رواية “دمشقيَ” للفلسطينيّة سعاد العامري بين ماتريوشكا القصّ وبابوشكا الغموض
تاريخ النشر: 24/12/19 | 10:01تأريض محمّد صفّوري – شفاعمرو
قبل الولوج إلى فضاء رواية “دمشقيَ” للكاتبة والمهندسة المعماريّة الفلسطينيّة سعاد العامريّ، لا بدّ أن نُعرِّف القارئ على لفظتي “ماتريوشكا” و “بابوشكا” الواردتين في عنوان المقالة؛ ليكونَ على بيِّنة ممّا سنورد في مقاربتنا للرواية، ويتمكّنَ من إدراك العلاقة بين هاتين اللفظتين ومقوّمات رواية “دمشقيَ”.
ماتريوشكا هي دُمية روسيّة تحوي في داخلها عدّة دمًى أخرى بأحجام متناقصة بحيث تحوي الدمية الأكبر دمية أصغر وهكذا. تُصنع الماتريوشكا من خشب الزيزفون أو خشب الصندل، وعادةً ما تمثِّل المرأة الروسيّة الريفيّة بلباسها التقليديّ “سارافان” “Sarafan”، وغالبًا ما يُغطّى رأسُها باللون الأحمر، وتتنوّع أشكالُها؛ فبعضها يُرسَم عليها مناظرُ طبيعيّةٌ من روسيا، أو شخصيّات أسطوريّة وعائليّة، وهناك دُمًى تتّصف بالفكاهة والسخرية تُرسَمُ عليها شخصيّاتٌ سياسيّةٌ، وفي هذا انحراف عن التقليد القديم الذي يقضي أن تكون المرأةُ وليس الرجلُ أساسًا للماتريوشكا الروسيّة. صُنعت الدمية لأوّل مرّة عام 1890 على يد فازيلي زفيوز دوشكين، وعُرضت لأوّل مرّة عام 1900 في معرض باريس العالميّ.
أمّا بابوشكا فهو اسمٌ مستعار لامرأةٍ مجهولةِ الهُويّة كانت ترتدي معطفًا بُنّيًّا وتلفّ وشاحًا على رأسها، صوّرت أحداث اغتيال الرئيس جون كيندي في دالاس ديلي بلازا عام 1963، ثمّ رحلت واختفت دون أن تستجيب لنداء مكتب التحقيقات الفيدراليّ وتزويدِهم بالصور، وظلّت مجهولةً إلى اليوم. سُمّيت بهذا الاسم نسبة للوشاح الذي ترتديه السيّداتُ الروسيّات الكبيرات في السنّ اللاتي يسْكُنَّ في القرى الروسيّة، وهي ترمز إلى الغموض.
رواية دمشقيَ بين ماتريوشكا وبابوشكا
تجمع رواية “دمشقيَ” بين ماتريوشكا وبابوشكا لما تحوي من قصص كثيرة متداخلةٍ ومتشابكةٍ، ما يجمعُ بينها حكايةُ جدّو نعمان وتيتة بسيمة مُشكّلةً قصّة الإطار التي تصبّ في تضاعيفها كلُّ تلك القصص المتداخلة كقصص الخادمات؛ ساجدة، غالية، وفاطمة، وتتوالد عنها قصص فرعيّة أخرى كاستعراض الظروف الحياتيّة لأهل حوران وأعرافهم الاجتماعيّة التي تصوّرها قصّة فاطمة، أو ما تفرزه حكاية غالية من قصص تسردها للأطفال تخفيفًا عن أزمتها النفسيّة لانقطاعها عن أهلها وأخبارهم، فتقوم بنسج تلك القصص عن بطلتها الطفلة “لالا” التي أجمع جمهور القصر على أنّ “لالا” ليست إلّا غالية، ناهيك بما تحوي الرواية من قصص أبناء وبنات جدّو نعمان، كقصّة كريمة وليلى وعملِهما في الأردن التي تكشف عن علاقة سحاقيّة لليلى، خالة الراوية الكبرى، مع إحدى النساء هناك، أو قصص سامية، الأخت الصغرى، وأمّ الراوية، وكيف تمّ زواجها، أو علاقتها بوسيم، أحد أفراد أسرة الجمل في القدس، وقصّة الفتاة التي أحضرها لسامية لترعاها، فما كان منها إلّا الرفض لينتقل بها إلى دمشق ومن هناك إلى قصر البارودي، بذلك تشكّل قصّة الإطار ماتريوشكا تجمع في ثناياها تلك القصص المتوالدة من بعضها البعض.
تستمرّ القصص في توالدها كلّما توغّل القارئ في فضاء الرواية، ويستمرّ تناسلها وتزداد إثارةً، ويرين عليها الغموضُ خاصّةً في ما تسرده الخادمة غالية من قصص على أطفال عائلة البارودي، أو قصّة نورما، ابنة كريمة المتبنّاة، على وجه الخصوص. إذ جاء بها وسيم، ابن عمّة سامية، أمّ الراوية، حينما كانت تقيم في القدس، وطلب منها أن تُبقي الطفلة في عُهدتها، ترفض سامية طلبه لكثرةِ مشاغلِها وعنايتها بابنتيها الصغيرتين، فيحملها وسيم إلى دمشق، وعندما تراها كريمة، أخت سامية، تتعلّق بها وتتبنّاها رغم أنّها غير متزوّجة، فتثير استياء وعدم رضى أفراد عائلتها كأخيها حكيم، لكنّها تصرّ على تبنّي الطفلة مدعومةً بتأييد والدِها وأختها ليلى. تنشأ الطفلة في رعاية أمّها كريمة، وتحاك حولها الإشاعات من قبل حكيم والخادمة فاطمة، الأمر الذي يؤرّق نورما رغم ما تتمتّع به من أسباب الهناء والسعادة في كنف أمّها كريمة، فتحاول الانتحار تحرّرًا من تلك الإشاعات والضغوط، وتُصرُّ فيما بعد، على البحث عن أمّها البيولوجيّة لتهتدي عند لقائها بزهوة، عمّة أمّها، إلى أنّها ولدت في مستشفى الدجاني في القدس، واسم أمّها لمياء الحِمصي من حيفا، وقد سبق أنْ جاءت أمّها إلى قصر البارودي بحثًا عنها، فأخبروها بموت طفلتها، لتعود خالية الوفاض من حيث أتت. تطلب نورما من الراوية، ابنة سامية، أن تساعدها في الاهتداء إلى أمّها ومصيرِها بمساعدة أمّها سامية، لكنّ سامية تنفي وصول أمّ نورما إلى قصر والدها نعمان، وتعلن أنّ الأمر كلّه من تدبير فاطمة الشريرة التي لم تتوقّف عن نشر الأكاذيب، رغم معرفة سامية بقصّة نورما يوم أحضرها وسيم إلى بيتها لترعاها. هكذا يلُفُّ قصّة نورما غموضٌ صارخ يتجلّى في تستر آل البارودي على الطفلة وعلى أمور كثيرة أخرى، ونفيهم وصول أمّ نورما إلى قصرهم بحثًا عن طفلتها، ناهيك بتجاهل الراوية لذكر والد نورما والظروف التي دفعت والديها للتخلّي عنها، لتبقى نورما طفلةً بابوشكيّة مجهولة الهويّة.
