“شهرزاد في ظلّ ثالوث الحياة الأجمل: الحبّ، الخير والجمال”.
تاريخ النشر: 22/12/19 | 9:31د. لينا أمين الشّيخ – حشمة
هي شهرزاد استطاعت بذكائها أن تروي لشهريار حكاياتها الألف وتنقذ نفسها وبنات جنسها من القتل. استطاعت بقوّة الكلمة والفكر تحدّي الرّجل وتجرّأت على طغيانه الذّكوريّ. بالحكي أدركت كيف تواجه خوفها فقاومت الموت. ومع مرور الزّمن باتت أكثر قدرة على الحكي كي تقول ذاتها هي. باتت رمزًا للمرأة الثّائرة على الظّلم والاضطهاد، رمزًا لتمرّد الضّعفاء ضدّ كلّ شهريار أينما كان، مهما كانت صورته ومهما لبس من قبعة. شهرزادُ المرأة، سيّدة القصّ، لا تزال تحكي قصّة النّساء. تحكي قصّةَ الطّغاةِ من الذّكور. هي شهرزاد لم تعد تنتظر عدل شهريار، ولم يعد يهمّها إذا تربّص بها السّيّاف خلف الباب أو حاول مصادرة الأحلام من خزائنها أو مارس الحَجْر على عواطفها. لم تعد خانعةً خاضعةً، بل باتت تقول كلمتها بجرأة رافضة السّكوت عن القول المباح قبل طلوع الصّباح. أقول هذا بعد كلّ كتاب أقرأه لكاتبة عربيّة، فأفرح مهلّلة: ها هي المرأة نجحت في ثلم سيف شهريار، فخرمته وصدَعته وثقبته. وبالمقابل شحذت سيفها وسنّت قلمها وفازت بحقّها في الوجود، فكتبت وأبدعت. لكنّي ما أن أهلّل بهذا حتّى أتراجع بصفعة أتلقّاها من إبليس أفكاري فيذكّرني ببؤس حالنا وبراثن التّخلّف ومخالب الموروثات الّتي لا تزال تنهش وتلوك أبناءها. فكيف يبدو واقعنا ورديًّا إلى هذا الحدّ؟! ألا تتلطّخ هذه العبارات وتتشوّه بدماء من قتل من النّساء؟ ألا يبدو عدد الضّحايا في مجتمعنا خاصّة، والمجتمعات العربيّة عامّة، مؤشّرًا إلى أنّنا نعيش في زمن رديء عنيف؟!
إنْ كنتُ قد أشرت إلى انتصار شهرزاد إلّا أنّ الحقيقة المؤلمة تشير إلى أنّ معركتها لم تنتهِ بعد. فكيف تنتهي وشهريارُ بات يلبس عِمامةً أخرى، وبات في القرن الحادي والعشرين يحمل لها أكثر من “سيف”؟ يحمل سيفًا بقوّة الذّكورة القهرية القامعة، وسيوفًا بقوّة التّطرّف الدّينيّ والتّخلّف الاجتماعيّ والقمع السّياسيّ، في مجتمع ذكوريّ سلطويّ لا يزال يمنح الشّرعيّة للرّجل ويعزّز استعلائيّته عليها ويقمعها بقوّة الأعراف والتّقاليد. لا يزال سيف شهريار يقطر دمًا بحجّة “شرف العائلة”، وغسلا للعار”.
