تاريخ وطن لم يحضر في كتب التّاريخ.
في الرّموز ودلالاتها:
احتارت كريمة لِمَ يحضر المكان ويغيب الإنسان في صور الأجانب الّذين يزورون فلسطين، وكيف يصرّون على أن يقتلوا جمال المكان وهم يجرّدونه من الحياة الّتي تضجّ فيه، بخلافها هي. تدرك الإجابة مع وصول القسّ الألمانيّ شتيفان غونتر عام الثّورة 1936 الّذي أحضر لها صحيفة يهوديّة ألمانيّة كانت قد نشرت مجموعة من الصّور لمصوّر يهوديّ اسمه “موشيه نوردو”، ومن بينها صور لبيوت في بيت لحم. أوضحت الصّحيفة أنّ هذه البيوت تعود لليهود الّذين هاجروا إلى فلسطين واستطاعوا بناءها لتكون جاهزة لاستقبال المهاجرين. تستغرب كريمة: “أيّ بيوت لليهود في بيت لحم؟” وحين تتصفّح الصّحيفة تتعرّف على معظم البيوت الّتي في الصّور، فهي البيوت الّتي كانت قد صوّرتها بنفسها يومًا وزارتها. كانت البيوت كما تقول الصّحيفة تقف وحيدة وتنتظر من يسكنها. بكت كريمة وشهقت حين أدركت أنّ صورة بيتهم ضمن الصّور. في ذلك اليوم تخرق كريمة الإضراب العامّ الّذي أعلنته قيادة الثّورة، فتحمل الكاميرا وتخرج.. يسألها والدها: والإضراب؟ أنا لست ذاهبة للعمل، أنا ذاهبة لأصوّر قبل أن يسرقوا بيت لحم كلّها”.
لم تهدأ كريمة حتّى صوّرت كلّ تلك البيوت الّتي صوّرها نوردو، وحرصت أن يكون داخلها وحولها أكثر عدد من النّاس. بعد أشهر من عمل طويل وقفت كريمة أمام القسّ سعيد ونشرت أمامه صورها، ليعترف لها قائلًا: “سأعترف لك بما لم أستطع الاعتراف به بجرأة لنفسي، أنت يا كريمة جزء من قوّة إيماني، إيماني بالله الّذي خلق وألهم النّاس أن تعمل، وإيماني بالإنسان الّذي يرفض أن يستسلم”. لكنّ هذه الصّور لا تجد طريقها للنّشر إلّا بعد ثلاثة أعوام حين رآها الصّحفيّ نجيب نصّار وعرف قصّتها وهذا ما يذكره الكاتب في هامش أسفل الصّفحة(ص 152).
كان موشيه نوردو يحصل على الصّور من ليفي المصوّر فيرسلها موشيه بدوره إلى العناوين الّتي زوّدوها بها في لندن وموسكو وغيرها منذ اندلاع الحرب العالميّة الثّانية. يحضر ليفي إلى بيت موشيه فجرًا وهو يأتيه بصحيفة عربيّة تنشر صور كريمة عن البيوت الّتي لها أصحاب عرب وتمتلئ بالحياة، حضر إليه ليبلغه بقرار القيادة بضرورة التّخلّص من كريمة الّتي فضحت كذبهم، قائلًا: “لقد هزمتنا مصوّرة عربيّة”، مؤكّدًا: “عليك أن تخاف من أيّ شيء ينشر، أيًّا كانت اللّغة الّتي ينشر فيها، فما دام نشر لن تستطيع محوه ولن تستطيع منع انتقاله”(ص 152). وقبل أن ينتهي الحديث بينهما، وهما جالسان في تلك البرّيّة اشتدّت روائح الأزهار فسأل ليفي موشيه: “هل تعرف رائحة أيّ وردة نشمّ الآن؟ لا لا أعرف، وأنت؟ قال: لا لا أعرف”(ص 154). كانت هذه الرّائحة برأيي رائحة الزّعتر الّتي يميّزها من أحبّ هذا الوطن وعرفه حقّ المعرفة، هي كريمة الّتي استطاعت تمييزه من بين كلّ الرّوائح في ذاك الفجر بالذّات، تزامنًا مع سؤال موشيه، في فجرها الأخير من الحياة. هذا الامتحان الّذي رسب فيه موشيه وليفي كانت كريمة قد نجحت فيه، لا بل كان هو “الامتحانات كلّها”، وهذا هو العنوان الّذي عنونه الكاتب لهذا الفصل. إنّ الامتحانات كلّها كانت في لعبة القسّ وابنته كريمة، تلك اللّعبة القديمة الّتي كانا يلعبانها: من يعرف الأزهار من رائحتها وهو مغمض العينين! كانت عيون موشيه وليفيه مفتوحة ولم يميّزا الرّائحة، أمّا كريمة المريضة بالسّلّ، تلك الّتي كان الموت يسلب روحها شيئًا فشيئًا، أدركت ما كانت تشمّ، ميّزت رائحة الزّعتر والقرنفل والصّنوبر والنّرجس وغيرها، وهي تردّد ضاحكة لوالدها: “غلبتك، غلبتك”. لكنّها مع رائحة الرّيحان الّتي لم تبلغ رئتيها تفارق الحياة، وهي في السّابعة والأربعين من عمرها. لم تكن لعبة القسّ سعيد مع ابنته كريمة عبثًا، بل لها رمزيّة موحية، فحين تفقد كريمة قدرتها على الشّمّ يتأكّد موتها. يأتي هذا للتّأكيد على ارتباط الإنسان بالأرض وشمسها وأزهارها ورائحتها. فكيف لذلك الآتي من بعيد أن يدرك روائح أزهار الأرض إن لم يعشها؟ ليس معنى ارتباط الإنسان بالوطن بأن يملأ حيّزًا زمكانيًّا فقط، بل هو أن يعيش المكان، أن تتماهى روحه معه وتدركه بحواسه كلّها، فيميّز نباته وروائحه، يرى كلّ شيء فيه، وإنْ أغمض عينيه.
