قراءة في شعر فدوى طوقان: في ذكرى رحيلها السادسة عشرة
تاريخ النشر: 10/12/19 | 10:46بقلم : شاكر فريد حسن
بدأ الأدب شعراً ، فالشعر لغة العاطفة ، والعاطفة لغة الشعر . وكما يبدأ الطفل بالشعور والاحساس ، بالضحك والبكاء، بالألم والسرور، ثم ينتقل الى طور الفكر ودراسة الامور بالعقل.. كذلك تبدأ الامم بالشعور والاحساس وتعبر عنه بالشعر ، الذي يولد من المعاناة والألم . ومع مأساة فلسطين ، التي تصارع الموت انسكبت الشكوى داخل القلوب فأشعلتها كالنيران وفجرتها كالقنابل.
ومن الشعراء الذين خلقتهم المأساة الفلسطينية خالدة الذكر فدوى طوقان ، التي تحل في هذه الأيام، ذكرى رحيلها السادسة عشرة، ابنة جبال النار وشقيقة الشاعر الفلسطيني الخالد ابداً في الذاكرة ابراهيم طوقان ، الذي اختطفته يد المنون وهو في زهو الشباب وعمر الورود.
وقد اتحفتنا الراحلة فدوى طوقان خلال مسيرتها الشعرية بـ (8) دواوين شعرية وهي : ” وجدتها ، وحدي مع الايام ، اعطنا حباً ، امام الباب المغلق، الليل والفرسان، الوجه الذي ضاع، على قمة الدنيا وحيداً ، وقصائد سياسية “.
تعكس فدوى في اشعارها مشكلة القلق النفسي والضياع الذي يعاني منه الجيل الصاعد المؤمن بالحرية . وطبيعي ان تغني للهروب من الواقع الذي تجلى في اتجاهها نحو الطبيعة . وتؤكد مدى تأثرها بالرومانسية حين تعانق الطبيعة وتذوب فيها الى درجة تبلغ حد الصوفية .. فاستمع اليها تقول في قصيدة مع المروج :
هذي فتاتك يا مروج فهل عرفت صدى خطاها
عادت اليك مع الربيع الحلو يا مثوى صباها
عادت اليك ولا رفيق على الدروب سوى رؤاها
كالأمس ، كالغد ثرة الاشواق ، مشبوباً هواها
وهي ابنة للطبيعة في معظم اشعارها الاولى ، ويبدو ذلك واضحاً في هذا البيت من قصيدة اشواق حائرة :
اهي الطبيعة صاح هاتفها اهي الحياة تهيب بابنتها؟
وما يلفت النظر في شعر فدوى طوقان تلك النفحة الحزينة ، التي استفاضت في دواوينها . ولو بحثنا عن سبب هذه الاحزان ، التي ملأت قلبها حتى اصبح الاسى لغتها وعاصفتها الهوجاء ، فنجد ان تجربتها تقوم على ما يلي:
– حرمانها من العطف والحنان وهي طفلة.
– ثورتها على تقاليد مجتمعها البالية ، التي وقفت حائلاً بينها وبين انطلاقة نفسها.
– وفاة شقيقها ابراهيم ومن ثم نمر ، الذي سطا عليه الموت دون ان تلقي عليه نظرة الوداع الاخيرة ورسم القبلة على جبينه بسبب وجودها في ارض الغربة:
اهكذا بلا وداع يا حبيبنا ويا
اميرنا الجميل
لا نظرة اخيرة تحملها زاداً لنا
في وحشة الفراق.
وحياتها ـ كما اسلفنا ـ مليئة بالمآسي والاحلام حتى قيل انها خليفة الخنساء. انها تبكي لتمسح الاحزان من افئدة الأشقياء المعذبين ، وقلبها وحياتها شوق وديوان شعر وعود.. فتقول:
حياتي ، حياتي اسى كلها
اذا ما تلاشى غدا ظلها
سيبقى على الارض منه صدى
يردد صوتي هنا منشداً
حياتي دموع
وقلب ولوع .
وتتساءل اذا كان اللـه يسمعها وقد عادت اليه بعد قلق وضياع لكنها في النهاية تجد ان رحاب الرب ما زالت مغطاة بالتراب:
ان كنت هنا فافتح لي بابك لا…
تحجب وجهك عني
وانظر يتمي وضياعي
بين خرائب عالمي المنهار
وعلى كتفي احزان الارض
واهوال القدر الجبار
عبثاً لا رجع صدى لا صوت
عدوي ، لا شيء هنا غير الوحشة
والصمت وظل الموت.
