خدوش على صفحة هوية ملتبسة
تاريخ النشر: 20/12/19 | 9:25لا أكتب هنا مقالة علمية في مسألة الهوية الفلسطينية بكل تعقيداتها وتفرعاتها وما يعتريها من خضّات وتشوّهات محزنة؛ فكل ما في الأمر أنني أضع بعض “الخربشات” على صفحة تعاني، كما نشهد، بعض انكساراتها المؤلمة والمقلقة.
فلسطين تاريخ من الملابسات المزمنة
أشهد منذ سنوات كيف تتغير حياة الفلسطينيين بتسارع اسطوري؛ وأخالهم باتوا يعانون من اعراض فقر دم وطني مزمن، فيهابون، بسببه، سطوة المجهول ويلجأون، بسببه ايضًا، بعد كل هزيمة إلى خيمة الالتباس الوطني، فيحسبونها منقذهم أو قدرهم المحتوم.
تجولت خلال أسبوع واحد في عدة مدن وقرى فلسطينية، فأرهقني ما سمعت وأوجعني ما شاهدت فيها. المقلق ان الناس تعيش هذا الواقع بحالة من استسلام طبيعي ومن دون حيلة أو قدرة على مواجهته.
ويعتبر البعض أن الانقسام القائم بين غزة ورام الله هو مصدر الخلل والمسبب الرئيسي لفقدان التوازن الأهلي ولتمزق الهوية؛ بينما أراه انا نتيجة حتمية لما سبقه من تطورات أفقدت معظم الفصائل الوطنية والحركات الدينية أدوارها الطبيعية وحوّلتها الى مجرد كائنات هشة تسوّق بضائع منتهية الصلاحيات.
يقترب العام من نهايته ولا نعرف، نحن والفلسطينيين اخوتنا، على أي ريح سنقف؛ فالصراعات الداخلية بينهم تحتدم، وتأثيراتها تتداعى ولا تترك أحدًا معافى أو واثقًا بالغد، وتحت أي سقيفة سيكون موعدنا.
نابلس، هوية من نار
شهدت جامعة النجاح الفلسطينية، في الحادي عشر من الشهر الجاري، حدثًا أقل ما يقال في تداعياته أنه محرج ؛ لكنه أكثر تعقيدًا وعمقًا واستفزازًا.
لقد احتضنت الجامعة فعاليات ثقافية متنوعة، دامت ستة عشر يومًا، تحت عنوان، يا للعبث، “مناهضة العنف ضد النساء”.
من الطبيعي أن تقوم مؤسسة بمكانة وحجم جامعة النجاح بالتحقق من هويات جميع الفرق والفنانين المدعوين للمشاركة في هذا المراثون الاجتماعي الثقافي، الذي اطلق، ربما بلحظة رومانسية، ضد ممارسة العنف بحق النساء في مجتمعنا، ودعمًا لمكانتهن الطبيعية. ولا يعقل أن يبرر عميد كلية الفنون الجميلة، الدكتور غاوي غاوي، قرار ادارة الجامعه بايقاف عرضفرقة عشتار بالطريقة التي تم بها لأنه لم “تكن تتوفر لديها المعلومات الكافية عن شكل عرض “عشتار” ولكل مجتمع خصوصياته وقوانينه وانظمته التي تتناسب مع عاداته وتقاليده”.
وحتى لو فوجئت ادارة الجامعة “بشكل العرض”، كما قرأنا، لا تملك هي حق اعتراضه “على الهواء” ولا مخاطبة الحضور بالطريقة المهينة، كما حصل، وذلك حتى لو آمن الدكتور غاوي بأن “هذه الجامعة تحترم نفسها وهذه الجامعة لها قوانينها …اللي عاجبه عاجبه واللي مش عاجبه ميجيش على الجامعه”.
رغم ما أثاره هذا الحدث من امتعاضات وانتقادات – شاعت في الأساس ضمن هوامش محصورة يتابعها ويتأثر بها بعض المعقبّين في وسائل التواصل الاجتماعي – بقيت تفاصيله بعيدة عن هواجس الناس ولم تستدِر، كذلك، مواقف معظم الحركات السياسية الفلسطينية وقيادييها؛ ولم تحرك “دماء” غالبية المؤسسات المدنية المنتشرة في ارجاء فلسطين التاريخية، التي كان من المتوقع ان تتصدر الواجهات وتشجب ما جرى في الجامعة.
فاجأتنا، في المقابل، ادارة الجامعة باصدارها بيان قالت فيه “ان ما حدث في حفل اختتام فعاليات 16 يومًا لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، لا يمثل سياسة الجامعه” واضافت أنها شكلت لجنة تحقيق لتقف على جميع الملابسات التي حدثت خلال الحفل.
تبقى اذن قضيتنا في فلسطين المحتلة معلّقة الى أن نتعلم فن الوقوف على أنف الملابسات.
كفرياسيف، ومشهد الموت
قبل بضعة أعوام توفي أبو العبد بعد اصابته بمرض عضال لم يمهله طويلًا. كان أديبًا وسيمًا ودمثًا. أحبه أهل القرية وتنافسوا على منادمته، فلقد عاش بقلب مفطوم على حليب حب الناس وعلى طيب معاشرة الفقير قبل الغني.