من بعيد كان موشيه وليفي يراقبانها في نعشها، وتنتهي الرّواية بالحوار بينهما: “ولكنّني على يقين من أنّها خدعتنا، إنّها تخدعنا”. “ولماذا تقول شيئًا كهذا وقد تأكّدتُ من أنّها اختفت من هذا الوجود؟” ثمّ يلي ذلك نقاط حذف وتنتهي الرّواية(ص161). توصي كريمة أن تكون الكاميرا إلى جانبها في نعشها: “أريدها أن ترافقني حتّى القبر، ولكن لا أريد لها أن تدفن معي، أريدها أن ترى كلّ تلك الأشياء الّتي لن أستطيع رؤيتها فيما بعد”(ص 160). سيرة عين كريمة لا تزال باقية، فهي عصيّة على الموت بما تركته من إرث صورها. كريمة، وإن ماتت، فموتها لا يعني نهايتها لأنّ هناك صورًا خلفها، وصورها تعني بقاء الحياة واستمرارها مستقبلًا. وهذا ما يتأكّد باعتماد الكاتب على الفعل الماضي (خدعتنا) وفعل المضارع (تخدعنا) الّذي يفيد الاستمراريّة. وهذا يتوافق مع رمزيّة الخريف وأسراره، الخريف الّذي لا يعني الموت والسّقوط فقط، بل تجدّد الحياة واستمرار دورتها. وهذا ما توحي إليه نقاط الحذف والمفردات: “خدعتنا”، “تخدعنا”. ولعلّ الكاتب يوحي بهذا إلى فلسطين، فهي الصّور في النّهاية صور الحياة فيها. وهي المرأة رمز للوطن.
تشكّل الشّمس موتيفًا هامًّا في الرّواية. وبرأيي، استوحى الكاتب كلمة “الشّمس” من إعلان كريمة الّتي عرّفت نفسها فيه “مصوّرة شمس وطنيّة”. لقد أدرك مكانة الشّمس في حياتها وفي مهنتها، مهنة التّصوير في اعتمادها على الشّمس ودور النّور والظّلّ فيها، فجعلها رمزًا وموتيفًا يتكرّر في كثير من المواضع، ورد في الغلاف مثلًا: “دائمًا هناك أكثر من شمس، لكن ليس باستطاعة كلّ إنسان أن يدرك هذا”، وفي موضع آخر حين سألها والدها مشيرًا إلى الكاميرا: هل تريدين واحدة كهذه؟ بدا لها وكأنّه يشير إلى الشّمس، وفي جملة أخرى: “أن تصوّر فهذا يعني أن ترسم بالشّمس”. والسّؤال: لماذا الشّمس؟ والجواب: أليست الشّمس رمزًا للحقيقة واليقين والأمل؟ فما معنى كلّ ذلك إن لم يقصد بها الحقيقة؟ إنّ عدسة الكاميرا هي عينٌ ذات ذاكرة، الآلة الّتي كشفت الصّور الكاذبة عن مدينة بلا أصحاب وغرف بلا حياة، وغرف بلا ضحكات ودموع. هي الشّمس/ الحقيقة ضدّ القول: “خدعتنا”. هي الحقيقة ضدّ الخديعة. يوحي الكاتب بأنّ ما فعلته كريمة بتصويرها هو توثيق للحياة الفلسطينيّة. بعينها صنعت تاريخًا بصريًّا موازيًا حتّى للكلمة الّتي يكتبها الكاتب نفسُه، أرشيفًا توثيقيًّا يثبت الهويّة. هي كريمة/ عين الكاميرا الّتي سلّطت النّور في بحثها عن الحقيقة. وهذا يفسّر لماذا كان والدها يناديها بنور العين، ولماذا نعت الإنجليز بإمبراطوريّة الظّلام. فهي الكاميرا الآلة الّتي كشفت ما أخفاه الظّلام بقوّة نورها.
