حكاية مكان (كفر قاسم) ….بقلم: نعمان إسماعيل عبد القادر
تاريخ النشر: 08/12/19 | 8:43سألني الكثير من الناس عن أصل تسمية مدينة “كفر قاسم” بهذا الاسم، وبعد البحث والتقصي وجدت لهم حكاية غريبة في الميثولوجيا. ووفقًا للأساطير القديمة المنقولة فإنَّ راوي الحكاية يتحدث عن ملكٍ، جبّارٍ، مخيفٍ، يدعى “مجدلزيوس”، قد بنى لنفسه قصرًا حصينًا عاليًا على سفح جبل “يابا” القريب من “يافا” قرب منبع نهرٍ متعرّجٍ يسمى “نهر العوجا”. اعتاد الملك الخروج كلّ عام مع نهاية فصل الربيع وبداية فصل الصيف، برفقة حاشيته، إلى النهر؛ لمراقبة الفتيات العذارى اللائي اعتدْنَ الحضورَ كلَّ يومٍ من نواحٍ عديدةٍ لملءِ الجرارِ من مياهِ النهرِ العذبة. فإِذا وقع بصرهُ على إحداهن وأُعجِب بها خَطَبَها وَتَزَوَّجَها.
في أحدِ الأيام، بينما كان الملكُ جالسًا يراقبُ الفتياتِ من خيمته قرب النهرِ؛ لاختيار الزوجة الجديدة. إذ وَقَعَ بصرُهُ على قاربٍ صغيرٍ تجلسُ فيه امرأةٌ فائقةُ الجمالِ، ورجلٌ جميلُ الطلعةِ، وولدان صغيران وسيمان. أُعجِبَ الملكُ بجمالها وأمَرَ حرّاسَهُ بإحضارَها عُنْوَةً وَبقتلِ زوجِها وولديْهما إِنْ أَبدى كلٌّ منهم أيَّ نوع من المقاومةِ.
نّفَّذَ الحراسُ الأوامرَ في الحالِ وَقَتلوا الرجلَ وولديْه. أمّا المرأةُ فقد اقتيدتْ إلى قصرِ الملكِ في سفح جبل “يابا” ثم أقيمت الأفراح، مثلما تقام في كلّ مرة، وتزوَّجها. وَبعد عام أَنْجَبَت طفلاً، ظهرت على خدّه الأيمن شامة صغيرة.
وكان من عادته كلّما وُلِد له طفلٌ، ذَهَبَ إلى العرّافة في معبد “زلفى” ليسألها عن مستقبله، ومَنْ مِنْ أبنائه الذي سيخلفه في حكم هذه المملكة من بعده. في كلّ مرة كانت العرافة تجيبُه بأن الملكَ القادمَ لم يُخْلق حتّى الآن. ذَهَبَ الملكُ إلى العرّافة كعادتِهِ ليسأَلَها عن مستقبل ابنه الجديد وهو يأملُ أن يكونَ ملكًا من بعده. نظرت العرّافةُ في فناجينها ثم انتفضت في مكانها وقالت في دهشةٍ: إنَّ غضبَ الآلهةِ قد يحلُّ عليك لقتلِكَ ربَّ القاربِ وولديه واتّخذتَ زوجته عنوةً زوجةً لك، ولهذا فقد قضت الآلهةُ أن يقتلكَ ابنُك هذا ذو الشّامة، ويصبح ملكًا من بعدك.
استشاطَ الملكُ غضبًا من كلامِ العرّافةِ ومنْ نبوءتِها المشؤومةِ ثم استلَّ سيفه وضرب به عنقها فوقعت صريعةً في الحال. ثم أمر أحد وزرائه بحمل الطفل وقتله في أحد البراري القريبة دون أن يعلم بذلك أحد. ومنذ ذلك اليوم منع الموسيقى والنحت والرقص والفن والتمثيل والرسم في جميع أنحاء مملكته لشعوره بالتشاؤم..
انتزع الوزير الطفل من بين يدي أمه الحزينة وسار به دون أن يغيب عن ناظريه منظرها وهي تصرخ من أعماق قلبها إلى أن وصل إلى كهف قرب مقام النبي “ماتيوس”، ولم تطاوعه نفسه على قتله، فوضعه في المغارة ثم غادر المكان.
قضى الطفل في المغارة باكيًا ساعة، ثم انفتحت أبواب السماء، فلجأ الناس إلى الأماكن القريبة للاحتماء من الأمطار الغزيرة. وكانت قد وصلت في تلك الأثناء قافلة من التجار قادمة من مصر محملة بالبضائع وهي في طريقها إلى الجليل. لجأ التجار إلى الكهف وعثروا على الطفل الباكي. بعد انقطاع المطر حملوه معهم إلى بلادهم وقدّموه هدية لملكهم الذي لم يكن يُنجب إلا إناثا دون الذكور. وكان الملك قد لجأ في وقت سابقٍ إلى عرافة فأخبرته بأن وريثه طفل وجهه مشرق وعلى خده الأيمن شامة صغيرة، يأتونه هدية في ساعة الغروب من يوم الجمعة. تمعَّن الملك في وجه الطفل وتذكَّر كلام العرّافة واتخذه ولدًا وسمّاهُ “جلجاليوس”.
