قراءَةٌ تَناصِّيَّةٌ وُجودِيَّةٌ في ديوانِ “كَزَهْرِ اللّوزِ أَوْ أَبْعَدَ”
تاريخ النشر: 29/12/19 | 13:08تَسَلَّمَ محمود درويش جائزَةَ الأمير الهولندي كلاوس سنة 2004، وَقَدْ مُنِحَتْ لَهُ عَنْ شِعْرِهِ الذي يُصَوِّرُ حياتَهُ في الـمنافي وَاللّجوءِ السّياسيّ القَسْريّ، وَعَنْ تَصويرِهِ لآمالِ شَعْبِهِ في أَنْ يَنْعَمَ في وَطَنٍ مُسْتَقِلٍّ.. يومَها قالَ محمود في حَديثٍ مَعَهُ: “إنَّ نُصوصَهُ الشِّعْرِيَّةَ ما هِيَ إلّا فُسَيْفِسائِيَّةٌ مِنْ نُصوصِ الآخَرينَ.”
وَهذا التَّصْريحُ مِن مَحْمودٍ يُلائِمُ تَمامًا قَوْلَ الـمُنَظِّرَةِ الأدَبِيَّةِ، جوليا كريسْتينا: “كلُّ نَصٍّ عِبارَةٌ عَنْ لَوْحَةٍ فُسَيْفِسائِيَّةٍ مِنَ الاقتِباساتِ؛ وَكُلُّ نَصٍّ هُوَ تَشَرُّبٌ وَتَحْويلٌ لنصوصٍ مُعاصِرَةٍ لَهُ”؛
وَبِهذا فَهِيَ تَنْفي وُجودَ نَصٍّ مِنْ غَيْرِ مُداخِلاتٍ لِنُصوصٍ أُخْرى
وَمْحمود يُشيرُ إلى فُسَيْفِساءِ هذِهِ الاقْتِباساتِ في شِعْرِهِ في مُناسَبات كَثيرَةٍ؛ فَمَثَلًا في قَصيدَةِ “وَأنا، وَإنْ كُنْتُ الأخيرَ” من ديوانِ “لا تَعْتَذِرْ عَمّا فَعَلْتَ” ص21، مُقْتَبِسًا مِن قَوْلِ أبي العَلاءِ الـمَعَرّي:
وَإنّي وإن كُنْتُ الأخيرَ زَمانُهُ لآتٍ بِما لَم تَسْتَطِعْهُ الأوائِلُ
وَرُبَّما يَرْمي محمود بِهذا الاقْتِباسِ إلى ما جاءَ في الشَّطْرِ الثّاني مِن بَيْتِ الـمَعَرّي، فَهوَ سَيقولُ مِنَ الشِّعْرِ ما لَمْ يَسْتَطِعْ أولَئِكَ الّذينَ سَبقوهُ قَوْلَهُ. وَلكِنَّهُ بِهَذا لا يَتَنَكَّرُ لِتَناصِّهِ مَعَ الّذينَ سَبَقوهُ واتّكائِهِ عَلَيْهِمْ..
في حِوارِ عَبْدُه وازِن مَعَهُ، في كِتابِ “محمود درويش، الغَريبُ يَقَعُ عَلى نَفْسِهِ”، يَقولُ محمود (ص86): “في كُلِّ شاعِرٍ آلافٌ مِنَ الشُّعَراءِ، لَيْسَ هُناكَ شاعِرٌ يَبْدَأُ مِنَ الفَراغِ أو البَياضِ؛ الشّاعِرُ يَحْمِلُ خَصائِصَ وَمَلامِحَ جَميعِ الشُّعَراءِ الّذينَ قَرَأَهُمْ؛ وَلكِنْ من دونِ أَنْ يُخْفِيَ مَلامِحَهُ، أي مِثْلُ الحَفيدِ الّذي يِحْمِلُ مَلامِحَ جَدِّهِ مِنْ دونِ أَنْ تَخْتَفِيَ مَلامِحُهُ الخاصَّةُ.”
في هذِهِ القَصيدَةِ يَقولُ محمود “وَجَدْتُ ما يَكْفي مِنَ الكَلِماتِ”. وَفي قَصيدةِ “يَخْتارُني الإيقاعُ” (ص14) مِنْ نَفْسِ الدّيوانِ يقولُ: “أنا رَجْعُ الكَمانِ”.. “أنا في حَضْرَةِ الذِّكْرى”.. “صَدى الأشياءِ تَنْطُقُ بي فَأَنْطُقُ”.