أهداها والدها الكاميرا في فصل الخريف فأدركت سرّ الحياة في الخريف. أدركت ذلك بوعيها النّاضج وثقافتها الّتي سبقت أبناء جيلها. لاحظ والدها هذا التّغيير الرّوحيّ على وجهها فأنشد قصيدة بالألمانيّة. وليست القصيدة إلّا قصيدة “حيرة” للكاتب الشّاعر نفسه، إبراهيم نصرالله، من مجموعته الشّعريّة “عودة الياسمين إلى أهله سالمًا”. تقول القصيدة: “في البداية قالت الخيل أريد سهولًا/ قالت النّسور أريد القمم/ قالت الأفاعي أريد جحورًا /وظلّ الإنسان حائرًا”. يوظّف الكاتب هذه القصيدة بذكاء، ويوردها بالألمانيّة في الرّواية ليضفي مصداقيّة وواقعيّة عليها، ويجعلها على لسان القسّ سعيد الّذي يجيد الألمانيّة. يوظّف الكاتب هذا التّناصّ حين يدرك أنّ ابنته كريمة قد بلغت سلامها الدّاخليّ، مقابل الإنسان الّذي قصده في القصيدة، ذاك الإنسان الّذي يعيش حيرته وعذاباته في بلوغ هدفه ويقينه. وظّفها في سياق كلام كريمة عن رمزيّة الخريف، كريمة الّتي وصلت إلى السّلام الرّوحيّ باكتشافها السّرّ، سرّ الحياة، من خلال دورة الخريف. وليس الخريف هنا إلّا رمزًا إلى أنّ واقع وطن كريمة، أي فلسطين، ليس إلّا مرحلة تمرّ خريفًا، الخريف الّذي فيه الموت والولادة معًا، ولا بدّ أن تتبع الموت فيه ولادة وأمل. وهذا يتأكّد لنا في تعليق كريمة على قصيدة والدها: “أريد النّور”(ص 44). هو نور الحقيقة والخلاص والأمل. وإذا عدنا إلى قولها: “إذا أردت ابنك أن يفهم العالم بشكل صحيح فأهده الكاميرا في الخريف”، ثمّ ما خبرته هي من معنى الضّوء والنّور والشّمس نعي أنّها أدركت سرّ الحياة، بلغت كريمة أسرار الحياة، الموت والولادة، السّقوط والبعث، الضّوء والعتمة، وهي حين أدركت ذلك “غدت حرّة”(ص42)، لأنّها تحرّرت من عتمة الألم واليأس، على الرّغم من كلّ ما أصابها من آلام وحزن بسبب المصائب الّتي انهالت على عائلتها. هي كريمة المرأة الباحثة عن الحرّيّة ونورها، “أكان على كريمة أن ترى الخريف وتفهمه لتدرك أنّ في داخلها كريمة أفضل وأجمل من الّتي تعرفها”؟!(ص 43). في داخل كريمة هناك أمل يتجدّد، فهي لا تموت ولن تموت، لأنّها صاحبة الشّمس والنّور. ولمًا كانت كريمة رمزًا لفلسطين، ففلسطين لن تفقد الأمل في بحثها عن السّلام والنّور.