بين السيرة الجمعيّة والرواية
تتقاطع رواية “دمشقيَ” للكاتبة سعاد العامري مع رواية السيرة الجمعيّة؛ لما فيها من مقوّمات عديدة للسيرة وملامحها، كالأحداث الواقعيّة الغالبة على الرواية والموثّقة بتواريخ دقيقة عمدت الكاتبة إلى إثباتها في مواضعَ كثيرةٍ من الرواية، أو الأوصاف الحقيقيّة الدقيقة التي تسلب الأفئدة توقًا لرؤية المعالم العمرانيّة الموظّفة في الرواية خاصّة لمدينة دمشق وقصر البارودي، مسرح أحداث الرواية الأساسيّة، إضافة لعناية الكاتبة في عرض جغرافيّة بلاد الشام ومنطقة حوران وصولًا إلى فلسطين، بحيرة طبريّا، ومدينة القدس، نابلس، وقرية عرّابة ونحو ذلك، ناهيك بالأسلوب المباشر في عرض شخصيّاتها بلغة معياريّة مباشرة؛ ممّا يُشعر القارئ بأنّه يقارب رواية حقيقيّة واقعيّة تمتحُ الراوية أحداثها ممّا تفيض به ذاكرتُها، لتزيدَها قربًا من فنّ السيرة، رغم ما تحوي من أحداث خياليّة جمّة تقرِّبها من الرواية.
مضمون الرواية
يشكّل قصر البارودي في مدينة دمشق مسرحًا لأحداث الرواية الأساسيّة، إنّها رواية تصوّر حياة عائلة دمشقيّة أرستقراطيّة وافرة الثراء، إذ امتلك ربُّ العائلة جدّو نعمان البارودي مصنعًا للأخشاب وآخرَ للثلج أكسباه ثروة كبيرة حتّى صار أحد أغنياء دمشق، وقد مكّنته تلك الثروة من شراء قصر البارودي، أحد أروع قصور القرن الثامن عشر في مدينة دمشق القديمة. يتزوّج نعمان من بسيمة، وهي فتاة فلسطينيّة من عائلة عبد الهادي القاطنة في قرية عرّابة ومدينة نابلس، كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والثلاثين، وقد أنجبا خمس بنات وثلاثة أبناء، كانت سامية، أمّ الراوية أصغرهم وأكثرهم دلالًا. تنشغل بسيمة بأمور عائلتها الكبيرة، لتنقطع عن أهلها مدّة ثلاثين عامًا إلى أن حضر أخوها الأصغر إبراهيم ليرافقها إلى قرية عرّابة بسبب مرض أمّها، تسافر معه، هي وطفلتها سامية، ولا تحظى برؤية أمّها التي فارقت الحياة، وتمكث بين أهلها نحو شهرين تزور خلالهما مدينة القدس لأوّل مرّة في حياتها، وتحلّ ضيفة عند أخت زوجها زهوة الجمل، ثمّ تعود إلى دمشق لتكتشف الكارثة التي حطّت على رأسها، لقد قام زوجها نعمان الذي لا يشبع من الجنس بمضاجعة الخادمة ساجدة، فحملت منه. كان وقع الخبر على مسامعها شديدَ الإيلام، فصرخت صرخة رجّت أركان القصر، واعتكفت في غرفتها مدّة طويلة، واختفى زوجها نعمان لأيّام، ثمّ ظهر مستعطفًا إيّاها طالبا المسامحة، فأدارت وجهها عنه، وسحبت يدها من يديه، طالبة منه الرحيل فرحل، واختلت مدّة شهر في غرفتها غارقة في الصوم والصمت والعبادة، ثمّ أمرت بإحضار ساجدة المسكينة، كما كانت تدعوها دائمًا، وقد أدركت بسيمة أنّه لم يكن أمام ساجدة أيّ فرصة للهرب من شبق زوجها، ثمّ تمكّنت أن تغفر لها، لكنّها لم تنس أبدًا.
تُخصِّص الراوية الجزء الثاني لتصوير حياة أمّها سامية بعد زواجها من الفلسطينيّ عمر أبو مروة وإقامتها في كلّ من مدينة السلط، مدينة عمّان، ومدينة القدس، متطرّقة لمواصلة علاقتها بوسيم الجمل الذي أحبّته وتعلّقت به وهي ما تزال طفلة، لتبدأ في سرد قصّة أخرى، هي قصّة الطفلة التي أحضرها وسيم إلى بيت سامية طالبًا أن تكون في عهدتها، ترفض سامية الأمر لكثرة مشاغلها وعدم تمكّنها من تدبير شؤون بيتها وابنتيها الصغيرتين، فيحملها وسيم إلى دمشق، وتتعلّق بها خالة الراوية كريمة وتتّخذها ابنة لها رغم الاستياء وعدم الرضى الذي عمّ بين بعض أبناء عائلة البارودي.
تأتي هذه الطفلة لتملأ مساحة الجزأين الأخيرين من الرواية، وتكشف الراوية عن جوانب عديدة من حياة الطفلة/ الشابّة نورما مثل قصصها المتشابكة، علاقتها بمراسل تلفزيونيّ سوريّ، كتابتها لمسرحيّة “اللقيطة” التي قامت الراوية بتمثيلها فألهبت قلوب المشاهدين، تصوير علاقة نورما القويّة بوالدتها كريمة التي منحتها كلّ العطف والحنان ودافعت عنها أمام هجوم أخيها حكيم والخادمة فاطمة، حياة نورما مع أمها كريمة وخالتها ليلى في الدوحة، مرض أمّها ثمّ موتها لتدفن في بيروت وقد شارك في جنازتها ثلاثة أشخاص فقط، تصوير علاقة نورما الحميمة بالراوية ليلى ورغبتها في أن تسعى الراوية معها للعثور على أمّها الحقيقيّة بمساعدة والدة الراوية سامية، لكنّ تلك المساعي لم تسفر عن شيء، اللهمّ إلّا بعض التفاصيل التي أعلمتها بها العمّة زهوة حينما طلبت الاجتماع بنورما وهي في بيروت، وأطلعتها على اسم أمّها لمياء الحِمصيّ، هكذا احتلّت حياة نورما جزءًا كبيرًا من فضاء الرواية، وهذا ما صرّحت به الراوية في قولها: “باستثناء وفاة جدّو نعمان، فإنّ كلّ ما حدث حينها كان متعلِّقًا بابنة خالتي نورما” (217).