وَإذا كانَ التَّناصُّ يَعْني أنْ يَتَفاعَلَ النَّصُّ، الّذي نَحْنُ بِصَدَدِ قِراءَتِهِ، مَع غَيْرِهِ مِنَ النُّصوصِ، فَهُوَ لِذلِكَ يَسْتَحْضِرُ في أذْهانِنا نُصوصًا أُخْرى سَبَقَتْهُ، أَوْ عاصَرَتْهُ، تَتَقاطَعُ مَعَهُ وَتَتَداخَلُ بِـمَضْمونِهِ؛ وَلِذلكَ اُقْتُرِحَ أنَّ التَّناصَّ هُوَ السَّرِقَةُ الأدَبِيَّةُ، أو التّداعِي، أو توارُدُ الخَواطِرِ، أو الحِوارِيَّةُ، أو التَّلاصُّ ؛ وَقَدْ كانَ الـمُتَنَبّيّ بارِعًا فَذًّا كَعادَتِهِ، عَنْدَما اتّهَموهُ بَأنَّهُ سَرَقَ بَيْتًا مِنَ الشِّعرِ مِنَ الطّائيِّ أبي تَمّامٍّ، فَقَدْ كانَ رَدُّهُ: الشِّعْرُ جادَّةٌ وَرُبَّما وَقَعَ الحافِرُ عَلى الحافرِ (وَهُوَ يَعْني أنَّ فُرْسانَ الشِّعْرِ هم الّذينَ يتناصّونَ، فالحافِرُ كِنايَةً عَنِ الفَرَسِ، والفَرَسُ كِنايَةً عَن فارِسِها.
في هذه القراءة لديوان ” كزهر اللوز أو أبعد” لمحمود درويش سأقتصر فقط على التّناصِّ الّذي يُلْقي ضَوْءًاعَلى الحالَةِ الوُجودِيَّةِ التي كان يعيشها محمود في هذا الديوان.
وَإذا كانَ عُنْوانُ الدّيوانِ مَذكورًا فيه فقط الـمُشَبّهُ بِهِ “زَهرُ اللّوزِ”، فَما عَلينا إلّا أن نَبْحَثَ عَنِ الـمُشَبَّهِ، لِتَكْتَمِلَ الصّورَةُ الشِّعْرِيَّةُ في أذْهانِنا أو في مُخَيَّلَتِنا؛ وَلهذا الغَرَضِ لا بُدَّ لَنا إلّا أَن نَرى أنَّ الوَطَنَ عِنْدَ محمودٍ، في شِعْرِهِ، هُوَ كُلُّ ما في مَخزونِ ذاكِرَتِهِ مِنْ ذلِكَ الوَطَنِ، عَلى الـمُسْتَوَيَيْنِ: الحِسِّيِّ والعاطِفِيِّ، حَمَلَ ذلكَ مَعَهُ في بِلادِ الاغترابِ والـمَنافي. فَعَلى الـمُسْتَوى الحِسّيّ يَكونُ الوَطَنُ عِنْدَهُ، في ذاكِرَتِهِ، جُزَيْئِيّاتِ الوَطَنِ وَمُرَكَّباتِهِ: بيت، شجرة، زهرة، دروب، مسارب، جِدار، بَيْدَر، طَعْمِ اللّوزِ، زَهرةِ اللّوزِ…، وَمِنْ هُنا نرى بِزَهْرِ اللّوزِ (الـمُشَبَّهِ بِهِ) رَمْزًا لَلْوَطَنِ.