وإذا ما عدنا إلى ما ذكرناه عن أهمّيّة الخريف في فهم الحياة وقولها: “إذا أردت ابنك أن يفهم العالم بشكل صحيح فأهده الكاميرا في الخريف”، فإنّ هذا لا بدّ أن يكون له علاقة بما سنقوله لاحقًا. لقد اكتشفت كريمة سرّ الحياة من سيرورة فصل الخريف، الخريف الّذي يشكّل موتيفًا مهمًّا في الرّواية، حيث تعلّمت أنّ بعد كلّ سقوط ولادة، وبعد هطول المطر بعث حياة، وأنّ سقوط الأوراق من الشّجر لا يعني السّقوط بقدر ما يعني تجدّد الشّجر، وبعد كلّ ليل وظلمة هناك نهار جديد وشمس في اليوم التّالي، “فخريف الموت الّذي يؤرّقها في اللّيل غير ذلك الخريف الّذي تحبّه ويفتنها في النّهار”(ص 45). أن تكون هناك أكثر من شمس دائمًا فإنّ هذا لا يعني إلّا أنّ كريمة وصلت وبلغت الشّمس، والشّمس هنا هي الأمل والخلاص وليست الحقيقة فقط. هي الحقيقة/ الأمل الّتي تجعلها تتمسّك بالحياة، هي الأمل في الوصول إلى اليقين وكشف الحقيقة، في استعادة الحياة الّتي سلبت في وطنها وبعثها من جديد، وبالتّالي إلى إدراك معنى السّعادة من رحم الألم. وإذا توقّفنا عند الشّمس ودلالتها مرّة أخرى: الحقيقة واليقين والأمل، وربطنا هذا مع قول كريمة: “أريد النّور”، ومع ما رآه والدها القسّ في حال كريمة: “بدت له كريمة كإنسان ما وصل، أو في طريقه لأن يصل إلى سلامه الدّاخليّ”(ص 44)، والسّؤال الّذي سأله الرّاوي: “أكان على كريمة أن ترى الخريف وتفهمه لتدرك أنّ في داخلها كريمة أفضل وأجمل من الّتي تعرفها”؟!(ص 43)، فإنّ كلّ هذا يرتبط ويتعالق معًا برابط قويّ ليذكّرنا بالصّوفيّة. إنّ مفردات: الشّمس، الحقيقة، النّور، الطّريق والوصول، كلّها مفردات صوفيّة. الأمر الّذي يؤكّد على الرّمز الصّوفيّ الّذي يوظّفه الكاتب في روايته، أو يشير إلى تأثّره بالصّوفيّة على أقلّ تقدير. والأمر الّذي يعني أنّ كريمة المرأة الشّمس الباحثة عن النّور ليست إلّا امرأة معذّبة، كصوفيّ، وهذا ما يؤكّده سؤال الرّاوي أعلاه. كصوفيّ تتعذّب كريمة وهي تبحث في طريقها عن نورها وسعادتها. تحمل صليب آلامها ساعية إلى الخلاص والحقيقة الّتي تحقّق لها السّلام الدّاخليّ والسكينة. تبحث عن الشّمس حتّى تقشع بنورها كلّ ظلمة كذب وخداع حجبت حقيقتها وسلامها، وسلبت هويّة وطنها وحقيقة وجوده. لكنّ كريمة استطاعت الوصول وفهمت العالم فغدت حرّة، فهي الّتي كانت ترفض أن تستنسخ صورها وأن يفرض عليها أحد قراره وسيادته، أو أن “يخيط لها مقاس ثيابها” وفقًا لأهوائه ورغباته هو.
يجعل الكاتب كريمة تتمتّع بحسّ وطنيّ، واعية لدورها في النّضال السّياسيّ حين نشرت إعلانها. فهي لم تخش مواجهة الإنجليز. صوّرت الجنود وعلّقت الصّورة بالمقلوب جاعلة رؤوسهم للأسفل وأقدامهم للأعلى. هكذا حاربت بسلاحها الّذي تعرفه. فأن تصوّرهم وتعلّق الصورة مقلوبة يعني ثورتها ضدّهم. ولذا قد تعني كلمة “وطنيّة” في إعلانها “مصوّرة شمس وطنيّة” إشارة لموقفها الوطنيّ أكثر من مجرّد كونها مصوّرة محلّيّة، على الأقلّ كما يراها الكاتب أو كما يريد أن يراها، وحتّى لو كانت الحقيقة عند كريمة عكس ذلك. إذ يسعى الكاتب بخياله وبما يلائم دلالات روايته هذه لأن يبني حبكة روايته بالخيال، مثلما أشار في إحدى العتبات. فيتخيّلها كصاحبة عين رأت ما لم يرَ غيرها. استبقت بوعيها الأحداث ووعت أهمّيّة التّصوير في كشف الحقيقة وتوثيقها. ولقد جعل الكاتب والدها القسّ يكشف عن هذا بقوله لها: “كنت تدركين بحدسك أنّ الأمور لن تتوقّف عند لحظة الاعتقال (اعتقال أخيها كريم)، بل إنّ شيئًا كبيرًا سيحدث.. إنّ وضع هذه البلاد سيتغيّر بسبب هؤلاء الجنود. من يتجرّأ ويغلق الباب المؤدّي إلى مكان عبادة، الباب