يستحوذ الجزء الثالث من الرواية على أكبر مساحة من فضائها تصل إلى نحو ثلاثٍ وتسعين صفحة، ليشكّل قطب الرحى بما يحوي من مضامين أساسيّة ومثيرة أبرزها وصف قصر البارودي الذي تتّخذه الراوية مسرحًا لأحداث كثيرة من الرواية، مشيرةً إلى كيفيّة انتقال ملكيّته لجدّها، فتقول: “اشترى جدّو نعمان في عام 1905 هذا القصر العثمانيّ الرائع من ابن عمّه درويش أفندي البارودي لإيواء أسرته الآخذة في التوسّع. بُنيت هذه الرائعة المعماريّة في عام 1737، وضمّت أربعًا وعشرين غرفة وجناحًا من مختلف الأحجام والأشكال. وتقع معظم غرف الاستقبال والصالونات وقاعات الطعام ومناطق الخدمة حول الفناء والليوان شبه المفتوح في الطابق الأرضيّ، أمّا الطابقان الثاني والثالث فكانت فيهما غرف معيشة عائليّة مختلفة، وغرف نوم، وشرفات مفتوحة”(102).
يبدو أثر ثقافة الكاتبة جليًّا في الرواية، ويتمثّل هذا الأثر في تكثيف وصف الراوية المُسهَب للفنّ المعماري الراقي لكلٍّ من قصر البارودي أو مدينة دمشق، ولا غرو في ذلك وهي مهندسة معماريّة، تصوِّر في روايتها لوحاتٍ فنّيّةً معماريّة رائعة، ومن ذلك وصفُها لبوّابة الأرز الخشبيّة الضخمة لقصر البارودي التي يسمح ارتفاعها بمرور فارس على صهوة جواده، كما يسمح عرضُها بمرور جَمَلٍ محمّلٍ بالبضائع، أمّا وظيفتها، برأي الراوية، فهي قدرتها على إخفاء قصص جدّو نعمان وقصص عائلته حفاظًا على خصوصيّة العائلة والصفقات التجاريّة، والأسرار والفضائح التي تحدث في كلّ زاوية من الزوايا الكثيرة في البيت، وقد جُعِل للقصر، أُسوةً بالقصور الدمشقيّة، تصاميمُ خارجيّةٌ طينيّة متواضعة حجبت مدى الثراء والروعة الكامنين وراء تلك الجدران العالية التي لا يمكن اختراقها، تهرُّبًا من الضرائب العقاريّة. يلتقي الداخل إلى القصر بغرف استقبال فسيحة حول فنائه وليوان شبه مفتوح، كانت غرف استقبال الرجال في الساحة الخارجيّة أو ما يُسمّى المربّع البرّاني، أمّا غرف استقبال النساء فكانت في الساحة الداخليّة أيْ المربّع الجوّاني، كما يلتقي بالصالة وهي صالون مختلط للضيوف إضافة للأجنحة الخاصّة العديدة وغرف النوم، مساكن السادة والخدم الموزّعة في نواحي القصر الفخم(92 – 93).
تتجلّى روعة الفنّ المعماريّ في قاعتي القصر التحتا والفوقا، وهما أجمل أجنحة القصر، زيّنتهما الأسقف الخشبيّة الملوّنة، والجدران الجفصيّة والخشبيّة المزخرفة. قُسّمت القاعة التحتا إلى مساحتين كبيرتين بسقفين عاليين، زُيّنت المساحة السفلى منها بنافورة مثمّنة كبيرة مصنوعة من رخام كارارا الإيطاليّ الأبيض، مطعّمةً بقطع دقيقة من الحجارة الورديّة والسوداء، تتناسق زخارف هذه النافورة مع أشكال الأرضيّات الرخاميّة من حولها، وتتباين هذه الأرضيّات الرخاميّة البيضاء على نحو جميل مع السجّاد العجميّ المفروش في وسط الفضاء العلويّ، حيث ينتصب سرير جدو وتيتة النحاسيّ المرتفع، وامتدّت الديوانيّات الضيِّقة والعالية على طول الجدران الثلاثة الخشبيّة المزخرفة. كانت زخارف هذه الجدران، فضلًا عن الأسقف المرسومة والمنحوتة، من أجمل الزخارف في القصور العثمانيّة الدمشقيّة جميعها حتّى لو قورنت بقصر العظم(101).
أمّا دمشق فهي جنّة الله على الأرض وفق ما أشار النبيّ محمّد عندما توقّف في قرية القَدَم ولم يدخل دمشق؛ إذ لمح رونق المدينة الأخّاذ من بعيد وقال متوجِّسًا منبهرًا: ” للمرء أن يدخل الجنّة مرّةً واحدةً لا مرّتين!”(17). تسترسل الراوية في وصف الأحياء العصريّة المبنيّة حديثًا في مدينة دمشق، تلك الأحياء الممتدّة إلى ما وراء أسوار المدينة القديمة، الميادين الواسعة، والساحات الكبيرة، الحدائق الخضراء الجديدة، مناطق التسوّق الجديدة والأحياء الأنيقة ذات الشوارع الواسعة مثل الحيّ اليونانيّ الحديث (حيّ المهاجرين)، ساحة المرجة، وهي الساحة الرئيسة للمدينة التي تحيط بها المباني الحكوميّة والأثريّة والسراي(35). ينبهر المتجوّل في مدينة دمشق بما تعبق به من روائح عطريّة جعلتها جديرة بأن تسمّى مدينة الياسمين، إنّها مدينة البازارات المسقوفة التي لا تنتهي، والقصور فائقة الجمال والروائح العطريّة التي كانت تتبدّل بين بسطات الباعة المتنوّعة بدءًا من سوق مدحت باشا المسقوف، سوق البزوريّة للتوابل، وسوق الحريقة حيث محلّات الحرير والغزل والنسيج، أمّا سوق الحميديّة المشهور عالميًّا فلا شيء يضاهيه جمالًا وفخامةً بسقفه الصلب الأنيق، وفتحاته الدائريّة التي يتسرّب منها الضوء الساحر، وبطوله الممتدّ لأكثرَ من أربعمائة متر منتهيًا بالجامع الأمويّ، إضافةً لمحلّ بوظة بكداش الذي يعود لعام 1885(40). إنّ هذه الصور الرائعة والمعالم العمرانيّة التي تسبي القلوب تؤكّد قيمة الرواية كرائعة قصصيّة معماريّة توثّق لمواطن الجمال الساحر في مدينة دمشق وقصر البارودي، ممّا دفع سامية، أمّ الراوية، لتتساءل متألّمة لابتعادها عن دمشق، قائلةً: “كيف يمكن لإنسان عاقل أن يختار العيش بعيدًا عن هذه المدينة الساحرة الطافحة بخيرات لا تُحصى؟”(91). هكذا يستحوذ حبّ قصر البارودي وحبّ مدينة دمشق على قلب الراوية وأمّها، وقدجعلهما تؤمنان أنّ بيت جدّو، وفقط بيت جدّو، هو البيت الوحيد الذي تعترف به أمّها، كما أن دمشق، وفقط دمشق، مدينتها(246).