وَطَنُ محمود، كَما يُفْهَمُ مِنَ العُنوانِ، بَعيدٌ عَنْهُ، وَأمّا الّذي ربّـما يَكون أبْعَدَ مَنَ الوَطَنِ فَهُوَ الـمُشَبَّهُ، وَوِفْقًا لِلحالَةِ الوجودِيَّةِ التي يَعيشُها محمود في هذا الدّيوانِ يَكونُ الـمُشَبَّهُ مُتْعَةَ الحياةِ، حَياتَهُ عَلى الـمُستوَى الشَّخْصيّ، فإنَّهُ قَدْ ذَوَّتَ أنَّ سَيْفَ الـمَوْتِ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ باستمْرار بَعْدَ عَمَلِيَّةِ القلب الأولى، وقد تَرَكَ هاجِسَ العَمليّةِ الثّانية التي حَذّروهُ مِنْ خُطورَتِها يُسيطِرُ عَلَيْهِ؛ وَلذلِكَ نَجِدُهُ في هذا الدّيوانِ يَعودُ إلى وجودِهِ الشَّخْصِيِّ، إلى كَيْنونَتِهِ هُوَ، جاعِلًا مِنْ ذاتِهِ هَمًّا لِذاتِهِ، مِحْوَرًا لِكُلِّ وجودِهِ وموضوعًا لِحُرِّيَّتِهِ واخْتِيارِهِ.
وإذا كانَ التَّأكيدُ عَلى أنَّ وجودَ الفَرْدِ هُوَ الأصْلً، فإنَّ هذا الفرْدَ، بِحُرِّيَّتِهِ الـمُطْلَقَةِ في اختيارِهِ، يُعْطي ماهِيَّةً وَجَوْهَرًا لِوجودِهِ هذا. حُرِّيَّةُ الاِخْتِيارِ رَكيزَةٌ أساسِيَّةٌ في الـَمْنظورِ الوُجودِيِّ.
وَقَدْ كانت حُرِّيَّةُ محمود مُؤَطَّرَةً رومانْسِيًّا بِنَزْعَتِهِ القَوْمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ نَحو التَّحرّر الوَطنيِّ لِشَعْبِهِ، وكذلِكَ كانَتْ مُؤَدْلَجَةً مارِكْسِيًّا (وهذه الأدْلِجَةُ لَمْ تَرُقْ للشّاعِرِ الـمرحومِ أحمد حسين)، فعابَ محمودًا على ذلك، كما جاءَ في كتابِهِ: “رسائلُ عَلى زُجاجِ النّافِذَةِ، إلى محمود درويش”. وفي هذينِ الـمسارَيْنِ لحُرِّيَّتِهِ يقولُ محمود في قَصيدَةِ “بِطاقَةُ هُوِيَّةٍ”، الـمَشهورَةِ بِقَصيدَةٍ “سَجِّلْ أنا عَرَبِيٌّ” مِن ديوانِهِ الثّاني “أوراقُ الزَّيْتونِ”، الّذي صَدَرَ عام 1964:
“سَجِّلْ
أنا عَرَبيّ
وَرَقْمُ بِطاقَتي خَمْسونَ ألْفْ”
وَهُوَ يَعودُ عَلى هذِهِ اللّازِمَةِ مُكَرِّرًا إيّاها في مَطْلَعِ كُلِّ مَقْطَعٍ مِن مَقاطِعِ القَصيدَةِ الخَمْسَةِ.
وَفي نَفْسِ القَصيدَةِ يَقولُ أيضًا:
“أنا مِنْ قَرْيَةٍ عَزْلاءَ مَنْسِيّة
شوارِعُها بِلا أسماء
وَكُلُّ رِجالِها في الحَقْلِ والـمَحْجَر
يُحبّونَ الشّيوعيّة”
أمّا الـمارِكسيَّةُ فَقَدْ عَرَّفَتْ حُرِّيَّةَ الإنْسانِ بِأنَّها تَنْحَصِرُ في مَعْرِفَةِ قَوانينِ الطَّبيعَةِ، وَمنْ ثَمَّ السّلوكُ بِحَسَبِ هذِهِ القَوانين؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَأخُذَ دورَهُ في سَيْرورَةِ الحَرَكةِ التّاريخِيَّةِ القائِمَةِ عَلى الصِّراعِ الطَّبَقِيِّ النّاتِجِ عَنِ التّناقُضِ بَيْنَ عِلاقاتِ الإنْتاجِ وأدَواتِ الإنْتاجِ، مَعْنى ذلِكَ أنَّ حُرِّيَّتَهُ تَكونُ بِأنْ يَأْخُذَ دَوْرَهُ في حَركة التطوّرِ الـمادِيّ لِلإنْسانِ. وَهذا التَّفسيرُ فيهِ تَناسٍ لِحُرِّيَّةِ الفَرْدِ الذّاتِيَّةِ، وَتطويعُها في سَبيلِ مَنْفَعَةِ الـمَجْموعِ.
