المكان واللغة والذاكرة في إبداع محمد نفاع
تاريخ النشر: 14/01/20 | 6:05جاء في الصفحة الثانية من كتاب “جبال الريح” الصادر مؤخرا (2019): “خِلِق ولدنا محمد في 14 أيار سنة ال39، وفي نفس الصفحة: جابت العنزة العطرة توم سخلات”. (ص14) هذا بعض ما وجده الكاتب محمد نفاع (2019) في أوراق والده. كيف يتلقف القارئ مثل هذه المعلومة؟ هل ستأخذه إلى عالم القرية الفلسطينية؟ أم إلى تاريخ بعيد قد مر وانتهى؟ ثم ما أهمية أن يرتبط ميلاد ابن تفرح به العائلة بولادة “توم سخلات”؟
هذه المعلومة التي تبدو لنا بسيطة، هي بحد ذاتها مادة دسمة للباحثين في مجال علم الاجتماع والتاريخ، وللباحثين المؤمنين بسوسيولوجيا الأدب، وقد تكون مادة سيميائية تقودنا إلى دلالات فكرية بعيدة أو قريبة. جملة كافية لتجعلنا نفكرُ بأهمية ورودها في هذا السياق. هذه المعلومة هي حجر صغير من الحجارة التي يبني بها الكاتب محمد نفاع عالم هذا الكتاب، “جبال الريح”، في دلالة عنوانه الخشنة والمتحدية في آن معا.
يعود بنا الأديب، في معظم ما كتب، إلى الجذور ليربُط الماضي بالحاضر ويؤسسَ للمستقبل. شعب يواجه الجبال والريح العاتية، ويصمد في وجهها ويتابع الحياة، إذ يرزق الله العائلة ابنا و”توم سخلات”. إنه يكتب بدوافع وِجدانية وإيمان عميق أنّ ما لم تحققه السياسة يمكن للأدب التّخييلي أن يحققه. والفرق شاسع بين السياسة والأدب، فالسياسة هي فنّ الممكن، أما الأدب ففيه الكثير من الخيال والواقع والعاطفة التي تترجم المشاعر الإنسانية الصادقة. فالأديب يكتب للتعبير عن ألمه وأوجاعه وأفراحه وهمومه وطموحاته في آن معا.
يعتبر محمد نفاع من أهم كتاب القصة القصيرة في بلادنا، بدأ الكتابة والنشر في سن مبكرة، فلفت إليه الأنظار منذ ستينيات القرن المنصرم. أصدر مؤخرا كتابه “جبال الريح” (2019)، الجزء الأول من السيرة الذاتية التي أنهى الجزء الثاني منها قبل فترة قصيرة. وكان قد أصدر روايته “فاطمة” (2015) بعد أن أعطى الكثير في مجال القصة، وما يزال، فأثارت ردود فعل مباركة من نقاد ودارسين ومهتمين بالأدب، واحتفي بها في أكثر من محفل أدبي. وقد نشرتُ دراسة حولها بعنوان “فاطمة هوية اللغة ولغة الهوية” في مواقع عدة، وضمنتها في كتابي “دراسات في الأدب الفلسطيني” (2017).
تخرج إثر كل قراءة لأحد مؤلفات نفاع مشحونا بالأمل، لأنّ كتاباته أبعد ما تكون عن رومانسية الشعراء، إذ تستمد مواضيعها من الواقع، ومن رؤية تؤمن أن الفلسطيني قادر على اجتراح المعجزات، معتمدا على رؤية تاريخية ترى أن الظلم لا محالة زائل.
إنّ العمل الفني ينجح أكثر ويثير المتلقي أكثر حين يفاجئه بجديده بعيدا عن التكرار والتقليد. فبالرغم من اتباع نفاع أسلوب كتابة المذكرات في “جبال الريح”، كما تمليه أصول كتابة السيرة الذاتية والمذكرات وقواعدها، إلا أن سلاسة العرض وترابط السرد تجعلان القارئ يشعر أنه يقرأ سيروية، وليس مجرد “سيرة ومذكرات”. كما أن اتكاءه على السرد الزمني المتسلسل يشد القارئ لمتابعة القراءة لأنّ هناك خيطا خفيا يشد الأحداث إلى بعضها البعض. فالمادة المسرودة غنية بمضمونها، تتغذى بالفكر والعاطفة والحساسية الأدبية.