تنبري الراوية في الجزء الثالث أيضًا إلى وصف الحياة العائليّة والاجتماعيّة التي كانت تدور داخل أسوار قصر البارودي، خاصّة في كلّ يوم جمعة، إذ تقام وليمة طعام شهيّة لأكثر من خمسين شخصًا، تحوي ما لذّ وطاب من الأطعمة الشاميّة كالبسمشكات، وهي شرائح رقيقة من اللحم مخيّطة على شكل أكياس مستديرة، تُحشى بالأرز واللحم المفروم واللوز المقلي، والكرشات والكوارع المحشوّة بنفس الموادّ، اليبرق أي ورق العنب الملفوف والكوسا المحشوّة، وغير ذلك من أنواع اليخنة المتنوّعة، والمشاوي من لحم البقر ولحم الضأن والدجاج، ناهيك بالمقبّلات المختلفة كالفتّوش والشنكليش، وأصناف الكبّة السبعة الأكثر لذّةً وشعبيّة، ونحو ذلك.
يتطلّع أفراد العائلة جميعُهم لوليمة يوم الجمعة لسبب أو مصلحة خاصّة، فمنهم من يتشوّق لرؤية أفراد العائلة والوقوف على أخبارهم، أو إشاعة النميمة والثرثرة المتعلّقة بما فاتهم من أحداث لأنّهم يعيشون في أماكن بعيدة كالقدس مثل سامية، أمّ الراوية، أو في حمص مثل خالها صادق. أمّا زوجات أخوالها الثلاث فكان يوم الجمعة بالنسبة لهنّ فرصةً لطلب المشورة، أو شكوى من أزواجهنّ، فتعمد خالتها ليلى ذات السلطة المطلقة إلى تسوية النزاعات والفتوى في المشاكل العائليّة، ومنهم من يطلب زيادة راتبه الشهريّ لعائلته المتنامية، وتشكو بعضهنّ من قسوة الزوج على الأبناء، أو تعلّق الزوج المبالغ فيه بالنساء وقضاء جلّ وقته في الملاهي الليليّة. وعليه فقد شكّل يوم الجمعة ما يشبه جلسات العلاج النفسيّ لكثير من أفراد الأسرة، إضافة لتحقيق أطماع ومآرب أخرى.
تلتفت الراوية في هذا الجزء من الرواية إلى تصوير بعض شخصيّات الرواية من أسياد وخدم، ولا تتوقّف عند هذا الحدّ بل تُبدي رأيها في كثير من الشخصيّات مثل خالتها ليلى، ابنة جدّو نعمان الكبرى التي يخشاها كلّ أطفال العائلة لشدّتها وجدّيّتها ما عدا أخت الراوية مروة التي شعرت ليلى بمحبّة خاصّة نحوها منذ ولادتها، وقد هيمنت ليلى على جميع من في القصر بمن فيهم تيتة بسيمة وجدّو نعمان الذي لم يرفض لها طلبًا قطّ، فاكتسبت دورها ومكانتها كليلى الطاغية التي يسعى الجميع لمشورتها ورأيها وحكمها. أمّا جناحها الفسيح الواقع في الطابق الأرضيّ المسمّى بالمربّع الداخليّ، فكان شبيهًا بجناح والديها، مقابل هذه الصورة المنفّرة لليلى ترى الراوية أنّ خالتها كريمة طيّبة وسخيّة ولذا كانت قادرة على منح الحبّ والرعاية والاهتمام لأبناء شقيقاتها وأشقّائها وبناتهم، حتّى سامية، أمّ الراوية، كانت تؤثر النوم في جناح كريمة عندما كانت تأتي للزيارة(107 – 108). تعجب سامية من التناقض الكبير بين أختيها؛ ليلى وكريمة لتقول: “كم كانت ليلى أنانيّة لا تفكِّر إلّا بنفسها! وكم كانت كريمة سخيّةً ومعطاءةً! كم كانت ليلى داهية ومتلاعبة! وكم كانت كريمة طيّبة القلب وبسيطة!”(119 – 120). رضيت كريمة لسنوات مرافقة أختها ليلى في رحلاتها إلى الأردن لتكون قريبة من حبيبتها هناك، ممّا يوضّح سبب رفضها للزواج، بينما لم يتّضح سبب رفض كريمة للزواج، ولشدّة دهاء خالتها ليلى استطاعت أن توهم الجميع أنّها ضحّت بحياتها من خلال مرافقة أختها كريمة للتدريس في الأردن، وقد وقفت أمّها سامية وكثيرون من العائلة على حقيقة العلاقة بين ليلى وكريمة(120).
ترصد الراوية أيضًا الأصول التي انحدر ت منها خادمات القصر مثل ساجدة، غالية، وفاطمة، فتكشف بذلك عن الظروف الحياتيّة القاسية التي تعيشها هذه الفئة من الناس، وصلت هؤلاء الخادمات قصر البارودي في أزمنة مختلفة وظروف متفاوتة، فوالد ساجدة لم يستطع سداد دينه لجدّو نعمان، فقايضه بابنته لدفع ديونه، وحينما سافرت تيتة بسيمة إلى مدينة نابلس وقريتها عرّابة لزيارة أمّها المريضة التي توفّاها الله قبل وصولها، قام جدّو نعمان بمضاجعة ساجدة، فحملت منه وولدت ابنها سامي، أمّا غالية فمُنحت “هديّة زواج” لجدّو نعمان من شقيقته في مدينة جدّة، بعد أن بيعت هي وأخواها في سوق النخاسة، فانفصلت عن عائلتها وانقطعت أخبارها عنها، ممّا جعلها تغرق في حزن عميق كان يدفعها إلى البكاء في كلّ يوم جمعة منذ وصولها إلى القصر، بينما قَدِمَتْ فاطمة من منطقة حوران السوريّة، بعد أن أُرغمت على الزواج وهي في سنّ العاشرة من رجل يكبرها بسنوات كثيرة، فهربت من زوجها ووصلت إلى القصر فجأة وهي تحمل طفلها محمّد بين ذراعيها(100).