تتسلّط الثّقافة الذّكوريّة البطريركيّة في العالم العربيّ بقوّة الأعراف وحقيبة الموروثات البالية، وباتت في العقود الأخيرة تزداد حدّة بتعزيز من الحليف الدّينيّ المتطرّف والتّيّارات الدّاعشيّة الظّلاميّة الّتي تنتهج التّكفير لكلّ من يخالفها. كما أنّ زمن الهزائم وانعدام الدّيمقراطيّة وسوء حكم الأنظمة وكبتها للحرّيّات وانتشار الفقر والجوع وسيادة الجهل، كلّ هذا لم يفرّخ إلّا العنف والقمع على جميع الأصعدة، ولا يزال يفعل! وفي هذه المجتمعات المحافظة التّقليديّة ينصبّ هذا الثّالوث: القمع السّياسيّ والتّطرّف الدّينيّ والتّخلّف الاجتماعيّ على الحلقات الأضعف. وليست المرأة في هذه المجتمعات إلّا تابعة خاضعة لا تملك نفسها. ولما كانت هذه المجتمعات تؤمن بالقيم السّائدة وتعطي التّراث صفة القداسة وتعتمد تفسيرًا أحاديًّا لا يقبل الرّأي المخالف، فلا غرو إذًا أن ترفع سلاح التّكفير والإباحيّة على كلّ من يتجاوز هذه الأعراف. أمّا إذا نظرنا إلى حال العربيّ الفلسطينيّ هنا في الدّاخل، فتضاف إلى حالة الإحباط النّاتجة عن كلّ هذا حالة تشظّي الهويّة وصراع الانتماء والاغتراب واستفحال العنف وتفاقمه.
حين يستبدّ القمع والجوع وتكبت الحرّيّات لعصور طويلة، ويعيشها أجيال ثمّ أجيال، يصبح التّخلّف والجهل نهجًا وأسلوبَ حياة. والجهل، مثلما قال الكاتب عبد الرّحمن منيف، ليس إلّا “الوجه الآخر للعبوديّة”، وفي ظّله تتهشّم الحياة الكريمة وتضيع مكارم الأخلاق والقيم، ويتغلغل البغض والقسوة والحقد في أواصر المجتمع، ويتحوّل إلى ثقافة، هي ثقافة القمع والعنف والتّخلّف والرّجعيّة. إن ثقافة القمع لا تفرز إلّا المشوّهين الّذين يبحثون عن ضحيّة لهم حتّى يمارسوا سلطة القمع عليها. إنّ سلوك النّاقم العنيف ليس إلّا محاولة لإلصاق العيوب والنّقائص وإسقاطها على الغير، فالإحساس بالدّونيّة والضّعف والعجز يدفعه إلى كره نجاحات الآخرين وأفراحهم، إلى عدم القدرة على المحبّة. لهذا يبحث عن ضحيّة له، عن شخص يراه أضعف منه، أيّ فرد يُسقط عليه هذا العجز ليحقّق من خلاله تفوّقه ويعيش لذّة نجاح يفتقدها. وأبرز من ينصبّ عليه هذا العجز في مجتمع كهذا هي الأنثى، الحلقة الأضعف. يمارس الرّجل قوته عليها، يكبت حرّيّتها ويجعل نفسه “حارسًا شرطيًّا” عليها، محقّقًا بذلك وصايته وقوّته المفقودة. باسم التّقاليد والتّراث والعادات والدّين سيقمعها ويقتلها.
لقد استطاع الرّجل منذ عصور تاريخيّة قديمة أن يأسر المرأة بتابواته، أن يهتك حقوقها بأعرافه، أن يحبسها خلف قضبان خانقة غير مرئيّة جعلتها تعيش غربة ومنفى داخل وطنها ومجتمعها، حبيسة مسلوبة الإرادة. لعصور طويلة وهو ينظر إليها نظرة فوقيّة، ولا يؤمن بقدراتها العقليّة ولا بحقوقها وحرّيّاتها. هي تابعة له ولا حياة لها من دونه، فحتّى في خطاب المساواة والمشاركة نجد إحساسًا بالتّفوّق نابعًا من الرّؤية بمركزيّة الرّجل/ المذكّر. وهذا يذكّرنا بما كتبه المفكّر المصريّ نصر حامد أبو زيد في كتابه “دوائر الخوف- قراءة في خطاب المرأة”(1999): إنّ الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربيّ المعاصر خطاب في مجمله طائفيّ عنصريّ، بمعنى أنّه خطاب يتحدّث عن مطلق المرأة/ الأنثى ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرّجل/ الذّكر. وحين تحدّد علاقة ما بأنّها بين طرفين متقابلين أو متعارضين، ويلزم منها ضرورة خضوع أحدهما للآخر واستسلامه له ودخوله طائعًا منطقة نفوذه، فإنّ من شأن الطّرف الّذي يتصوّر نفسه مهيمنًا أن ينتج خطابًا طائفيًّا عنصريًّا. ليس هذا الخطاب الدّينيّ وحده، بل شأن الخطاب العربيّ السّائد والمسيطر شعبيًّا وإعلاميًّا. فالمرأة حين تتساوى فإنّها تتساوى بالرّجل، وحين يسمح لها بالمشاركة فإنّما تشارك الرّجل. وفي كلّ الأحوال يصبح الرّجل مركز الحركة وبؤرة الفاعليّة. وكأنّ كلّ فاعليّة للمرأة في الحياة الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة فاعليّة هامشيّة، لا تكتسب دلالتها إلّا من خلال فاعليّة الرّجل”(ص 29). هي المرأة إذًا في هذا المنطق كائن يحتاج وصاية الرّجل، هكذا يلقّن المجتمع الذّكوريّ الأنثى، بأنّ الرّجل هو الواحد وهي الآخر. فمن هي الأنثى وفق هذه المعادلة؟ هي أنثى الرّجل، هكذا تعرّف، فهي إن سمّيت ستسمّى زوجة فلان، ابنة فلان، أخت فلان، أو أم فلان.. لأنّها لا تملك أحقّيّة نفسها، وليست ملكًا لذاتها. حتّى حدود اللّغة وأيديولوجيّتها تعمل عند حدود التّمييز بينهما، المذكّر والمؤنّث. واللّغة لا تعكس ذاتها بقدر ما تعكس النّاطقين بها.
نجحت المرأة في العقود الأخيرة في التّحرّر من قيود الأسر فعكست وعيًا فكريًّا ناضجًا لحقوقها، وأمست عصاميّة مستقلّة، محقّقة مكاسب كثيرة من تحقيق الذّات والتّعلّم والعمل وغيرها. إلّا أنّها، وعلى الرّغم من هذه القفزة النّوعيّة، لا تزال مخلوقًا قاصرًا في الوعي الجمعيّ عند الكثيرين في المجتمع الذّكوريّ السّلطويّ. لا تزال الطّرف الأدنى، ضحلة التّفكير، ناقصة العقل، قاصرًا، إذا ما نطقت أو فعلت خُطِّئت وحُجِّمت وهُمِّشت، وقد تقتل وكأنّ شيئًا لم يكن. أمّا الرّجل فهو من يستر ولا يُستر، وهو الّذي يوزّع شهادات الشّرف ويُنظَر إليه وإلى “شرفه” بعين العطف والتّساهل. لربّما نحتاج هنا إلى ضرورة تحديد مفهوم الشّرف من جديد؟! أوَ سيبقى الرّجل منزّهًا عن الإدانة مهما فعل من الجرائم، الاغتصاب والتّحرّش والاعتداء والقتل والقمع وسلب الحرّيّات؟ أليس الشّرف من نصيبه أيضًا؟ ألا يعاب ولا يدان؟ أستبقى المرأة الضّحيّة والجاني في الآن نفسه وتدفع الثّمن وحدها، هي المدانة المتّهمة وبلا شهود أو قضاة؟
تدان المرأة وهي الضّحيّة في مجتمع لا ينصفها، يراها أسهل مَنْ يُسقط عليها عنفه، بل يلوك الشّعارات ويحمل اللّافتات ويتظاهر بالتّعاطف والتّطوّر، لكنّه خلف باب بيته يربّي القمع ويعزّز العنف بدلًا من ثقافة الاحترام والحوار والمحبّة الإنسانيّة والتّسامح. هكذا، وفي زمننا المعاصر هذا، يجد شهريار الأبواب مفتوحة والطّرق قد شرّعت له من جديد، يحاصرها داخل قضبان خانقة من تقاليد بالية ويتآمر مع هذا الزّمن عليها، زمن الدّواعش والتّطرّف والطّائفيّة وانكسار العدل والمساواة، والأهم من كلّ هذا تشويه قيمة الحبّ والمحبّة!! الحبّ الّذي تشوّه بفعل مادّيّة الإنسان وأنانيّته وبشاعة سلوكه. في مجتمع يسلب حقوقها بقوّة “العيب” و”الحرام”؛ وما أكثرها في مجتمعنا! الأنثى هي المحطّة الأبرز لكلّ هذا لأنّها هي أبرز مصدر للعيب والحرام! إنْ لم تكن هي المصدر الأوّل والأخير من منظوره!!