إن مؤلفات محمد نفاع، في مجملها، تحمل ختمه وهويته، بعيدا عن التقليد المعهود لدى عديدين، إذ حين يتمكن الأديب من خلق أسلوب مغاير عمن سبقه فهو يحمل لقبا كبيرا لا يدركه كثيرون هو لقب “مبدع”، لأنه أتى بما لم يأت به السابقون. لقد قام الأديب الفلسطيني إميل حبيبي باختراق كبير للسرد العربي عامة حين كتب رواية المتشائل، إذ بنى روايته وفق أسلوب فنيّ حديث بعيدا عن التسلسل الزمني المتّبع، وبدت روايته وكأنها مجموعة روايات منفصلة ترتبط بخيط خفي وبمهنية سردية غير مألوفة، بحيث كونت في النهاية وحدة فكرية مترابطة. كما وظّف لغة تراثية نجد مثيلا لها في كتب الجاحظ وألف ليلة وليلة، وعالج، في حينه، موضوعا حديث العهد، ليس مطروقا من قبل، تفاجأ المتلقي واندهش لأن الرواية اختراق للمألوف.
كانت “المتشائل” رواية تقطع علاقتها مع التراث الغربي الذي يقلده الروائي العربي، وبالتالي فإن روايات إميل حبيبي وروايات جمال الغيطاني، وبالذات في “الزيني بركات” اختراق للمألوف. ونحن اليوم نشهد اختراقا آخر هو أسلوب محمد نفاع في رواية “فاطمة” التي لم تقلد أيا من الأساليب المعهودة سابقا، فبطلة الرواية ليست محاربة في ساحة القتال، ولا أما تحمي أطفالها من جنود الاحتلال، ولا امرأةً ترعى صغارها في ظل ظروف الحرب وشظف العيش، بل هي صبية قروية فلاحة ينشغل الرجال بجمالها الفتان، يتحرشون بها علها تكرُم عليهم بابتسامة أو بكلمة مجاملة، في حين أنها صبية تعيسة تعمل ليل نهار لتوفير لقمة عيش والديها، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، فهي تعمل في الحقل، بعد أن فقدت زوجها الشاب وإخوتها الذين لم يعودوا من السفربرلك، إنها المرأة العربية التي تجمع كل المتناقضات في شخصيتها المميزة؛ لا تخاف من الرجال، ولا من ألسنتهم، وألسنة نسائهم الجارحة، تقودهم كلَّهم في الأتراح الأفراح، ينتظرون لقمة الكبة من يديها، وتسبقهم في مقارعة رجال الشرطة، ويشيعون حولها ما هب ودب من إشاعات.
يعرض محمد نفاع روايته “فاطمة” بلغة فلسطينية ولهجة جليلية، متحديا الأصول والأعراف التي يلتزم بها الروائيون. إنه بذلك كمن يعمل على تقليص رقعة القراء، لأن هذه اللغة وهذه اللهجة لا يفهمها ولا يدركها إلا فئة قليلة جدا من أبناء الشعب الفلسطيني، ومع ذلك فإنه مصر على توظيفها حتى باتت جزءا هاما من هويته الأدبية، وها هو يكرر التجربة في “جبال الريح”. يعمل نفاع على صيانة هذه اللغة تماما كما يعمل على صيانة القرية الجبلية الفلاحية، وكما يعمل على صيانة صورة أبنائها وناسها. يمكننا القول إنه يخلق لنا رواية فلسطينية جليلية بلغتها وشخصياتها وفضائها، يدخل في “دواوين” المجتمع العربي الفلسطيني في منطقة الجليل وما تعرض له هذا الإنسان في حقبة زمنية لها أبعادها على فكره الاجتماعي وعلى مصيره في هذه المنطقة.
لقد نال حنا مينة لقب “كاتب البحر” بفضل عدد من رواياته، إذ تمكن من خلق فضاء روائي بحري. وجعل نجيب محفوظ أزقة القاهرة وأحياءها فضاء تدور به أحداث العديد من رواياته، وهكذا جعل الطيب صالح القرية السودانية فضاء مميزا في رواياته. وما كان نجاحهم ليتحقق لولا انطلاقهم من محيط خاص بهم وحدهم، فأبدعوا وأصبح لهم عالمهم الروائي. لقد خلق الكثير من الروائيين العرب والعالميين فضاء خاصا بهم، وأبدعوا فيه. إنّ من يدخل كنيسة نوتردام في باريس سيتخيل أحدب نوتردام وهو يتقافز بين حبال أجراسها، فلقد تمكن فيكتور هوجو من ترسيخ صورة الكنيسة مقترنة بأحدب نوتردام.