تضعضعت أحوال جدّو نعمان الماديّة خلال الكساد الكبير الذي عمّ العالم عام 1929، فهبّ أولاده وبناته جميعُهم يمدّون له يد العون للحفاظ على القصر بعد أن باع مصنعي الخشب والثلج فضلًا عن الخزف الصينيّ وبعض أثاث القصر(70)، وقد أُشيعَ أنّ ثروة جدّو نعمان اختفت فجأة، وعلى نحو غير متوقّع؛ لكونه الضامن لابنَيْ عمّه سالم ومروان التميميّ، وهما تاجران آخران من تجّار دمشق الأغنياء أصابهما الإفلاس، ممّا يوضّح تجريد غرف الاستقبال في القصر من الأثاث، الديكورات، والمفروشات(191). زال ألق قصر البارودي بعد وفاة جدّو نعمان، وأخذ عدد المشاركين في وليمة يوم الجمعة بالتناقص، كما اختفت أطباق مختلفة من الأطعمة من مائدة يوم الجمعة تدريجيًّا، وتفكّكت أواصر العلاقة بين أفراد عائلة البارودي، وتضاءلت ثروتهم ليس بسبب وفاة جدّو نعمان فحسب، بل بسبب التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة الدراماتيكيّة التي وقعت في سوريا كانهيار الوحدة بين مصر وسوريا، وسلسلة الانقلابات المتتابعة التي ضربت البلاد آنذاك كالانقلاب البعثيّ عام 1963، وعام 1966، وهكذا تلاشت ثروة عائلة البارودي ومكانتها مثل سائر طبقة التجّار الأغنياء في دمشق، بل في سوريا قاطبةً(251).
أمّا السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام فهو : “هل شكّل قصرُ البارودي في روعته وما حوى من فنّ معماريّ راقٍ، وفي المصير المأساويّ الذي آل إليه معادلًا موضوعيّا لمدينة دمشق وبلاد الشام؟!” تبقى الإجابة عن هذا السؤال لاجتهادات القرّاء، ونكتفي بنقل ما جاش من مشاعر داخليّة في نفس الراوية التي تقول: “ربّما كان شعوري الداخليّ بأنّ دمشق مدينتي الحبيبة، ومركز التجمّع التجاريّ والزراعيّ لبلاد الشام، وكذلك الدول والثقافات العربيّة المتوسّطيّة جميعِها، كانت تفقد بريقها لصالح البلدان العربيّة النفطيّة الغنيّة الفتيّة”(254).
خطابات متفرّقة
تعنى الرواية بصورة خاصّة بالخطاب السياسيّ – التاريخيّ، فتشير إلى حملة إبراهيم باشا، ابن محمّد علي باشا على فلسطين بين الأعوام 1834 – 1844، ومساعدة بعض أبناء العائلات الغنيّة له، مثل حسين بك عبد الهادي من قرية عرّابة، عمّ تيتة بسيمة الذي عُدّ خائنًا في نظر الفلاحين، إذ ساند حسين وأمثالُه الغازيَ إبراهيم باشا، فاستطاع بمساندتهم شقّ صفوف الفلاحين وسحق ثورتهم عام 1834، ليصير حسين مقابل ذلك حاكما لمعظم فلسطين، وكان له قصر في عرّابة، وآخر في نابلس، وثالث في حيفا، حيث عاش بعيدًا عن الناس الذين خانهم وحكمهم( 20). وتلتفت الراوية لبعض القرى الإقطاعيّة في فلسطين، تلك القرى التي كانت تسمّى بقرى الكراسي كقرية بيت وزن، وقرية كور، أو قرية صانور حيث ولدت عائشة، أُمّ تيتة بسيمة، وكانت العائلات الإقطاعيّة في تلك القرى تجمع الضرائب نيابة عن الحكومة العثمانيّة، ممّا أغدق عليهم بثروات طائلة عدا النفوذ السياسيّ والحظوة الاجتماعيّة(26). وتعرض الراوية للنزاع العربيّ اليهوديّ في فلسطين مشيرة إلى اندلاع الثورة الفلسطينيّة عام 1929 ضدّ إقامة وطن يهودي في فلسطين، وما سبقها من وعد بلفور، أو ما تلاها من سلسلة انتفاضات للشعب الفلسطيني ابتداءً من عام 1921 وحتّى عام 2000، مضيفة توقّعها انتفاضاتٍ كثيرةً أخرى في المستقبل(68 – 69). استمرّتِ المناوشات بين العرب واليهود في فلسطين والقدس على وجه الخصوص، مذكّرةً بما قامت به عصابة الإرغون اليهوديّة بتاريخ 22 تمّوز عام 1946 من تفجير فندق الملك داود، المقرّ الرئيس لإدارة الانتداب البريطانيّ في فلسطين، إضافة لوصف أجواء مدينة القدس آنذاك، تلك الأجواء التي كانت محكومةً بحروب ونزاعات لا تنتهي بين العرب واليهود. كما تذكّر الراوية بحلف بغداد الذي أنشأه الأمريكيّون عام 1955، فهبّت المعارضة بين أوساط الشعب في الأردن، وادّعى الملك حسين أنّهم ينظّمون انقلابًا ضدّه، فقامت السلطات باعتقال معظم النشطاء السياسيّين والناصريّين والشيوعيّين واليساريّين وكلّ من عارض ذلك الحلف بمن فيهم والد الراوية، وزجّهم في سجن الجفر (الإتشفور)، وغير ذلك من الأحداث التاريخيّة والسياسيّة الأخرى كتدمير مكتبة بغداد “بيت الحكمة” على يد هولاكو المغوليّ وإلقاء ما فيها من كتب في نهر دجلة، أو حلّ وإسقاط الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بين مصر وسوريا على يد الحكومة الانفصاليّة. كلّ هذه الأحداث الواردة لا تأتي مقحمة على الرواية إذ تبرع الراوية/ الكاتبة في ربط هذه الأحداث بأحد عناصر الرواية الرئيسةـ فتعمل بذلك على تنشيط ذاكرة القارئ من ناحية، وترسيخ هذه الأحداث في الذاكرة الجمعيّة من ناحية أخرى.
توظّف الكاتبة روايتها للتغنّي بجمال بلادها وطبيعتها الساحرة، سواء كانت في دمشق وسوريّا، أو في عرّابة ونابلس، ومدينة القدس، بل في فلسطين كلّها، فتشرع في وصف الطريق الجبليّ الرومانيّ القديم الذي كان يربط دمشق بالحجاز مقابل الطريق الساحليّ الذي يربط معظم المدن المتوسّطيّة، وتَظهرُ تيتة بسيمة في طريقها لزيارة أهلها سعيدةً، وهي تتأمّل بمتعة بحر القمح المتماوج في هضبة حوران البازلتيّة، وتذهلها حقول الربيع الخضراء ونضارتها وامتدادها، ممّا يدعوها للاسترخاء قليلًا، وتشدّها ذروة جبل الشيخ البيضاء التي تبدو في الأفق البعيد، ثمّ تنحدر السيّارة من الطريق الضيِّق المتعرِّج من مرتفعات الجولان إلى وادي بيسان في اتّجاه بحيرة طبريا، وتُحدِّق في انعكاس الأضواء على سطح البحيرة كالمرآة، وتدرك صغر البحيرة مقارنةً بالبحر المتوسّط المفتوح والهائج في بيروت، وحينما وصلت السيّارة إلى مرج ابن عامر انعكس هدوء السهل وانفتاحه على نفسيّة تيتة بسيمة بينما كانت السيّارة تواصل طريقها على طول الطريق الضيّق المستقيم في اتّجاه صانور؛ قريةِ الكرسي الشهيرة مسقطِ رأس والدتها، قاصدةً مدينة نابلس التي يحضنها كلٌّ من جبل جرزيم وجبل عيبال، وعلى مقربة منها تقع قريتها عرّابة، بذلك تتأكّد العلاقة الحميمة بين الإنسان العربيّ؛ السوريّ و الفلسطينيّ وبين بلاده التي لا تغرب عن باله ووجدانه، ويظلّ متعلّقًا بها علاقة حبل السرّة بالوليد.