المؤدّي إلى السّماء سيفعل كلّ شيء لإغلاق أبواب الدّنيا أمام هذه البلاد، أمام البشر”(ص 57). لقد ترعرعت كريمة في ظلّ والد ملك الحسّ الوطنيّ وكان له نشاطه النّضاليّ في الكنيسة ضدّ الاستعمار. إذ تنبّه القسّ سعيد لخطورة الوضع وأخذ مع عدد من القساوسة، من بينهم حنّا بحوث، يجتمعون في الكنيسة كلّ ثاني خميس في الشّهر في أمسيات إنجيليّة لمعالجة قضايا السّاعة، وخاصّة السّياسيّة منها. وهذا ما يعزّز توجّه الكاتب في إيمانه بأنّ كريمة كانت وطنيّة فعلًا، إضافة إلى أنّ ذلك يخدم دلالة روايته. وممّا يؤكّد هذا ردّها على المعلّمة الإنجليزيّة والدّلالة الّتي اقترحناها أعلاه، وذلك حين تطلب منها المعلّمة خياطة ثوبها فترفض. ففي رمزيّة الشّمس في ردّها عليها: “أريد أن أكون فنّانة وأرسم بالشّمس”، كأنّي بكريمة تقول لها برفضها: “أريد أن أكشف الحقيقة، أرفض “خياطتك” لبلادنا وتقسيماتك”. وعليه، ترمز المعلّمة الإنجليزيّة هنا إلى الاستعمار الإنجليزيّ الّذي حلّ على أرض وطنها. هذا الاستعمار الّذي جاء “يخيط” للوطن مستقبلًا مظلمًا يحجب كلّ شمس ترفض كريمة أن تسلّم به وتقبله، ولذلك ترفض “خياطته”. فإذا كان هناك مخطّط “لخياطة” الوطن و”تفصيل ملابس” جديدة له، فإنّها كريمة تثور ضدّ هذا المخطّط، ساعية لرسم الحقيقة كما هي. ولذلك قالت بأنّها لم تهتمّ حين غضبت منها المعلّمة. هذه المعلّمة الّتي سخرت من كريمة بعد رفضها: “هل تريدين أن تكوني أميرة في بلاد المتخلّفين؟”، فتردّ كريمة بذكاء: “يسوع الّذي تعتنقين دينه هو ابننا، ابن هذه المدينة، فهل تقولين إنّك تعتنقين دين المتخلّفين؟”. يأتي رفضها هذا لأنّها أدركت أنّ وراء هذه الخياطة مستقبلًا آخر لا تريده، لذا تقول كريمة واعية لمآرب المعلّمة: “ربّما لو كانت تحبّنا قليلًا لخطت لها الفستان، ولكنّها لا تحبّنا”(ص 24). يؤكّد هذا أنّ “الحقيقة” الّتي تصبو إليها كريمة في بحثها عن النّور، هي الحقيقة الّتي تعلنها في رفضها خياطة فستان ثوب المعلّمة الإنجليزيّة، أي رفضها قبول هذا الاستعمار، ذاك الثّوب الّذي يسلب الحقيقة. بل إنّ في رفضها من جهة، وسعيها للبحث عن النّور/ الشّمس من جهة أخرى، سعيًا لأن تكون الحقيقة عارية مكشوفة، وبوجهها الحقيقيّ. وهذا يعيدنا إلى رمزيّة الصّورة الأولى الّتي التقطتها كريمة، صورة وجوه أفراد عائلتها والشّمس تسقط على وجوههم. كنّا قد ذكرنا أنّ كريمة بالتقاطها لهذه الصّورة حقّقت سعادتها في تصوير شيء مختلف لا تشبه فيه أحدًا ممّن سبقها من المصوّرين. في هذه الصّورة بالذّات اكتملت سعادتها وبلغت يقينها في مهنة التّصوير، وكان ذلك في اليوم السّابع كرمز للكمال والاكتمال. إذًا هو اكتمال الحقيقة والوصول كصوفيّ يصل إلى اليقين. وكلّ هذا يدلّ على وعي كريمة وحسّها الوطنيّ السّياسيّ، تمامًا مثلما يرغب الكاتب بتصويرها في روايته. وإلّا فلماذا اختار أن تكون المعلّمة إنجليزيّة وليست ألمانيّة أو عربيّة مثلًا؟ فإذا كان الأمر مجرّد مهنة ستمتهنها كريمة في المستقبل للدّلالة على قوّة وعيها في اختيار ما تريده في الحياة في البعدين الاجتماعيّ والنّسويّ وليس السّياسيّ، لاختار الكاتب خيّاطة عربيّة ومن بيت لحم مثلًا، لكنّ المسألة هنا هي رمز سياسيّ محض. إذًا هي كريمة الحرّة الّتي كانت تبحث عن حرّيّتها وخلاصها وحقّ تقرير مصيرها. كريمة الرّافضة الثّائرة، الشّمس الباحثة عن النّور، هي “سيّدة القرار وصاحبة السّلطة المطلقة على الصّورة الّتي تلتقطها”. وبالتّالي ليست كريمة إلّا رمزًا لفلسطين الّتي يحلم بها الكاتب ويصبو بتفاؤل لأن تكون يومًا: سيّدة نفسها وصاحبة السّيادة على وطنها.