وَلكِنَّ محمود هُنا في هذا الدّيوانِ يَنْحى بِحُرِّيَّتِهِ مَنْحى التَّيّارِ الوجودِيِّ الّذي يَرى أنّ الإنسانَ يَمْتَلِكُ حُرِّيَّتَهُ امْتِلاكًا كامِلًا، مُتَحَرِّرًا مِن أيِّ قوانينَ أَوْ مؤَثِّراتٍ خارِجِيَّةٍ، تَتَحَكَّمُ بِأَفْعالِهِ وَتُنَحِّي عَواطِفَهُ وَرَغَباتِهِ جانِبًا، أَو تُحَجِّمُها.
رأى سارتر (فَيْلسوفُ الوجودِيَّةِ) بِالحُرِّيَّةِ الفَرْدِيَّةِ نَوْعًا مِنَ الانْكِفاءِ إلى الوَعْيِ الذّاتِيِّ، تارِكًا الـماضي وَراءَهُ وناظِرًا إلى الـمُسْتَقْبَلِ نَظْرَةَ القَلَقِ الوُجودِيِّ والخَوْفِ مِنَ الآتي. كما أنَّ كِيركيغارد الدّانِماركِيّ الّذي، مع أنَّهُ كانَ رَجُلَ دينٍ، يُعتَبَرُ أبًا لِلْوُجودِيَّةِ، وَهُوَ يَرى أنَّ عَبَثِيَّةَ الحَياةِ واللّاجَدوى فيها تَجْعَلُ نَفْسَ الإنسانِ تَحتَ رَحْمَةِ القَلَقِ الوُجودِيِّ واليَأْسِ وَالشُّعورِ بِالعَجْزِ، والتَّفْكيرِ بِالـمَوْتِ.
نَجِدُ أنَّ التَّيّارَ الوُجودِيَّ قَدْ أخَذَ يوَجِّهُ محمود في مَسارِهِ بَدْءًا مِن “جِدارِيَّتِهِ”. فَهُوَ يقولُ فيها (ص49): “يُغْريني الوُجوديّونَ باسْتِنْزافِ كُلِّ هُنَيْهَةٍ حُرِّيَّةً وَعَدالَةً وَنَبيذَ آلِهَةٍ”.
وَهُوَ الّذي اعتلى مَنابِرَ الشِّعْرِ عالَمِيًّا وَنالَ مِنَ الشُّهْرَةِ الشِّعْرِيَّةِ مَراتِبَ مَرموقَةً وَجَوائِزَ عالَمِيَّةً؛ نَراهُ في الجِدارِيَّةِ يقولُ (ص88): “باطِلٌ، باطِلُ الأباطيلِ.. باطِلْ كُلُّ شَيْءٍ عَلى البَسيطَةِ زائِلْ”.
مُتناصًّا في ذلك مع سليمان الحكيم في سِفْرِ “الجامعة” من التوراة، الإصحاح الأوّل: “باطِلُ الأباطيلِ قالَ الجامِعَةُ. باطِلُ الأباطيلِ، الكُلُّ باطِلٌ.”
ومِن مُنْطَلَقِ التَّفكيرِ هذا نَجِدُهُ في قَصيدَةِ “فَكِّرْ بِغَيْرِكَ” (ص15) من الدّيوانِ، رَغْمَ أنَّهُ يُرَدَّدُ “فَكِّرْ بِغَيْرِكَ” قاصِدًا بِها الـمُشارَكةَ الوُجدانِيَّةَ مَعَ الجِياعِ والعِطاشِ والّذينَ يتوقون إلى السَّلامِ لأنَّ الحَربَ سَحَقَتْهُمْ، ومَعَ الفُقراءِ والـمُشَرَّدينَ والصّعاليكِ (بِـمفهومها الحديث)، ومَعَ أولئِكَ الحالِمينَ بالدّيموقْراطِيّةِ وَحُرِّيَّةِ الكَلامِ.. كُلُّ أولئِكَ وَغيرُهَمْ مِنَ الـمُعَذَّبينَ في الأرضِ، هُمُ الّذين عاشَ مِن أجلِهِمْ في شِعْرِهِ وفي التزامِهِ الـمارِكسِيِّ؛ إلّا أنَّهُ، وعَلى ضَوْءِ “الكُلُّ باطِلٌ” نَراهُ يَنْتَقِلُ إلى حاضِرِهِ، إلى وُجودِيَّتِهِ، إلى قَلَقِهِ الوُجودِيِّ؛ مُنْهِيًا قَصيدَتَهُ بِقَوْلِهِ: “وأنْتَ تُفَكِّرُ بِالآخَرينَ البَعيدينَ، فَكِّرْ بِنَفْسِكَ”. فحُرِّيَّةُ محمود هُنا تَتصارَعُ مَعَ القَلَقِ والتَوَتُّرِ وَعَبَثيَّةِ الحَياةِ والتَشاؤمِ والخَوْفِ مِنَ الـمَوْتِ.