تكشف الرواية عن مكانة المرأة في المجتمع العربيّ التقليدي آنذاك، مبيِّنة الظلم الواقع عليها، إذ تُرغم الفتاة على الزواج صغيرةَ السن، دون أن يُؤخذ برأيها، كما حدث مع الخادمة فاطمة في منطقة حوران، فقد زُوّجت وهي في العاشرة من عمرها، وكذلك تيتة بسيمة التي زوّجت وهي في الخامسةَ عشرةَ من عمرها، فتنقطع عن أهلها ولا يُسمح لها بزيارتهم إلّا إذا رزقها الله بطفل ذكر ليكون وريثًا يحفظ ممتلكات العائلة وخاصّة أراضيها التي ينبغي أن تبقى في الجانب الأبويّ للأسرة، وإن لم يحالفها الحظّ وأنجبت فقط الإناث كانت تتعرّض للتعيير، على أفواه النساء خاصّة، وتُلقّبُ “أمَّ البنات” كما حدث مع بسيمة في مرحلة إنجابها البنات، ولا تستطيع المرأة السفر إلى أهلها وحدها، إذ لا بدّ أن يرافقها رجل من محارمها، مثلما رافق أخو بسيمة المدعو إبراهيم أخته في سفرها إلى قرية عرّابة حيث تقيم عائلتها، كما تحرم الطفلة من الذهاب إلى المدرسة كسائر الأطفال خاصّة إذا كان والدها غير ميسور الحال مثل والد فاطمة التي عذّبها ذهاب بنات عمّها إلى المدرسة بينما بقيت هي ملازمة لبيت والدها.
توثّق الرواية لكثير من الأعراف والعادات الاجتماعيّة الأخرى أبرزها ظاهرة الطبقيّة في كلّ من المجتمعين السوريّ والفلسطينيّ، فالعائلات الغنيّة في دمشق لا تزوّج بناتها إلّا من أبناء الأغنياء، كعائلة القبّاني، الجمّال، المحيسن، والطبّاع، والإنجليزيّ، وهي العائلات الأكثر نفوذا، ليس في دمشق وحسب، بل في المنطقة بأكملها من جدّة في الحجاز، إلى بيروت والقدس، وحتّى اسطنبول، ونجد نفس التوجّه في نابلس وعرّابة، فعائلة عبد الهادي لا يتزوّجون من الأسر الفلاحيّة الأخرى في عرّابة، بل من أبناء العائلات الإقطاعيّة الأخرى في الريف الفلسطينيّ كعائلة القاسم من القرية الإقطاعيّة بيت وزن، أو عائلة الجيوسي من قرية كور، ممّا يوسّع الهوّة الاقتصاديّة بين طبقات المجتمع، ويزرع الضغينة على الطبقة الغنيّة في قلوب أبناء الفلاحين الفقراء. تشير الرواية إلى أعراف اجتماعيّة أخرى كضرورة وضع خرزة زرقاء وتميمة حول عنق الطفل الذكر من اليوم الأوّل؛ حمايةً له من أعين النساء العاقرات، أو ضرورة خلع الحذاء قبل الدخول إلى المنزل، وهي عادة اكتسبتها العائلة من جدّو نعمان وأمِّه التركيّة، ونحو ذلك.
فنّيّة الرواية والأساليب الجماليّة الموظّفة فيها
تتألّف الرواية من ستّة أجزاء متفاوتة في طولها، تنقسم ثلاثةٌ منها إلى ثلاثة فصول، واثنان آخران إلى أربعة فصول، أمّا الجزء الأخير فيقع في فصلين فقط. تُثبت الكاتبة في مستهلّ كلّ جزء اسمًا له، ومثلَ ذلك تجعل لكل فصل. أمّا أطول أجزاء الرواية فهو الجزء الثالث الذي نعتبره واسطة العقد في الرواية والبؤرة التي تجتمع حولها معظم الأحداث، ومنها ينطلق النور ليضيء على الأجزاء الأخرى فيها، ثمّ تأخذ الأجزاء بالتناقص، لا من حيث عدد الفصول، إنّما بحسب عدد الصفحات، وصولًا إلى الجزء الأخير ، وهو أصغر الأجزاء، ليشكّل هذا العدد التنازليّ للصفحات معادلًا موضوعيًّا ينسجم مع الحالة التي آلّ إليها كلٌّ من القصر، وآل البارودي، ومدينة دمشق.
تسند الكاتبة عمليّة سرد أحداث الرواية لحفيدة جدّو نعمان ليلى، وهي ابنة سامية الصغرى، وقد اختارت الكاتبة هذه الراوية في تصوّرنا؛ لأنّها تمثّل الجيلَ الثالثَ لعائلة البارودي، وقفت على ما دار من أحداث العائلة قبل ولادتها اعتمادًا على ما سمعته من أمّها وخالاتها، كما شهدت أحداثًا أخرى، بل شاركت فيها كشخصيّة فاعلة من شخصيّات الرواية لتؤدّي بذلك دورًا مضاعفًا؛ فهي راوية الأحداث، إضافة لكونها إحدى شخصيّات الرواية الحاضرة في كثير من أحداث الرواية، منذ وفاة جدّها نعمان حتّى نهاية الرواية. يتوزّع السرد على ضميري الغائب والمتكلّم، يستحوذ ضمير الغائب على الأجزاء الثلاثة الأولى، إذ لم تكن الراوية قد ولدت بعد، أو أنّها كانت صغيرة، ثمّ يتحوّل السرد إلى ضمير المتكلّم في الأجزاء الثلاثة الأخيرة، إذ تظهر الراوية شخصيّة فاعلة ومشاركة في أحداث هذه الأجزاء الثلاثة الأخيرة، بل إنّها تخصّ نفسها بأحداث الجزء الرابع كلّها تقريبًا، وتشاركُ نورما، ابنةَ خالتها كريمة في الجزأين الأخيرين اللذين يتناوب فيهما ضمير الغائب وضمير المتكلّم على عمليّة السرد.