ونحن نرى أنّ محمد نفاع هو كاتب الأرض كما هو حنا نقارة محامي الأرض. فهو يقف على أرض روائية ثابتة، أبدع فيها وبات عالمه الذي يميزه، وسيتذكره القراء والمثقفون والباحثون أنه كاتب الأرض، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات فلسطينية عربية. لقد رسّخ نفاع صورة القرية الفلسطينية مقترنة بفلّاحها وفلّاحتها، وبفضائها بكل ما تحمله كلمة فضاء من معنى أدبي. إنّ القرية الفلسطينية الجبلية لهي المكان الأهم في إبداع محمد نفاع، ببيوتها الطينية وأزقتها الضيقة التي تتسع “للفدان” والثور والحمار وراكبه. ولها بيادرها وحقولها وحواكيرها وطيورها وحيواناتها البيتية والبرية، وعادات ناسها وتقاليدهم وأسلوب معيشتهم الاجتماعي، فضلا عن مأكلهم ومشربهم، وغنائهم الشعبي في الأفراح ونواحهم في الأتراح.
تحدث الكثير من الباحثين عن الطيب صالح وروايته “عرس الزين”، وعن فضاء القرية السودانية فيها بعاداتها وتقاليدها وعن لغة أهل الريف السوداني. ولم تكن اللغة التي وظّفها عائقا أمام الباحثين الذين تناولوا هذه الرواية السودانية، ولم يكن حصر الأحداث ضمن حيز لا يدركه جيدا إلا أهل الريف في السودان عائقا أمام انتشارها، إذ تمكنت من اختراق كل الحواجز وأن تصل إلى ما هو أبعد من البعيد. ونحن اليوم علينا أن نفاخر برواية “فاطمة” للكاتب الكبير محمد نفاع وأن نعمل على نشرها وتوزيعها لتدخل إلى كل البيوت. هي عمل أدبي فني راق يوثق للمكان الفلسطيني واللغة الفلسطينية والتراث الشعبي المهدد بالضياع.
نجح محمد نفاع من خلال رصيده القصصي والروائي أن يحفظ لنا الذاكرة من الضياع، والذاكرة هي مكون هام من مكونات الفكر الإنساني، وهي مكون هام من مكونات الفكر الفلسطيني. لن يقوم بهذا العمل إلا أديب تسلح بالفكر الإنساني الراقي الذي يدرك معنى الذاكرة وأهميتَها، فإن ضاعت ذاكرتنا ضاعت الأرض وما عليها من بشر وشجر وحجر. إن الذاكرة تورث من جيل لجيل كما تورث الأرض. هي حفاظ على الكيان وعلى الوجود وعلى الهوية، وهي ضمان استمرار الكينونة.
أدب محمد نفاع حديقة تراثية تصون طيورنا ونباتاتنا وأشجارنا ولغتنا ومفرداتنا ونوادرنا وحكاياتنا من التزييف والضياع. إخاله يعمل على صيانة الوجود الفلسطيني، وكأنه نوح في فلكه حين جمع فيها كل أصناف المخلوقات كي يصون الحياة من الضياع. وما كان هذا الطوفان ليحصل رغم طغيان البشر ببني البشر. يتعرض الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن لعملية تغييب وإنكار لماضيه وتشويه لصورته. هي ليست محاولة محو كيانه ووجوده بل هي عملية فعلية لسحق وجوده وذاكرته ومحو هويته ولغته. نحن أحوج ما نكون إلى نوح هذا العصر الذي يصون تاريخنا وحضارتنا وتراثنا وفكرنا، نحن شعب حي، غني وذكي، حكيم وأبيّ.
تشعر حين تقرأ محمد نفاع أنك تقرأ شهادة على العصر، لقد كان شاهدا على النكبة والنكسة، المأساتين الأكبر اللتين عاشهما الإنسان الفلسطيني. لقد كان الفلسطيني يعيش فوق تراب أرضه منذ غابر الأزمان وحتى نهاية الحكم العثمانيّ. جاء المستعمر الإنجليزي وجثم ثلاثة عقود، هي فترة قصيرة جدا في عمر الزمن، وقصيرة جدا مقارنة مع الفترة العثمانية، لكن المساحة الجغرافية، خلال هذه الفترة، كانت آخذة في التقلص، وحيز الفلسطيني من الأرض يضيق يوما إثر يوم، لكنّه لم يتوقع أن تتمكن الأقلية اليهودية من التمدد والتوسع في تلك الفترة من الزمن، وفجأة تنقلب الدنيا رأسا على عقب، الأكثرية تتحول إلى أقلية والأقلية تتحول إلى أكثرية، “هجيج” وتشتت، وفراق. أما الأرض فقد سحبت من تحت الأقدام، وكأنها غيرت موقعها، إذ سرعان ما تبدلت معالمها.