بانتشار نبأ وفاته سكن الحزن شوارع القرية وتعطلت ساحاتها. دقت اجراس الكنيسة موسيقاها الحزينة معلنة بدء طقوس الجنازة. امتلأ صحن الكنيسة بالمشيّعين، وبعضهم حضر من قرى ومدن قريبة وبعيدة.
مشينا وراء النعش المحمول، بالتناوب، على اكتاف بعض اصدقاء الراحل وعلى اكتافنا، نحن ابناء عائلة الفقيد.
في منتصف الطريق همس باذني ابنه الباكي سائلًا عن بعض أصدقاء والده الذي توقع مشاركتهم في الجنازة. أجبته بهدوء اننا حتما سنجد العم ابا حسين ورفاقه ينتظرون مع آخرين في محيط المقبرة. تقبل العبد جوابي ولم يستزد؛ فهو، على ما يبدو، لم يكن يعرف ولم يشعر، لبعده عن القرية، أن كفرياسيف التي عشقها والده قد استُهدفت وقد نخرها بعض العطب.
أصابها الجهل كما أصاب أخواتها الفلسطينيات ونخختها العملة وادمان الناس رائحتها العفنة، فصارت قرية عاجزة عن حماية أهلها، ومجتمعًا متقوقعا يتنفس بدون مناعة ويقبل القسمة والتشظي، تمامًا كما حصل مثلًا في “مشهد موت” ابي العبد، الذي عمل على اخراجه صاحب فتوى دينية قضت، بدون التباس، بأن تتحول الجنازات في قرانا إلى طائفية.
كفرياسيف، في مشهد الورد
بتزامن مع حادثة “عشتار” في جامعة النجاح، وبعد مضي سنوات على مشهد الموت الجليلي، احتضنت قرية كفرياسيف نشاطا ثقافيًا اجتماعيًا اقتصاديًا كبيرًا يرعاه مجلسها المحلي للمرة الثانية تحت اسم “كريسماس ماركت 2019″؛ وذلك في اشارة الى ان البلدة ستستمر “اذا ما استطاع اهلها الى ذلك سبيلا”، في تنظيم هذه الفعاليات كما يليق بمواسم الابداع والفرح وبقيمتهم الانسانية المطلقة” .
استمرت الاحتفالات أربعة أيام وليال، شاركت فيها قطاعات واسعة وشرائح عديدة من داخل البلدة، الى جانب عشرات آلاف الزائرين الذين وفدوا اليها من جميع أنحاء البلاد؛ كما واعتلت مسارحها فرق الرقص والتمثيل وعدد من المغنين والمغنيات، فتحول مركز القرية الى مسرح واحد كبير تتحرك في جنباته الجموع بسعادة وبطمأنينة تخلو منها أسواق أوروبا الميلادية أو ساحات امريكا أو حتى “مولات” دبي وبيروت التقليدية.
لم يفتش الناس الآتون إلى ليالي كفرياسيف عن آلهة ليقاتلوها ولا عن ربات كعشتار وعناة، بل صنعوا من أحلامهم قبابًا وحلقوا منها، بدون أي التباس، نحو شطآن الأمنيات.
ذكريات هوية
ولدت في كفرياسيف في سنة “العدوان الثلاثي”؛ وعشنا فيها أيامًا جميلة وصعبة. اشتهرت قريتي الصغيرة بمكانتها الثقافية الفريدة وبحب أهلها للعلم وعشقهم للحرية. فتن الكاتب الكبير اميل حبيبي بالقرية وبمناعة سكانها الوطنية، فصرخ من حرقته، في أواخر خمسينيات القرن الماضي ونادى “تكفرسوا يا عرب” وقصد أن يسير العرب في أثر هذه القرية ويعتنقوا هويتها التقدمية العربية المنيعة الأصيلة. عشقها “شعراء المقاومة”، كما وصفهم لاحقًا غسان كنفاني، فأطلقوا حناجرهم في سمائها سهامًا ضد الخوف، ورتقوا لنا، في وقت مبكر، عباءتنا الوطنية، ورسموا في صدورنا معالم هويتنا السياسية.
كبرت قبل فتاوى الشقاق الطائفي وعلى هدي تعاليم حكمائها؛ فكان مولانا عقلنا، الذي افهمنا ان التسامي بالعطاء، وأن الدفاع عن منارتنا واجب، شريطة ألا نحرم الآخرين حقهم في الدفاع عن منارتهم أيضًا.
غادرت القرية في منتصف السبعينيات لألتحق بالجامعة العبرية، وسكنت القدس، فاستقبلتني مثلما تستقبل المدن الجريحة “غرباءها الآخرين”. كانت علاقتنا متوترة في الخفاء، وتشبه كثيرًا علاقة الأب مع ابنه المتبنى، حيث تنقصها دومًا صراحة الروح للروح وتفصل بين وريديهما خاصرة ضامرة تنغزها أنياب ذلك الالتباس الفلسطيني القاهر الفتاك.
كتبت مجرد خربشات، غير مرتبة، من فيض وجع ونحن نستقبل أيام ميلاد الطفل الفلسطيني الاسمر الذي دفع حياته في مشهد ملتبس تاركًا لبعض العالم يقينًا ولآخرين كل أنواع الغضب والملابسات. فكل ميلاد وانتم ونحن فوقها لا في باطنها.
جواد بولس