ترعرع الصبيُّ في القصر وأحبه الجميع كثيرًا لجماله وذكائه وجمال أخلاقه. ولما أصبح شابًّا يافعًا عيَّنه الملك ليكون نائبًا له ووليًّا للعهد. ولمّا توفيّ الملك صار “جلجاليوس” ملكًا على هذه البلاد.
ذات يومٍ خرجت قافلة من بلاد الجليل الى مصر وسارت في طريقها إلى أن وصلت إلى منابع نهر العوجا في أصيل ذلك اليوم. قرَّر أفرادها المبيت قرب النهر حتّى يطلع الصّباح. توجهت بعض النسوة والفتيات ممّن كنّ في القافلة لملء الماء من النهر. وبينما كان الملك “مجدلزيوس” يتجوّل في المكان مع حاشيته باحثًا في تلك الساعة عن فتاة لتكون زوجته الجديدة كعادته. إذ وقع بصره على إحداهن وكانت زوجة رئيس القافلة فأمر على الفور بإحضارها وقتل أفراد القافلة والاستيلاء على أموالها. نجا أحد التجار من بطش “مجدلزيوس” وعاد إلى بلاده على ظهر فرسه مسرعًا وأخبر ملك الجليل بواقعة العوجا وما حدث للقافلة. غضب الملك غضبًا شديدًا وأمر بتجهيز جيش كبير والزحفِ به إلى رأس العين لتاديب “مجدلزيوس”. وصل الجيش إلى مشارف رأس العين وحاصر القلعة الّتي تحصّن فيها “مجدلزيوس” وجنوده، أسبوعًا، ثم قُصِفت بالمنجنيق فاستسلم “مجدلزيوس” على الفور واقتيد مع وزيره إلى خيمة الملك الشابّ مقيدا بالأصفاد. نظر “مجدلزيوس” ووزيره في وجه الملك فرأى فيه جمالا يشبه جمال والدته ورأى شامته في خدّه الأيمن فتذكَّر نبوءة العرافة المشؤومة التي قتلها في معبد “زلفى”. همس في أذن الوزير وسأله عن مصير الطفل الذي أرسله معه ليقتله، فاعترف له بأنه وضعه في المغارة.
ضرب الملك الشاب “مجدلزيوس” بسيفه على عنقه فقتله، وأمر بسجن وزيره. كتب الوزير من سجنه رسالة إلى الملك الشاب قائلا فيها:
“أيها الملك العظيم “جلجاليوس”! وفقا لنبوءة العرّافة، أنا لن أشكَّ بأن تكون أنت ابن “مجدلزيوس” الذي قتلته بيدك، واعلم بأنني أنا الذي حملتُكَ حينَ كُنتَ طفلاً بأمرٍ منهُ كيْ أقتلكَ؛ حتّى لا تتحقق نبوءة عرافة معبد “زلفى”، ولكن لم تطاوعني نفسي على قتلِكَ وأشفقتُ عليكَ وعلى أمِّكَ المسكينةِ التي تركْتُها تصرخُ كئيبةً مجروحةَ الفؤادِ حزنًا عليكَ. ثم وضعتُك في مغارةٍ ولا أدري ماذا حصلَ معكَ بعدَ ذلكَ. ولكنَّني لا أظنُّ بأنْ تكونَ ابنًا لملك الجليل لأنَّني لا زلتُ أتذكَّرُ الشّامةَ في خدّك الأيمن منذ أن تركتُك في الكهفِ حتَّى هذهِ اللحظةِ. فاغفرْ لي واعفُ عنّي كَما أشفقتُ عليكَ وعَلى والِدَتِكَ! والسَّلام ختام”
قرأ الملك الشاب الرسالة وأصيب بالدهشةِ وراح يستفسر عن حقيقة ما جاء فيها. واستمرَّ في البحث حتى اهتدى إلى أحد التجار وأخبره بالحقيقة الكاملة. أطلق الملك سراح الوزير وأمر بتحرير النّساء والعبيد في قصر “مجدلزيوس” وإحضار أمّه كي يراها، فأُحضرت إليه في الحال. نظر في وجهها ورأى الحزن في عينيها وأخبرته بكلِّ ما حدث معها من أحداث.
ثم أمر ببناء مدينة قرب الكهفِ الذي وضع فيه وهو رضيع شرقي مقام النبي “ماتيوس” وأطلق عليها اسم “كهف قاسم”؛ لأنه قسمها إلى سبعة أحياء، ومنح كل واحد من قادة جيشه السبعة حيّا تكريمًا لهم على انتصاره في المعركة؛ ثم لأنه أقام العدل في البلاد وقسم الثريد ووزعه على الناس جميعًا دون التمييز بين الغني والفقير. ثمَّ اتّخذها عاصمةً لمملكته، ثم سمح للناس بسماع وعزف الموسيقى وأعاد النحت والرقص والفن والتمثيل والرسم إلى سابق عهدها وعادت معها الابتسامة على وجوه الناس مثلما كانت من قبل.. وبفعل عوامل الوقت وتأثيراته الزمنيّة بات الناسُ يطلقون عليها اسم “كفر قاسم”.