وفي مصادفة مثيرة، وبعد أن كتبت كلّ ما كتبت هنا، خطر في بالي أن يكون الكاتب قد غيّر وبدّل في بعض المعلومات فيما يخصّ تفاصيل زواج كريمة أو تاريخه. وفعلًا حين بحثت في سيرة كريمة عبّود، تأكّدت أنّ تفكيري في محلّه. إذ غيّر الكاتب- وهو الدّارس عن حياتها بدقّة كما تبدّى لنا- بأمرين هما: عمر زواج كريمة واسم الزّوج. وبرأيي لم يكن هذا التّغيير نابعًا من خطأ ورد سهوًا، بل كان لغرض تعمّده الكاتب وسآتي على تحليله لاحقًا. من يقرأ عن حياة كريمة يجد أنّها، وحسب ما يقوله الباحث أحمد مروات، تزوّجت عام 1931 من عائلة طايع اللّبنانيّة، (دون ذكر الاسم الشّخصيّ)، غير أنّها طلّقت منه عام 1936، وبعد أن أنجبت منه سميرًا. وهذا بخلاف مصادر أخرى تقول بعدم زواجها وبقائها عزباء. فإذا كانت كريمة قد ولدت عام 1893 وتزوّجت عام 1931 حسب مروات، فإنّها كانت تبلغ 38 عامًا، بينما في الرّواية تتزوّج من “يوسف فارس”، وليس من عائلة طايع. ولعلّ عدم تحديد الاسم الشّخصيّ وعدم معرفته سهّل على الكاتب هذا التّغيير في ضرورة تحديد الاسم لشخصيّة الزّوج واختياره في رمزيّة مقصودة. تتزوّجه وهي في جيل السّادسة والثّلاثين وتبقى معه لسنة واحدة أو أكثر قليلًا، وليس لخمس أو ستّ سنوات كما عند مروات. فما معنى ذلك وما غرضه؟ وهل هناك رمزيّة ما وراء تغيير الكاتب بهذه التّفاصيل؟ من الواضح لنا، ووفقًا للمنظور السّيميائيّ، أنّ الكاتب لا يأتي بشيء إلّا بقصد وعن عمد، وأنّه لا يغيّر أو يرتّب شيئًا في حبكته إلّا ويقصد دلالة وغرضًا ما، فهو يدرس كلّ تحرّكاته كلاعب شطرنج ماهر. ولذا برأينا، جعل الكاتب كريمة تتزوّج في جيل السّادسة والثّلاثين ليشير إلى ثورة عام 1936 بغرض الرّبط بين المرأة والوطن، أي كريمة كرمز لفلسطين. تتزوّج كريمة من “يوسف فارس” الغنيّ “العابث الّذي لم يستطع الحزن (لموت زوجته السّابقة) إخفاء اندفاعه للّهو والعبث في وقت كانت فيه كريمة ذات شخصيّة هادئة”(106)، وهو الّذي بعد سنة يبدّد كلّ أمواله ويأتي طالبًا أن ترحل معه فترفض. كان من المفروض أن تجد كريمة الخلاص والسّعادة في هذا الزّواج، كأيّ أنثى تنتظر طويلًا فارس أحلامها، ذاك الحبيب، لتنشئ معه أسرة وتنجب أطفالًا، لكنّ يوسف فارس، لم يكن ذاك “الفارس” الّذي تحلم به أيّ أنثى، ولم يكن حبيبًا محبًّا، بل كان لاهيًا عابثًا غير مسؤول. ولذلك يؤكّد الكاتب أنّ قبول كريمة لهذا الزّواج، على الرّغم من كونها واعية مثقّفة، كان بسبب غلبة مشاعر الأمومة عليها، أي غلبة العاطفة على رجاحة العقل في اختيار الصّواب. وإذا أردنا أن نحدّد دلالات هذا في البعد السّياسيّ، البعد الّذي يخفيه الكاتب وراء هذه الرّموز، ستمسي المعادلة كالتّالي: يمثّل الزّواج بين الرّجل والمرأة معادلًا موضوعيًّا ورمزًا لعلاقة الحاكم بالشّعب والوطن. فحين يكون الزّوج مستبدًّا متسلّطًا ولا يحترم المرأة ويسلب حرّيّتها يكون الزّواج أشبه بالاستعمار أو الاحتلال. وعليه يرمز الكاتب بالزّواج نفسه، زواج كريمة من يوسف فارس، كمعادل موضوعيّ لهذا الاستعمار. وهذا يفسّر لماذا حبك الكاتب الأحداث بهذا الشّكل وبهذا الخيال، أي أن تتزوّج في جيل السّادسة والثّلاثين، وأن يتخيّل أنّ زوجها، والّذي كان لبنانيًّا فعلًا، سعى ليأخذها معه إلى لبنان ضاربًا رصيدها وسمعتها من مهنة التّصوير عرض الحائط، ثمّ “تاريخها” الّذي صنعته بيديها، مقرّرًا أن تعيش معه في دولة أخرى بعيدًا عن وطنها وأهلها، ثمّ يبدّد أمواله بعبثه ولهوه فاقدًا أهليّته. لقد حاول يوسف أن ينتزعها من وطنها ليجعلها تابعة له وتتبعه إلى “بلد آخر”، حاول أن يفصّل لها “لباسًا” كما يريد هو- اللّباس الّذي رفضت أن تخيطه للمعلّمة الإنجليزيّة- ساعيًا لمصادرة حرّيّتها بهذا الزّواج، وسلب سيادتها على