ترى الرّجل ينجذب إلى المرأة كجسد ومتعة حسّيّة جسديّة لكنّه يخشى حرّيّتها ويحيط جسدها بهالة من التّقديس والتّحريمات، “يدينها نهارًا ويسعى إليها ليلًا”. وما ذلك إلّا لأنّ الرّجل يهتمّ بجسدها فقط، ولا يهتمّ بعقلها وفكرها، بل هو في الحقيقة يخافها ويخاف تفوّقها عليه، ولعلّه “يخاف أن تنتزع منه أدوار البطولة وتنتقص منه رجولته”! في مجتمع كهذا، لا يحترم المرأة ويعزّز لغة القوّة والقمع ضدّها، ضدّ نصفه الآخر، لا بدّ أن يعزّز العنف داخل كلّ أطراف المجتمع، ولا بدّ أن يكون الرّقيب الاجتماعيّ حادّ البصر، يطلق أنيابه في كلّ مكان، كالنّسر يتلصّص من ثقب الباب على حياة الآخرين، يحلّل ويحرّم، يسمح ويمنع وفقًا لمصالحه، وبدافع الأعراف المتراكمة بالتّوارث، ودون رادع منطقيّ وأخلاقيّ أو احترام لحياة الآخر وحرّيّته، إلى أن يمسي العنف نهجًا عند الضّعيف الجاهل. وفي ظلّ هذا العنف المستشري يسرح القتل ويمرح، فلا تعود أعناق النّساء كافية، بل يمسي كلّ شخص، رجلًا كان أو امرأة، مهدّدًا بالقتل والعنف، فإلى أين؟!
يغوص واقعنا الاجتماعيّ في أدران الازدواجيّة والنّسبيّة وتحت حسابات المصالح الشّخصيّة. حتّى الحرام الدّينيّ والاجتماعيّ في السّلوك اليوميّ تحكمه النّسبيّة بكلّ معاني الازدواجيّة والنّفاق والتّناقض والرّياء. يظهر المجتمع العربيّ وكأنّه من أشدّ الشّعوب تديّنًا ومحافظة وادّعاء بالتّمسّك بالدّين، لكنّه من أكثر الشّعوب بعدًا عن الدّين من حيث السّلوك اليوميّ. الكثيرون يتحدّثون باسم الله لكنّك تتساءل كيف يكون الله موجودًا في قلوبهم في ظلّ هذا الخراب من القتل والكراهية والتّشويه والعنف؟! يعيش الكثيرون ازدواجيّة في التّفكير والممارسة، في منظومة متناقضة بين القول والفعل؛ منظومة الكيل بمكيالين، الإيمان بالشّيء وممارسة النّقيض. يحرّم الفرد لغيره ما يحلّله لنفسه. يمنح الشّرعيّة لنفسه ويكفّر غيره. يخشى الخطيئة وخدش الحياء بالعلن ولا يهمّه ما يفعله بالخفاء. ينهى عن شيء ويأتي بمثله، بل بأصعب منه! يفعل عكس ما يقول، ويقول عكس ما يفعل. أو أنّه يتصرّف وفق مقولة محمود درويش: “أن نكون ودودين مع من يكرهوننا وقساة مع من يحبّوننا”، وهي مثلما يراها درويش: “تلك هي دونيّة المتعالي وغطرسة الوضيع”.