وَهُوَ يقولُ في قَصيدَةِ “الآنَ.. في الـمَنْفى” :
“فَافَرَحْ بِأقصى ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الهُدوءِ،
لِأنَّ موتًا طائِشًا ضَلَّ الطّريقَ إليكَ
مِنْ فَرْطِ الزِّحامِ؛ وَأجَّلَكْ”.
مُتناصًّا بِذلِكَ مَعَ الشّاعِرِ زهير بن أبي سُلْمى، في الصّورَةِ الّتي رَسَمَها لِلْمَوْتِ:
“رَأيْتُ الـَمنايا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ
تُـمِتهُ، وَمَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ”
فَخَبْطُ النّاقَةِ العَشْواءِ (سيرُ الـمَوْتِ) عِنْدَ زُهير، هُوَ الـمَوْتُ الطّائِشُ عِنْدَ محمود؛ وأنْ يُخْطِئَ الـمَوْتُ إنْسانًا ما في سَيْرِهِ، عَنْدَ زُهَير، هو أنْ يَضِلَّ الـمَوْتُ عَنْهُ طَريقَهُ، عِنْدَ محمود؛ وأنْ يُعَمَّرَ الإنْسانُ عِنْدَ زُهير هُوَ أنْ يْؤَجِّلَهُ الـمَوْتُ، عِنْدَ محمود.
وَيَظْهَرُ أنَّ محمود كان في قِراءَةٍ جَديدَةٍ للمُعَلّقاتِ؛ فَهُوَ يَقولُ (ص157): “تِلْكَ آثارُنا مِثْلُ وَشْمٍ يَدٍ في مُعَلَّقَةِ الشّاعِرِ الجاهِليِّ”، مُتناصًّا مع قولِ الشّاعِرَ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:
“لِخَوْلَةَ أطْلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ تَلوحُ كَباقي الوَشْمِ في ظاهِرِ اليَدِ”
وفي “الجِدارِيَّةِ” (ص49)، يقولُ مُسْتَجْدِيًّا الـموتَ:
:
“إنْتَظرْني رَيْثَما أُنْهي قِراءَةَ طرفَةَ بْنِ العَبْدِ”.
وَنَحْنُ نَعْرِفُ ما في الوقوفِ عَلى الأطْلالِ مِنْ بُكاءٍ وَحُزْنٍ عَلى الفراقِ.
أُمْنِيَةُ محمود هذِهِ، في أنْ يَنْعَمَ بِأقصى ما يَسْتطيعُ مِنَ الهُدوءِ وَسكينةِ النَّفْسِ، يُكَرِّرُها بِأُسْلوبٍ غيرِ مُباشِرٍ عِنْدِما يَتَساءَلُ (ص115) “هَلْ أٌشْبِهُ الشّاعِرَ الرّعَوِيَّ الّذي تَوَّجَتْهُ النّجومُ مَليكًا على اللّيْلِ”، وَالشِّعْرُ الرَّعَوِيُّ هُوَ شِعْرُ أولَئِكَ الرّعاةِ الّذينَ عاشوا حَياةً بسيطَةً وادِعَةً قانِعَةً في أمْكِنَةٍ هادِئَةٍ في حِضْنِ الطَّبيعَةِ، يَسودُها الحُبُّ وَالشِّعْرُ وَالـموسيقى، بَعيدًا عَنْ واقِعٍ كُلّه قلَقٌ وُجودِيٌّ، وَمُنْذِرٌ بِـمُسْتَقْبَلٍ رَمادِيٍّ غامِضٍ، كالواقِعِ الّذي عاشَهُ محمود في هذا الدّيوانِ؛ ولكِنَّهُ مُقْتَنِعٌ أنَّ واقِعَهُ بِرِمادِيَّتِهِ، وَغَدَهُ بِضَبابِيَّتِهِ، هُما الحَقيقَةُ التي لا فَكاكَ منها عِنْدَهُ، وَلِذلكَ يَقولُ (ص18 :
“فَلْتَحْتَفِلْ مَعْ أصْدِقائِكَ بِانْكِسارِ الكَأْسِ.