لا يأتي سرد الأحداث متسلسلًا زمنيًّا؛ لكونه سردًا انتقائيًّا، وعليه كثيرًا ما تعمَدُ الراوية إلى تقديم بعض الأحداث وتأخير بعضها الآخر، خدمة للمضمون، من خلال تقنيّات عديدة كالاسترجاع، الاستطراد، التداعيات، المناجاة، الإرجاء، التناصّ، التوالد الحكائيّ، وغير ذلك من التقنيّات الموظّفة في الرواية.
يظهر أسلوب الإرجاء جليّا مع قصّة الطفلة التي رفضت أمّها سامية كفالتها عندما أحضرها قريبها وسيم إلى بيتها في القدس، فيحملها ويخرج بها إلى دمشق، وهناك تتوقّف حكايتها لتعود مع رؤية كريمة لها، وتعلّقها بها، وقرارها بأن تتبنّى الطفلة، ولا تُستكمل قصّتها إلّا في الأجزاء الأخيرة حيث تنتهي الرواية. في حالات أخرى تصرّح الراوية بأنّها ستُرجئ متابعة الأحداث المتعلّقة بشخصيّة ما، كشخصيّة فاطمة التي أغضبت سامية عند حضورها إلي بيت والدها، لتسأل أختها كريمة: “بربِّكِ، من أين جئتم بهذه اللبؤة؟”(98)، تتابع الحديث عن فاطمة لكنّها سرعان ما تتوقّف لتعلن أنّها ستعود إليها، إذ تعلن الراوية قائلة: “سنعود إلى هذه الشخصيّة وتعقيداتها الكثيرة في سياق هذه الملحمة”(105). بذلك تعمل تقنيّة الإرجاء على تشويق القارئ لمتابعة أحداث الرواية والوقوف على تفاصيل أخرى من شأنها أن تلقي الضوء على الأحداث أو الشخصيّات ليتمكّن من سبر أغوار الرواية، فيبقى متيقّظًا ومنتظرًا لهذه التفاصيل المؤجّلة.
ومثل ذلك تصنع الراوية معلنةً عن استخدامها أسلوب التداعيات الذي يوقف الحدث، ليتحوّل السرد إلى حدث أو أحداث أخرى من شأنها أن تثري عمليّة السرد، وتطرد الملل الذي قد يصيب القارئ نتيجة رتابة السرد، ومن ذلك استحضار بعض الأحداث المرتبطة بشخصيّة جدّو نعمان، إذ تقول الراوية: “عادت تيتة بسيمة إلى فكرة شغلت بالها سنوات عديدة ضمن ذلك التداعي المستمرّ للأفكار. كيف لم يتزوّج زوجها في سنٍّ مبكِّرة، إذا كان مهووسًا بالجنس إلى هذه الدرجة طيلة حياته؟ […] ربّما كان لذهابه إلى بيروت لقضاء “وقت طيّب”مع ابن عمّه سعيد وأصدقاءَ آخرين أيُّ علاقة بالأمر”(34).
تقوم الرواية، كما أشرنا سابقًا، على تقنيّة التوالد أو التناسل الحكائيّ، وهي تقنيّة تكاد تطغى على سائر تقنيّات الرواية، إذ تتوقّف الراوية عن متابعة سرد قصّة ما، لتدخل في قصّة أخرى، ومنها إلى قصّة ثالثة مشكّلةً ما يشبه الدمية ماتريوشكا، وفي هذا ما يشُقّ على القارئ في لملمة أحداث الرواية، إلّا أنّها تُنشّط ذاكرتَه وتشحذ عقله، ليعود مع انتهاء الرواية إلى ترتيب أحداثها، وهو أسلوب مستخدم بكثافة في الرواية، ومن نماذجه، قصّة سفر تيتة بسيمة إلى أهلها التي تفسح المجال لخيوط قصّة جديدة ومثيرة، هي قصّة جدّو نعمان مع الخادمة ساجدة، ومنها إلى قصّة ساجدة ووالدها الذي قايض بها جدّو نعمان على دينه الذي لم يستطع سدادَه، ولعلّ في قصّة نورما خيرَ مثالٍ على توظيف هذه التقنيّة، إضافةً لقصص أخرى منثورة في تضاعيف الرواية.
تنسل الكاتبة متنصّاتٍ كثيرةً مبالغًا في استخدامها، من الموروث الثقافيّ الغربيّ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، ما أوردته الراوية عن جمال أمّها الذي تقول فيه: “تمتّعت أمّي بالجمال، وقيل إنّها تشبه آفا غاردنر[…] كانت (أمّها) بيضاء، شعرها بنّي متموِّج، وعيناها خضراوان”(66)، (هي ممثّلة ومغنّية أمريكيّة). أمّا وليمة يوم الجمعة في بيت جدّو نعمان فهي كثيرة الشبه بوليمة فيلم (La Grande Bouffe)، لكن بدون مارتشيلو ماسترياني الممثّل الإيطالي الشهير(173)، كما تجد الراوية بعض الشبه بين حياة نورما وحياة عايدة في أوبرا عايدة لجوزيبي فيردي،(مؤلِّف موسيقيّ إيطاليّ)، فكلتاهما التقطتا واقتيدتا إلى بلد مجاور(215)، وفي تعليق الراوية على حكايات الخادمة غالية تقول: “لا شكّ أنّ خيال غالية خصب، وأكثر من خصب، لو كانت تتقن القراءة والكتابة لأصبحت روائيّة عالميّة بشهرة إميلي برونتي”(177)، (روائيّة وشاعرة بريطانيّة اشتهرت بروايتها الوحيدة مرتفعات وذرينغ). تشير الراوية إلى هوس نورما بالأفلام خاصّة فيلم الذبابة(وهو فيلم رعب تمّ انتاجه في الولايات المتّحدة عام 1986، إخراج ديفيد كروننبرغ)، فتقول: “ما زلت أذكر كيف انهوسَتْ (نورما) بفيلم الذبابة، وباتتْ تتحدّث عنه دون توقّف، ورغم أنّها أخافتني بما فيه الكفاية، كي لا أشاهده، إلّا أنّني ما زلت أذكر كلّ مشهد من مشاهده من خلال وصفها المثير والحيويّ” (222). إنّ هذه المتناصّات تعمل على تقريب الحدث أو الشخصيّة من مدارك القارئ، ومحاولته الربط بينها وبين الرواية، ليكون قارئًا مشاركًا في إنتاج النصّ، إضافة لإثراء القارئ بمثل هذه المعلومات التي تؤكّد ثقافة الكاتبة الواسعة.