نفسها. وكلّ هذا يوظّفه الكاتب رمزًا لما يفعله الاستعمار. ولما تمّ زواج كريمة وهي في جيل السّادسة والثّلاثين، فمعنى ذلك أنّ كريمة هي الشّعب/ الوطن الفلسطينيّ، وأنّ جيلها يرمز إلى ثورة الـ1936. أمّا ما يرمز إلى الاستعمار الإنجليزي فهو الاسم يوسف فارس. إنّ الاسم يوسف هو اسم أعجميّ، وهذا ما يؤكّد على دلالتنا هذه (فهو ليس “يوسف” الشّاعر محمود درويش، أي يوسف العربيّ في قصيدته “أنا يوسف يا أبي”.) أمّا لهوه وعبثه فإشارة إلى عبثه بمصير شعب آخر. وهو ليس بالزّوج “الفارس” الشّهم ولا يتمتّع بالفروسيّة، بل هو زوج مستعمر محتلّ.
كنّا قد أشرنا إلى إنّ جيلها السّادسة والثلاثين والّذي تمّ فيه الزّواج واستمرّ سنة أو يزيد هو إيحاء للثّورة عام 1936، الثّورة الّتي حدثت في ظلّ هذا الاستعمار (الزّواج) وكردّ فعل ضدّه وضدّ تداعياته ومخطّطاته، لكنّها توقّفت بعد أن انطلقت نتيجة لوعود الإنجليز ومطالبة بعض الدّول العربية بإنهاء الإضراب. وقد ورد في الرّواية على لسان القسّ حنّا بحّوث: “احتملوني إذا قلت إنّ هذه الثّورة كانت فرصة فلسطين الوحيدة لأن تتحرّر في هذا الوقت، ولقد أضعناها بحيث بتّ أردّد في نفسي: هل أضعنا فلسطين حين أضعنا هذه الثّورة مستندين إلى وعود الإنجليز ووعود زعمائنا العرب الّذين يستعمر الإنجليز بلادهم؟ هؤلاء الزّعماء الّذين لو كانوا يملكون الحرّيّة لتنفيذ وعد فالأحرى بهم أن تكون وعودهم لشعوبهم لأن يحرّروها من الإنجليز لا أن يصبّوا الماء على نار ثورتنا الّتي لم يستطع الإنجليز إطفاءها بالنّار”(ص 140-142). إذا كانت كريمة تصبو إلى الزّواج من رجل فارس كريم مسؤول، يمنحها الحبّ والدّفء وتبني معه أسرة سعيدة، فها هي فرصتها قد ضاعت مع هذا الزّوج “المحتلّ” غير الحبيب، غير الفارس، الّذي لم يتوان عن محاولة العبث بمصيرها، رغم أنّها لم ترضخ لرغباته في النّهاية، بل رفضت بإصرار، فتركها. وهذا هو معنى الثّورة على الرّغم من إضاعة الفرصة. من هنا قد تكون الثّورة رمزًا للأمل عند الكاتب إذا ما ربطناه بولادة سمير. فلعلّ الكاتب يرى في رمز ولادة الطّفل سمير النّاتج عن هذا الزّواج “الفاشل” “الاستعماريّ” الأمل والشّمس المنبثقة عن عتمة الاحتلال في خريف ستتبدّل شموسه. وهذا يتأكّد لنا حين يصف الكاتب أنّ التأكّد من هذا الحمل “محا الذّكرى الأليمة”(ص 110) الّتي خلّفها هذا الزّواج. هذه الثّورة الّتي لم تكتمل، كالزّواج الّذي لم يكتمل لكنّه أنجب طفلًا. ولهذا “كان الكثيرون غير واثقين من أنّ فلسطين قد نجت حين تمّ الاتّفاق على وقف الثّورة”(ص 139)، ففلسطين التي أضاعت فرصة الثّورة بسبب تحكّم الحكّام العرب بمصيرها وقرارهم بإيقاف الثّورة خُدعت ولم تنجُ، تمامًا مثلما “خدعت” كريمة بهذا الزّوج والزّواج. وعليه، إذا كانت كريمة= فلسطين، وفارس = الاستعمار الإنجليزي، وكريمة تزوّجت من فارس فإنّ هذا الزّواج= الاستعمار. ولمّا كان الزّواج في جيل السّادسة والثّلاثين، فإنّ الجيل هنا هو إيحاء للثّورة الّتي ولدت بسبب هذا الاستعمار. ولمّا حملت كريمة وأنجبت طفلًا فإنّ هذا المولود هو “الثمرة” الوحيدة من هذا الزّواج في حياة كريمة، ممّا يعني أنّه الأمل الّذي منحها السّعادة والتمسّك بالحياة. وممّا يؤكّد على هذه الدّلالة وصف الكاتب الثّورة “بالثمرة”: “وفي النّهاية كان لا بدّ من أن تكون هناك ثمرة بعد هذا، وهذه الثّمرة كانت الثّورة”(ص 142). وإذا كان الطّفل سمير= ثمرة الزّواج، والزّواج= الاستعمار، إذًا ثمرة الاستعمار = الثّورة بالضّرورة، مثلما وصفها الكاتب. وهذا كلّه يؤكّد دلالتنا المقترحة بأنّ الزّواج هنا معادلًا ورمزًا للاستعمار والاحتلال، وأنّ الكاتب يرى بالثّورة، على الرّغم من عدم نجاحها، رفضًا طبيعيًّا وأملًا مولودًا نحو الخلاص.
