شهادة حقّ – المرحوم الدكتور جميل الياس ابو عوني
تاريخ النشر: 12/12/19 | 23:38د. حاتم عيد خوري
فَقدَ جليلُنا ومجتمعُنا العربي بصورة عامة، قبل اربعين يوما، قامةَ علمية واجتماعية مميزةً هو المرحوم الدكتور جميل الياس ابو عوني.
لن اكرّر في هذه العجالة ما قيل وسيُقال عن الدكتور جميل كأولِ طبيبٍ من ابناء سخنين، وعن خدماته الطبية الجلّى لاهالي سخنين وشعب وكوكب وعرابة ودير حنا والمغار والتجمعات البدوية المتاخمة لسخنين مثل الكمانة وعرب النعيم ووادي سلامه وغيرها، في اشق ظروف الطقس وغياب طرق المواصلات وفي فترة زمنية شحَّ فيها وجود اطباء. كما لن اتحدث عن دوره، كمديرٍ لعيادة صندوق المرضى محليا ومناطقيا، في احتضان الاطباء الشباب من ابناء سخنين والمنطقة ورعايتهم في مطلع خدمتهم ممّا جعل رئيس بلدية سخنين الدكتور صفوت ابو ريا يطلق عليه لقب “معلم الاطباء”…. نعم، لن اكرر ما قيل وسيُقال ولكني ساتحدث عنه من منظور شخصيّ ومن خبرة ذاتية تندرج تحت عنوان “شهادة حقّ”.
تلاقينا، الدكتور جميل وانا، لاول مرة قبل نحو ستين سنة في الجامعة العبرية في القدس، كطالبَين عربيين يدرسان في كليتين مختلفتين: الطب والعلوم. هذا الاختلاف بين الكليتين مضمونا وموقعا جغرافيا جسرتْهُ نشاطاتُ لجنةِ الطلاب العرب في الجامعة. نعم تلاقينا، تعارفنا، تكررت لقاءآتنا، تآلفنا، تصادقنا فترابطنا بحبل ودٍّ لم ينقطع بانتهاء فترة دراستنا الجامعية وبتخرّجِنا وبانصرافِ كلٍّ منّا الى العمل في مجاله: طبيبا في كفرياسيف وسخنين ومحاضرا ومرشدا تربويا في دار المعلمين العرب في حيفا.
بعد تخرّجِنا من الجامعة، كانت لقاءآتنا القليلة، إن لم تكن النادرة، تتمُّ في أطرٍ تفرضُها غالبا ظروفٌ اجتماعية مختلفة كالافراح والاتراح وغيرها… غير ان ندرة لقاءآتنا هذه، لم تندرج ابدا في إطار “البعد جفا”، ذلك لان شخصية الدكتور جميل: باستقامته، بطيب حديثه، بصدقه، بابتسامته، بصراحته وبحكمته، قد تركت بصماتِها العميقةَ على قلبي وجعلت ذاكرتي تستحضره دائما في ذهني… وهكذا عندما بادرتُ قبل اكثر من ثلاثة عقود، الى تأسيس “جمعية ابناء ابرشية الجليل” كجسمٍ علماني قانوني يسعى الى تصحيح مسار الادارة المالية لاملاك كنيسة الروم الكاثوليك في الجليل والحيلولة دون تبذير الاوقاف وتبديدها بيعا صريحا او بيعا مقنّعا تحت غطاء التأجير لفتراتٍ زمنيةٍ خياليّة، اقول عندما سعيتُ لتاسيس تلك الجمعية، كان ابو عوني بما اكنُّه له من تقدير وثقة، اولَ من توجهتُ اليه، فكان بقبوله وتجاوبه وانضمامه الى تلك الكوكبة المميزة من الاعضاء المؤسسين، نعم كان طلائعيا في انتسابه، صادقا في عزيمته، عنيدا في التمسك بحقه، جريئا في الافصاح عن رايه معتبرا ان التكتم المفتعل على اعمال السوء بادعاء الخوف من الفضيحة، هو هو الفضيحة بعينها. فاحتلَّ ابو عوني بفضل هذه المزايا، مواقعَ الصدارة في الجمعية. فمن عضو مؤسسٍ مخلص الى عضو هيئةٍ إدارية نشيط ومواظب فالى رئاسة الجمعية وقيادتها بحكمة وبشجاعة.
لقد نجحت جمعيةُ ابناء ابرشية الجليل بفضل جهود الدكتور جميل وزملائنا الاخرين الكرام، رحم الله من غادرنا منهم وامدَّ في اعمار الباقين…، اقول لقد نجحت الجمعية، بعد جهد جهيد، في الحصول على كافة التعهدات الكنسية الخطية الممهورة بتواقيع شخصياتٍ كنسيةٍ عليا. هذه التواقيع التي كنّا قد اوليناها في حينه، ثقتَنا واحترامنا وعلّقنا عليها املا كبيرا بانها ستكون كفيلةً بصيانة ما تبقى من الاوقاف، حتى تبين لنا فيما بعد بان اصحاب تلك التواقيع قد عادوا فتنكروا لها فاضحت تواقيعُهم تلك، لا اكثر من تواقيع على رملٍ عصفت به الرياح وجرفته المياه…. لكم يؤلمني ان يكون ابو عوني قد غادرعالمنا هذا وهو متألم مما آلت اليه اوضاع اوقافنا. ولكم ارجو ان يكون ألمُه هذا قد خفّفه كتابُ “تواقيع على الرمل” الذي اصدرته الجمعية توثيقا لجهوده وجهود زملائنا الاخرين الكرام. .
امّا ألمُنا على فراقه فلن يخفّفه سوى الارث الطيّب الذي تركَه لنا ابو عوني: اسريا ومهنيا واجتماعيا. فالنجل البكر الدكتور عوني هو بكل تاكيد، خيرُ خلفٍ لخير سلف.. اما الارث المهني والاجتماعي فانه يتمثل بسيرة فقيدنا الطيبة وعطائه الجمّ وتواضعه الاصيل. ان الدكتور جميل ابى ان تكون شهادته الجامعية حاجزا يفصله عن الناس، إنما جعلها جسرَ تواصلٍ مع الناس، كما لم يرضَ ان ينزوي ككثيرين من المتعلمين، في برجه العاجي، بل جعل من علو برجه مطلا لرصد معاناة الناس كمنطلقٍ للتفاعل معهم، فعالجهم طبيا وتطوع في خدمتهم اجتماعيا، فاحبّه الناس واحترموه وقدروه… رحمَه اللهُ رحمة واسعة.