تلجأ الراوية إلى توظيف السخرية أحيانًا، ونقد سلوك بعض الشخصيّات أحيانًا أخرى، فتقول ساخرةً من العلاقة الواهية بين آل البارودي وآل عبد الهادي بعد زواج جدّو نعمان وتيتة بسيمة، واهتمام أهلها بإرسال حصّتها من زيت الزيتون : “وهكذا أصبحت صفيحتا زيت الزيتون صلةَ الرحم الوحيدة بين عائلتَيْ عبد الهادي والبارودي، وحتّى نكون أكثر دقّة؛ بين تيتة بسيمة من جهة، وعائلتها وقريتها وفلسطينها من جهة أخرى”(92 – 93). ويظهر أسلوب السخرية والنقد في مواضع كثيرة من الرواية، فحين تسمع الراوية قصص أمّها عن عائلتها، تقول: “أدركتُ في مراحلَ لاحقةٍ من حياتي أنّ لأمّي قدراتٍ جمّةً على نسج الخيال وتحويله إلى واقع خاصّة عندما يتعلّق الأمر بعائلتها، ويتجلّى ذلك بأبهى صورةٍ عندما تصف أباها المثاليّ. […] تكرّر مقولتها: (عندما يكون أبي عاريا يبدو وكأنّه تمثال يونانيّ منحوت من رخام كرارا الأبيض!)”(189). بذلك تمتزج السخرية بالإيغال أو الاستحالة برأينا. ومن نماذج النقد الصريح في الرواية ما ورد على لسان نورما حول الكتب المدرسيّة التي تمقتها رغم شغفها الشديد بالمطالعة، إذ تقول: “نعم، لكنّهم لو كتبوا هذه الكتب المدرسيّة بالطريقة التي كتب بها نابوكوف لوليتا، لرأيتَ إلى أيّ مدى ستصبح الكتب المدرسيّة مثيرةً، وسوف أكون الأولى في صفّي”(222 – 223).(فلاديمير نابوكوف كاتب روسي – أمريكي عُرفت أعماله بأنّها معقّدة).
يلاحظ القارئ بسهولة تطابقَ تفاصيل كثيرة من حياة الكاتبة مع حياة الراوية، لتؤكّد أنّ الراوية ما هيَ إلّا سعاد العامري، إذ تشير الراوية أنّها تعمل مهندسة معماريّة، وهي المهنة التي تعمل فيها الكاتبة، تقول الراوية: “عندما أتأمّل كيف أصبحتُ في نهاية المطاف مهندسة معماريّة لا تعرف كيف ترسم خطًّا مستقيمًا، أتساءل دائما ما الذي كان سيحلّ ببيكاسو لو أنّ مدرِّسة التربية الفنّيّة عضّته وهو في السادسة من عمره؟!”(208). وتشترك الراوية مع الكاتبة في مهنة الكتابة وهمومها، وكذلك في العمر، فتقول: “يشعر المرء عندما يكتب حكاية عائليّة، وهو في الثالثة والستين، والنسيان رفيقه، بإحساس مَنْ يفتح مجموعة متداخلة من الصناديق دون التمكّن من دخولها”، ثمّ تبيّن الأسلوب الذي ستتّبعه في كتابة قصصها مع نورما، قائلة: “لذا دعوني أركّز وأروي هذه الحكايات واحدة تلو الأخرى، بدءًا بالأقلّ أهمّيّةً”(217 – 218)، وهذا ما يسمّى بالميتا – كتابة، أي الكتابة عن الكتابة. وفي مواضع أخرى من الرواية تزجّ الراوية القارئ في النصّ، مُقدِّمةً اعتذارها له لتكرارها عبارة “بيت جدّو”، فتقول: “إنْ كان ثمّةَ ما يجمع بين أفراد عائلة البارودي، أو القاطنين في قصر البارودي، فهي عبارة “بيت جدّو”[…]، فكثيرًا ما كرّروا هذه العبارة السحريّة: “بيت جدّو”. لذا أرجو المعذرة إذا ما بالغتُ في استعمالها”(99).
تبدو قيمة الرواية الفنّيّة لا في الأساليب الأدبيّة الموظّفة فيها فحسب، بل في اعتماد الكاتبة لغةً معياريّةً تقريريّةً بعيدةً عن الزخرفة اللفظيّة وعن اللغة الشاعريّة التي يتعمّدها كثير من الكتّاب، إنّها لغةٌ عاديّة مطعّمة باللغة المحكيّة تارةً، والأمثال الشعبيّة تارةً أخرى، تلجأ الكاتبة إلى توظيفها لتضمن توضيح المضمون وإبراز الفكرة الكامنة في تضاعيف الحدث، أكثر من عنايتها بالجماليّات الأسلوبيّة رغم ما أفرزت الرواية من أساليب وجماليّات فنّيّة كثيرة. ومن آثار هذه اللغة وتبعاتها اعتمادُها أسلوبَ الوصف المباشر لمعظم شخصيّات الرواية كوصف جدّو نعمان عريسًا، في قولها: “سرعان ما تبع ذلك وصول عريس وسيم وأنيق وطويل القامة ونحيل، بشرته بيضاء، عيناه زرقاوان، أنفه صغير، وابتسامته رقيقة”(28)، وتسهب الراوية في موضع آخر من الرواية في وصف جدّها وصفًا مباشرًا مطوّلًا لا يعبّر إلّا عن مدى حبّها لجدّها وإعجابها به(190). ويلتقي القارئ بمثل هذا الوصف في حكاية فاطمة، وحكاية غالية، ومعظم شخصيّات الرواية وأحداثها، إضافة لوصف الطبيعة الساحرة لبلاد الشام وفلسطين كما قدّمنا.
وبعد؛ تبقى لنا ملاحظة حول اسم الرواية، فهي تحمل اسم دمشقيَ، وهو اسمٌ مضافٌ لياء المتكلّم، أي دمشق التابعة لي أنا، فهل هي دمشق جدّو نعمان، أم دمشق ابنته سامية، أم دمشق الراوية حفيدة جدّو نعمان وتيتة بسيمة، وابنة سامية المدعوّة ليلى على اسم خالتها الكبرى ليلى، أم هي دمشق ليلى و كريمة، أم هي دمشق الكاتبة سعاد العامريّ؟! يستنتج القارئ من خلال تقدّمِه في الرواية أنّها دمشق الراوية، يؤكّد ذلك العنوان المثبت في مستهلّ الجزء الرابع من الرواية، دمشقيّ، وهو فصلٌ خاصّ بالراوية، دون أن يكون قادرًا على الجزم بالأمر؛ لأنّها دمشقُ كلِّ هؤلاء، بل هي دمشق كلّ دمشقيّ، بل كلّ عربيّ، بها يفخر ويعتزّ، إنّها الفيحاءُ التي تعبق بأريجها وروائحها وطبيعتها الساحرة، وتتعلّق بحبّها نياط القلوب فلا تستطيعُ منها فكاكًا.
نبارك للكاتبة سعاد العامري هذا العمل الرائع في انتظار أعمال أخرى بعد أن فتحت شهيّتنا لمقاربة أعمالها الواقفة على الدرب!!
(ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 19/12/2019)