يؤكّد القسّ حنّا بحّوث بقوله: “لقد ردّدت دائمًا يا قسّ سعيد قول يسوع عليه السّلام: “لا يجتمع الماء والنّار في إناء”. وهذا صحيح، ولا شكّ فيه، لكنّ نار الإنجليز اجتمعت مع ماء الحكّام العرب، وإذا كانت معجزة كهذه قد تحقّقت في اجتماع ماء ونار عدوّين معًا، فإنّ علينا أن نخاف كثيرًّا من تلك الرّياح القادمة من المستقبل”(ص 143). إنّ النّار والماء كانا يتردّدان على لسان القسّ سعيد كتناصّ شكّل موتيفًا هامًّا. إذ يأتي هذا التّناصّ موافقًا تمامًا لما نفرضه من دلالة، فنار الإنجليز تجتمع مع ماء الحكّام العرب، والماء يأتي ليدلّل على سعيهم لإخماد الثّورة مثلما يخمد الماء النّار. ولمّا كان الإنجليز (النّار) قد استعمروا فلسطين، والحكّام العرب (الماء) قد تنازلوا ووافقوهم على رغباتهم فإنّهم بذلك حدّدوا مصير فلسطين و”الرّياح القادمة في المستقبل”، فيصبح موقف الحكّام العرب مساويًا موازيًا للاستعمار. وهذا ما عاناه القسّ سعيد بعبارة السّيّد المسيح، حيث اجتمعا، وهما العدوّان، في إناء واحد. أمّا ما قاله القسّ بحوث عن الزّعماء العرب: “هؤلاء الزّعماء الّذين لو كانوا يملكون الحرّيّة لتنفيذ وعد فالأحرى بهم أن تكون وعودهم لشعوبهم لأن يحرّروها من الإنجليز”، فيفسّر لماذا اختار الكاتب بأن يجعل ليوسف زوجة سابقة، فتكون كريمة هي الثّانية بعد موت الأولى. وهذا يتوافق مع دلالتنا المقترحة، أي أنّ هذه الزّوجة، زوجته الأولى، هي رمز للشّعوب العربيّة الّتي وقعت تحت الاستعمار الإنجليزيّ نفسه، ولم يستطع حكّامها أن يحرّروها منه.
ثمّ ماذا عن العنوان؟ سيرة عين؟ أهي سيرة كريمة أم سيرة وطن؟ وهل يشير الكاتب إلى أنّ كريمة تنبّأت بعين البصيرة بما قد يحدث لاحقًا من فقدانها لوطنها؟ أم هي عين كريمة الّتي كان والدها يناديها بنور العين؟ كريمة الّتي اختارت عينها لتكون مصدر مهنتها وشغفها ووجودها اختارت عينها ممزوجة بعين الكاميرا، فعين + عين يساوي عين الكاميرا، والكاميرا هي الشّمس، والشّمس ليست إلّا الحقيقة. ولمّا كانت كريمة قد اختارت أن تكون عينها مرآة لوطنها، إذًا هي ليست سيرة كريمة وحدها. هي سيرة من عاش معها على هذه الأرض، وكريمة سعت لتوثيق ذلك، مردّدة: الغياب والصّورة لا يجتمعان. وإذا كان نصرالله يكتب الملهاة ليسجّل ما غُيّب، فإنّ كريمة قد سبقته بنضالها هذا، لكنّه أدرك قوّة هذه الأنثى فبعثها من طيّات الغياب ليذكّرنا.
(ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 21.11.2019)
بقلم د. لينا الشيخ حشمة,