ولمّا كان الكثيرون لا يزالون يعملون “بالقيل والقال” وترويج الإشاعات دون حسيب، والحكم بالمظاهر و”كلام النّاس”، وحصر الحياة في “العيب” و”الحرام” – وما أكثرها!- ويقتلهم الفضول ويتدخلّون فيما يفعله الآخر، ولا يحترمون خصوصيّته، ثمّ يوزّعون على الآخرين شهادات “الفضيلة” أو “السّقوط” بحسب أهوائهم وأحقادهم وعلاقتهم وأفكارهم المسبقة عن الأشخاص، ويوزّعون العفّة أو الفجور بحسب عقائدهم وآرائهم وكما يحلو لهم، فلا غرو إذًا أن يبحث الفرد منهم عن الحلقة الأضعف، المرأة، ليصبّ أشدّ ألوان الرّقابة عليها، ويضع حياتها تحت المجهر حتّى يمنحها “شهادة أخلاق” وفقًا لمنظومة الأفكار المسبقة وأعرافه البالية. فيصدر أحكامه بناء على لباسها مثلًا أو حسب مكانتها الاجتماعيّة أو وفقًا لأهوائه ومصالحه هو، أو حسب ما يسوّل له حقده ونقمته. أمّا إذا كانت عزباء أو أرملة أو مطلّقة، فالويل لها! والويل هذا يأتي بناء على أساس واحد، أنّها لا تتبع لرجل، لأنّ المجتمع اعتاد عليها تابعة لا تملك نفسها، فالحكم على تحرّكاتها سيكون قاسيًا ويخطّئها سلفًا. سيلاحقها بتقوّلاته وألسنته وما يحيكه من شبهات حولها، لا لسبب سوى لأنّها امرأة، وزد على ذلك لأنّها مطلّقة أو أرملة أو عزباء. أمّا الرّجل فلا يعيبه المجتمع، والشّرف ليس من مفردات توصيفه، بل يسمح له كلّ ما يمنعه للمرأة، وينظر إليه بعين التّعاطف والتّسامح والنّسيان، فهو “الرّجل” و”الزّلمة ما بنعاب ولا يعيّب”، مهما فعل وارتكب، فحتّى لو تعرّض لاعتداء أو اغتصاب فإنّه لن يتّهم بأنّه هو من استدعى ذلك، بلباسه مثلًا! إنّ الأنوثة ليست ضعفًا ولا اتّهامًا، واللّباس ليس مقياسًا للشّرف مثلما لا ينقص منه. ليس اللّباس هو من يزيد شرفًا ولا أخلاقًا، لأنّ الشّرف والدّنس والعهر والاغتصاب كلّها تولد في العقل والوعي والمخيّلة قبل أن تصبح سلوكًا وتصرّفًا. هي حاصل جمع وضرب وطرح وقسمة كلّ ما تربّى عليه العنيف والمغتصب والحاقد والقاتل.
لا شكّ أنّ المرأة في عصرنا، على الرّغم ممّا ذكر آنفًا، باتت تدرك ماهيّة وجودها، ساعية بالعلم والعمل والثّقافة إلى تقويض التّابوات الّتي تقصيها عن صنع القرار، رافضةً سلب كيانها ومحاولات تهميشها، مدركة أنّ تحرّرها من قبضة قامعها يتحقّق بقوّة العلم والمعرفة وتعزيز الوعي، وأنّ الحياة الإنسانيّة الرّاقية هي الّتي تقوم على الاحترام والتّكافؤ والحبّ والحوار بين الرّجل والمرأة، لا في حصر العلاقة بينهما في علاقة عقاريّة لصالح الرّجل عليها، لا أن تكون رهينة له، ومبعث متعته وملكه. إنّ تحرير المرأة من قبضة هذا التّخلّف هو تمامًا مثل تحرير كلّ وطن من قامعيه، وكتحرير كلّ مجتمع من جهله وتخلّفه، فالمرأة نصف المجتمع، إذا حرّرتها من الجهل حرّرت مجتمعًا بأكمله. والجهل لا يزول إلّا بتعزيز قوّة الوعي والعلم والثّقافة ورفعة الأخلاق. وكلّ هذا سيعزّز إنسانًا قويًّا متسامحًا محبًّا يحتوي الآخر ويتقبّله وإنْ اختلف عنه.