وتكاد تكفر باللـه لانه لم يات لنجدتها :
انت يا من قيل عنه انه هناك
حان لطيف بالعباد
حان لطيف بالعباد اين انت ؟
دعني اراك كي اقول، انه هناك.
وعند اشراقة القمر الوضاء في الليالي الدامسة تتذكر شقيقها ابراهيم حبة القلب وضوء الناظرين ، فتظلم نفسها وتتساءل عن وجوده، الى اين ذهب؟؟؟
كلما اشرق في الليل القمر
مترعاً بالنور اعصاب الزهر
اظلمت نفسي وهاجتني الذكرى
كيف غيبتك في ظلمة قبر
كيف اسلمتك للتراب المهين.
وترد على الذين يقولون ان البشر في هذا العصر لا يذكرون امواتهم اكثر من يومين او ثلاثة ثم ينسونهم.. لكن كيف تنسى ابراهيم ونمر ؟ كيف تنسى الورود الفواحة والشموس والاقمار؟انها تمنحهما دماء الفؤاد ودموع العين.. فتقول في هذه الابيات ، التي تفوح بالالم والكآبة:
ان اخت ، انا لي قلب الاخت
هل تلقى اخت اخوتها
في ظلمة فبر النسيان
اتوارى اخت اخوتها
في ابشع قبر اقسى موت.
وفقدان فدوى لشقيقها عز على صديقتها الشاعرة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي صاحبة ديوان العودة من النبع الحالم فبعثت اليها بهذه الابيات لمواساتها :
يا ثروة الحلم غني لي العدم
غيبي وراء حدود النجم هاربة
ولا تقولي ردي في شاطىء الوطن.
وفي قصيدة في درب العمرنجدها سائرة في طريق عمرها تزرع بذور المحبة في قلبها المعذب كي يغرق ابناء البشرية فيه.. وفي النهاية لم تجد سوى الاشواق تقف في درب عمرها:
وخلتني ملأت منهم يدي
وخلتهم قد ملأوا قلبي
فلم يطل وهمي حتى هوى
خنجرهم وغاص في جنبي
وضحكت نفسي في سرها
هازئة مني ومن حبي
وسرت مع قلبي وحيدين
لا شيء سوى الأشواك في الدرب.
ومع آهاتها تتفجر اشواقها الى جنة معطرة باريج الزنبق والبرتقال، وكون جديد يشرق بالحب الانساني ويملؤه الامل:
اعطنا حباً فالبحب كنوز الخير فينا تتفجر
واغانينا ستنحصر على الحب وتزدهر
وستنهل عطاءً وثراءً وخصوبة
اعطنا حباً فنبني العالم المنهار فينا
من جديد
ونعيد
فرحة الخصب لدنيانا الجديبة.
وهي تطالب بالحب كمجال رحب للقاء الانسانية وكانطلاقة جديدة تحطم جدران العزلة والعبودية والموت من اجل بناء العالم المنهار واعادة فرحة الخصب للدنيا الجديبة:
اعطنا اجنحة نفتح بها افق الصعود
ننطلق من كهفنا المحصور من عزلة جدران الحديد
اعطنا نوراً يشق الظلمات المدلهمة.
وحبها الانساني الصادق يتمثل في قصيدة كلما ناديتني الرقيقة.. فالحبيب ينادي وهي تعيش من اجله وتضحي في سبيل سعادته بعد ان منحته روحها وقلبها وعقلها:
نادني من آخر الدنيا البي
كل درب لك يفضي فهو دربي
يا حبيبي انت تحيا لتنادي
يا حبيبي انا احيا لالبي.
وتستحلف ربها كي يعيد اليها فؤادها وينير المصباح ، الذي اطفأه:
اشعله ارفعه قرب لي
وجهك من دائرة النور
فغياب حضورك يحبسني
في العتمة في شرك الديجور.