أما سنة 1967 فقد عاش الفلسطيني على أمل استرجاع ما فقده سنة 1948، فجاءت الصدمة الثانية لتمحو الحلم الذي آمن به الفلسطيني وآمن به العربي. تمكنت إسرائيل من فرض سيطرتها على كامل الأرض الفلسطينية، وضمت إليها مناطق من دول عربية أخرى. وما زال الفلسطيني غير مصدق لما يحدث على أرض الواقع. لقد واجه النكبة بكل ما تحمله من معنى، ثم تكسر الحلم وتهشم في النكسة. عاش محمد نفاع هاتين الفترتين، فقام من خلال كتاباته باسترجاع هذا الماضي، واسترجاع المكان واللغة البطلين الحقيقيين في مجمل ما كتب من قصة ورواية وسيرة ذاتية.
إننا نرى إلى كل ما كتبه محمد نفاع فنستخلص أنه مشروع وطني كبير، إضافة إلى توثيق المكان في ذاكرة كل الأجيال، هناك مشروع اللغة التي يعمل على صيانتها وحفظها من الضياع. فإن كان المكان قد ضاع وإن كان الزمان يتبدل ويتغير وتتبدل معه كل الأشياء، فإن اللغة هي الأخرى تتبدل وتتغير تماما كما يتغير الإنسان؛ جيل يمضي وجيل يأتي. لقد بنت المؤسسة الصهيونية رؤيتها على نسيان ما كان، واعتمدت على اختفاء جيل بكامله فتضيع معهم الحكاية، وتضيع القضية، فجاءت الرواية العربية الفلسطينية لتحارب هذا الفكر وتعملَ على صيانة الماضي في قوالب فنية قابلة للرسوخ في الوِجدان. إبداع محمد نفاع هو أحد حجارة الزاوية في كينونة الإنسان الفلسطيني، يواجه فيه نفاع الزمن ويتحداه من خلال توثيق اللغة. واللغة ليست حروفا ومفردات بل هي دليل كيان ووجود، إذ حين تغيب اللغة يغيب أهلها. إن الإنسان في نهاية الأمر قضية، والقضية كما لخصها الحكماء: “أن تكون أو لا تكون”. ولا يكون الإنسان إلا من خلال المكان والزمان، وما يتعلق بهما.
نخلص إلى ما يلي:
اعتاد باحثو الرواية الفلسطينية أن يتحدثوا عن ثالوث غير منفصل؛ جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني وإميل حبيبي. إن رواية “فاطمة”، برأينا، تستحق أن تجعل صاحبها محمد نفاع يقف إلى جوار هؤلاء الثلاثة كند لهم.
عمد الروائيون الفلسطينيون إلى إبراز النكبة والنكسة وتأثيرِهما المأساوي على حياة الإنسان الفلسطيني وما آل إليه من تشرد وهجيج وضياع، فبرز دوره كضحية. إن ما قام به الروائيون الفلسطينيون فاق دور السياسيين لأنه أكثر صدقا وأكثر وضوحا، ولا نقصد بذلك التقليل من دور السياسي أبدا، بل إن العمل الأدبي لقادر على تخليد رجل السياسة، وعلى إبراز الأيديولوجيا والفكر الحر بصورة أكثر وضوحا مما يبرزها رجل السياسة. وهذا ما يعمل على ترسيخه محمد نفاع في كتاباته المتنوعة، فهو يرسخ للأيديولوجيا التي تؤمن، بثبات، بحق الفلسطيني وبقدرته على مواصلة العيش، بقوة وإيمان راسخ أن حقه سيعود إليه لا محالة.
نرى في شخصيات قصصه وفي روايته “فاطمة”، كما في سيرة “جبال الريح” رجالا صامدين أقوياء، فلا يبرزون كضحية بقدر ما يبرزون كمناضلين ومقاتلين. يلجأ بعض الروائيين إلى تفخيم دور بعض الشخصيات المركزية في رواياتهم، خاصة حين يقارعون المحتل، أو حين يتصدون للشر ومحركيه، فقد جعل حنا مينة من بعض أبطال رواياته عمالقة، مثل مفيد الوحش في رواية “نهاية رجل شجاع”، وبحّارة يقارعون البحر وأنواءه، في ثلاثية “حكاية بحار”، والشراع والعاصفة”. وقام محفوظ في بعض رواياته بجعل أبطالها مغامرين كما في “الحرافيش”، فجعل فيهم قوة الجسد إلى جوار قوة الروح. لم يلجأ نفاع إلى الشخصيات المتعملقة، بل جعل الفلاح والفلاحة بطليه الرئيسيين، وبالتالي فإن الفلاح والفلاحة بكل ما يحملان من بساطة وطيبة وإصرار هما النموذجان البارزان في عالمه الأدبي.
(نص الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الأديب محمد نفاع في عرابة)
رياض كامل