إنّ المرأة الواعية المثقّفة تدرك حاجتها إلى الرّجل والحبّ شرط أن تكون العلاقة مبنيّة على الاحترام والمشاركة، هي لا تريد رجلًا يجيد الشّعارات حول تحرّرها، منتقدًا المجتمع المضطهد لها، ثمّ حين يعود إلى بيته يعود إلى صورته الحقيقيّة، السّيّد القامع العنيف. ترفض أن يكون زير نساء أو شهريار يحمل السّيف، بل تريده عاشقًا، شريكا، صديقًا، حاضنًا لعذاباتها وهمومها، فتحضنه هي بحبّها. معًا يكتملان فيكملان بعضهما دون خضوع طرف لسلطة الآخر. إنّ هذه المرأة تنشد الرّجل الّذي يبحث عن شريكة حياة، فيأتيها واعيًا متفهّمًا محترِمًا، لا آتيًا للتّحكّم بها، ولا تسعى هي لأن تتحكّم به، بل تحترمه وتصنع الحياة معه. ويخطئ من يظنّ أنّني أحرّض على الرّجل أو أدعو إلى قلب الآية والانتقام من التّاريخ الّذي عزّز الرّجل على حساب المرأة، وكأنّي أطالب بتهميش الرّجل وسحقه أو إلغائه من معادلة الحياة. ويخطئ من يظنّ بأنّي أقرّ بأنّ كلّ النّساء والفتيات واعيات ناضجات مثقّفات. إنّ معادلة الحياة الرّاقية تحتاج الطّرفين واعيين مسؤولين راقيين، بل إنّي أرى الحياة الأمثل تقام على قيم الحبّ والاحترام والعدل، من الرّجل والمرأة على حدّ سواء، مع الرّجل تبني المرأة الحياة وتصنعها، فينتصر الحبّ.
إنّ الرّجل الحقيقيّ الواعي المثقّف النّاضج- ويخطئ من يظنّ أنّ الثّقافة مقصورة على حامل الشّهادة الجامعيّة، بل قد يكون مثقّفًا وهو لم يطأ عتبة جامعة- هو الّذي يعشق المرأة الّتي ترفض احتلال الرّجل لها فكرًا وجسدًا، وهو يريدها أن ترفض قمعه وأنانيّته، فيقبل منها “اللّا” حيث يجب وترغب هي، وليس متى أراد لها ذلك. على الرّجل اليوم أن يعلّم ابنه أن يدين ذكوريّة المجتمع العربيّ وأن يدافع عن المرأة، لأنّ الأنثى هي أمّه وأخته وحبيبته وزوجته وزميلته وصديقته وابنة صفّه وجارته، وهي تلك الّتي يلتقي بها في كلّ مكان. عليه أن يدين ثقافة المقموع الّتي عشّشت في وعينا حتّى ترسّخت واحتلّت دواخلنا. عليه أن يدرك أنّ أساس علاقته مع المرأة مبنيّ على احترام الإنسان في داخل كلّ منهما. هي، مثله هو، إنسان قبل كلّ شيء. لها حقوق وحرّيّات، ولها مشاعر وأحاسيس. هو شريك لها، وهي شريكة له، والحياة بينهما تبنى على المناصفة والمشاركة، المناصفة الّتي تقود إلى احترام الآخر ومحبّة الإنسان في الإنسان، لا الخوف والقهر.
صحيح أنّ الكثيرين باتوا يقدّرون المرأة. والحقّ أقول نعم، لكنّ كثيرين آخرين لم يتخلّصوا من ذكوريّتهم المتسلّطة. هي الدّماء لا تزال تكشف تخلّفنا وضعفنا! إنّ قضيّة المرأة لا تزال قضيّة المجتمع المحوريّة. وبرأيي حين نعمل على تعزيز مكانة المرأة وتأكيد وجودها كإنسان، ونربّي على احترامها وتقديرها وتكافئها مع الرّجل، ونعزّز رجلًا يعي حقّها في الحياة وحرّيتّها في الاختيار والقرار، ونربّي امرأة واعية لوجودها ومسؤوليّتها، والأهمّ أنّ نربّيهما في ظلال المحبّة، عندها سنتخلّى عن ثقافة القمع والمقموعين، العنف والتّغييب القهريّ، لأنّنا نضمن بذلك رجلًا إنسانيًّا بالدّرجة الأولى، وامرأة إنسانيّة بالدّرجة الأولى، والرّجل الإنسانيّ والمرأة الإنسانيّة لن يجعلا للكره والنقمة والعجز مكانًا في قلبيهما. وعندها فقط سنعقد مصالحة بين الإنسان والفرح والحبّ والجمال، لأنّ فعل الحبّ هو فعل الحياة والوجود. وبهذا نحقّق الثّالوث الأجمل في الحياة: الحبّ، الخير والجمال.