وفدوى طوقان شاعرة نضال ومقاومة .. وبهذا الصدد نقرأ ما كتبه الناقد المصري المعروف غالي شكري في كتابه ادب المقاومة :لم تكن فدوى بمعزل عن الكارثة قبل الخامس من يونيو وانما كانت المأساة في دمائها تصبغ جانباً هاماً من اشعارها بلون احمر قان.. فلم تكن قصائدها في فلسطين مجرد تصيد لمناسبة من المناسبات .. وانما كانت موضوعاً اساسياً من موضوعات فنها وملمحاً رئيسياً لا يكتمل وجهها الشعري بدونه . وقد عاشت فدوى فلسطينية على الضفة الغربية من نهر الاردن.. اي انها كانت اقرب ما تكون من الارض وابعد ما تكون عنها.. ولذلك اختلف غناؤها عن غناء شعراء الارض المقيمين فوقها، فبينما تحددت نظرة هؤلاء في نطاق المعارضة للنظام العنصري تحددت نظرة فدوى في نطاق الرفض الرومانسي للواقع .
ولهذا ترسل الوف غناءً من على سفح عيبال حيث تجلس وحيدة في ثناياه.. فتقول:
وارسل الاوف غناء حنون
يسيل من روحي واوصالي
فتنتشي بالاوف مرتعش بالحنين
سمعته يوما بـ عيبال
اذ انت في السفح غريب الجروح.
وفي قصيدة بعد الكارثة نجدها تسائل وتخاطب وطنها الفلسطيني ، الذي غذاها من صدره الحب والحنان.. فتقول في هذه النفحة العاطرة كعطر برتقال يافا:
يا وطني ، مالك يحني على
روحك معنى الموت، معنى العدم
امضك الجرح الذي خانه
مأساته في المأزق المحتدم
جرحك، ما اعمق اغواره.
وحرية الشعب الفلسطيني هي نفس حرية النضال والمقاومة ، التي تدعو اليها فدوى طوقان شاعرة جبال النار، والتي تحقق لإنساننا الفلسطيني وجوداً فلسطينياً وللإنسان وجوداً انسانياً :
ساظل احفر اسمها حتى اراه
يمتد في وطني ويكبر
ويظل يكبر
حتى يغطي كل شبر في ثراه
حتى ارى الحرية الحمراء تفتح كل باب
والليل يهرب والضياء يدك اعمدة الضباب.
واذا كانت فدوى طوقان في دواوينها السابقة تؤكد مدى التصاقها في الطبيعة ومعانقتها للمروج وسنابل القمح وحدائق البرتقال ، وتصوير لأحزان وآلام الذات ، فان ديوانها قصائد سياسية الصادر عن اسوار عكا، شكل قفزة جديدة لها.. فقصائدها الغنائية جاءت صدى للأحداث الشرق اوسطية ، وللأوضاع التي غطت الساحة الفلسطينية في السبعينات ، وتجسيد للواقع الفلسطيني المأساوي المعاش ، عدا التمزق الذي يلازم انسان القضية .. فمثلاً قصيدتها على قمة الدنيا وحيدا تمجيد للفارس الشهيد وائل زعيتر وتغني ببطولاته ومواقفه من القضية ـ وكما جاء التقديم وضع الحقيقة الفلسطينية امام عيون العالم المضللل واللامكترث. وهي تخاطبه وترثيه بالقوة والاصالة الشعرية نفسها ، التي عودتنا عليها في مراثيها لأخويها ابراهيم ونمر :
انت يا شمس القضية
نم هنا في الوطن الحاني ، فانت الآن فيه
يا بعيداً وقريباً
يا فلسطيني انت!
ايها الرافض للموت هزمت الموت حين اليوم مت؟!
كما انها ترثي ضحايا فردان ، شهداء النضال ، الذين كانوا قناديلاً نستضيء بهم في قطار المقاومة.. ولكن:
ماذا اقول لهم وعن عيني ومن قلبي تسيل دماؤهم
ذهب الذين نحبه
رحلوا وما القت مراسيها سفينتهم ولا
مسحت حدود المرفأ النائي عيون الراحلين.
وتحدثنا عن حالة الغليان ، التي تعيشها المدن الفلسطينية المحتلة في يوم السبت ، الذي تمقته مقتاً شديداً ، اثر تدفق جنود الاحتلال للمحافظة على الهدوء والنظام :
الصبر يهاجر من قلبي ايام السبت
ان يهجم طوفان الخوذات على
الارصفة على الاسفلت
الجيش هنا وهنا وهناك يسد
بقلبي شرياني
يملؤني ذلاً ومهانة