والحقّ أقول، إنّ تحرير الإنسان هو الوجه الآخر للمعادلة. وأعني تحرير الإنسان من قيود قسوته وأدران نقمته وحقده، ومن سطوة ثقافة المقموع. في الأرض متّسع للجميع، في الأرض متّسع للفرح والنّجاح للجميع، والقمم تتّسع لأكثر من شخص. إنّ الحقد والغيرة والكره ضعفٌ. إنّ المحبّة والتّسامح والتّواضع والاحتواء قوّة، قوّة لا يضاهيها قوّة، ولا يدركها إلّا من امتلأ قلبه محبّة وشبع بها. كلّما عزّزنا قيمة احترام الانسان للإنسان أدركنا كيف نحترم المرأة، أدركنا أنّ المرأة هي إنسان ولا تختلف عن الرّجل في ماهيّة إنسانيّته. وبالتّالي، عزّزنا حياتنا بالحبّ والتّسامح والعطاء وقبول المغاير.
إنّ الانحياز للإنسان هو الأهمّ والأبقى! نعم، الانحياز للإنسان لأنّه إنسان أوّلًا وأخيرًا، ومهما كان، مسيحيًّا مسلمًا يهوديًّا بوذيًّا كافرًا ملحدًا.. رجلًا امرأة، طفلًا مسنًّا، أشقر أسمر، غنيًّا فقيرًا، متعلّمًا غير متعلّم.. لا يهمّ! لا يهمّ ما ولد عليه بالصّدفة ودون اختياره. في السّلوك اليوميّ الحياتيّ لا يهمّك إلّا أن يكون إنسانًا معك! ليس المال ولا الشّهادات ولا الألقاب ولا المناصب من تصنع إنسانًا. هو الإنسان من يعزّز إنسانيّته، هو الإنسان من يصنع ألقابه وسمعته وصيته. هو حين يولد لا يختار والديه، ممّا يعني أنّه لا يختار لا زمانه ولا مكانه ولا دينه ولا طائفته، حتّى اسمه لا يسأل عنه! وهو حين يموت لا يتبقّى منه إلّا صورته، فإذا حاولنا تذكّره لا نتذكّر حروف اسمه، بل صورة أعماله وأفعاله معنا. حتّى ملامحه ستغيب معالمها يومًا من الذّاكرة، سنتذكّر فقط وخز الألم أو نبض الحبّ في قلبنا، ما تركه هو فينا. إنّ صورة أفعالنا ومدى ما تركناه من حبّ أو إساءة أقوى من أسمائنا وملامحنا. هي الباقية خلفنا، وبها نترك ذكرانا. إنّ العدل والحقّ والمحبّة ما يصنع الحياة الرّغيدة. وأسوأ أنواع العلاقات هي الّتي تبنى على القهر والكره والإذلال، “فقاتل الرّوح لا تدري به البشر” (جبران خليل جبران). إمّا إذا عزّزنا الإنسانيّة في الإنسان فقد كسبنا مجتمعًا إنسانيًّا.
إنّ شهرزاد بشخصيّتها الرّمزيّة لا تزال عنوانًا لكلّ النساء. وشهرزاد حين قاومت شهريار قاومته بدافع حبّها للحياة. وكيف قاومته؟ لا بالسّيف ولا بالرّمح ولا بالبندقيّة! بل بقوّة الكلمة، بالحكي! ولعلّ هذا يؤكّد على قيمة الحوار والتّعاطي بما هو أجمل، بلغة تحترم الآخر، بلغة المحبّة. وإذا كان سلاح شهرزاد في الكفاح هو “اللّغة” كوسيلة للنّجاة، فإنّ اللّغة فكر وثقافة ووعي، والفكر والوعي في العقل، والعقل سلاح لا يقهر، والمرأة العربيّة المعاصرة لا تزال هي شهرزاد: إنّها لا تملك سلاحًا ضدّ العنف والقمع إلّا كلماتها وعقلها وعلمها، وهو سلاح يدعو إلى الحياة لا إلى الموت.