في السِّتينَ لَنْ تَجِدَ الغَدَ الباقي.”
مُتَناصًّا مَع قولِ الشّاعِرِ بِشارة الخوري (الأخْطَل الصّغير)، في قَصيدَتِهِ “الهَوى والشَّباب” :
“لَمْ يَكُنْ لي غَدٌ فَأَفْرَغْتُ كَأْسي
ثُمَّ حَطَّمْتُها عَلى شَفَتَيَّ”
وَإنَّ القَلَقَ واليَأْسَ وَالشّعورَ بِالعَجْزِ، غُزاةٌ جُدُدٌ لِحياةِ الشّاعِرِ، قَلَبَتْ حَياتَهُ رَأْسًا عَلى عَقِب، فَرَثى لِحالِهِ، وَلِهذا النُّقْصانِ الّذي أَلَمَّ بِهِ، فَهُوَ يَقولُ (ص18) :
“سيري بِبُطْءٍ يا حياةُ، لِكَيْ أراكِ
بِكامِلِ النُّقْصانِ حَوْلي”
مُتَناتصًّا مَعْ أَبي البَقاءِ الرُّنْدي (الأَنْدَلُسِيِّ) في مَطْلَعِ نَونِيَّتِهِ الـمَشْهورَة في رَثاءِ الأنْدَلُسِ
“لِكُلِّ شَيْءٍ إذا ما تَمَّ نُقْصانُ فَلا يُغَرُّ بِطيبِ العَيْشِ إنسانُ”
تَـمُرُّ عَلى الشّاعِرِ حالاتٌ مِنَ الضِّعْفِ والتّسْليمِ لِدَرَجَةِ أنَّهُ يَرى نَفْسَهُ وَكَأنَّهُ بَعْدَ الـمَوْتِ، يَسيرُ فَوقَ تُرابٍ هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ. فَيقولُ (ص156): “أنا هُوَ يَمْشي عَلَيَّ، خَفِّفِ الوَطْءَ، فالأَرْضُ حُبْلى بِنا”؛ مُتناصًّا مع أبي العلاءِ الـمَعَرِّيّ: “خَفِّفِ الوَطْءَ؛ ما أَظُنُّ أديمَ الـ أرْض إلّا مِن هذِهِ الأجْسادِ.”
وَيقولٌ (ص160): “أمْشي الهُوَيْنى عَلى نَفْسي”؛ مُتَناصًّا مَعْ ما يَقولُهُ عمرُ الخيّام في إحْدى رُباعِيّاتِهِ: “فامْشِ الهُوَيْنى إنَّ هذا الثَّرى مِن أعْيُنٍ ساحِرَةِ الإِ،حْوارْ.”
يَكْثُرُ في الدّيوانِ التّناصُّ الدّينيّْ عَنِ الحَياةِ والـمَوْتِ وَفُقْدانِ الأمَلِ في العَوْدَةِ، إلى الحَياةِ التي عَهِدَها؛ وَفيهِ يَسْتَمِرُّ في رُؤْيَةِ نَفْسِهِ في مَرْحَلَةِ ما بَعْدَ الـمَوْتِ مُنْتَظِرًا بَعْثَهُ، فَهُوَ:
يَقولُ :”ها هُنا بَرْزَخٌ بَيْنَ دُنْيا وآخرة.”
وَالبَرْزَخُ هو الحاجِزُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، بَيْنَ الـمَوْتِ والبَعْثِ، مُتَناصًّا في ذلِكَ مَعَ الآيَةِ الكَريـمَةِ مِن سورَةِ “الـمؤمنون”: “وَمِنْ وَرائِهم بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثونَ”، وكَأنَّهُ يَرى استحالَةَ أن تَعودَ إليهِ حَياتُهُ الّتي كانَت. يَقولُ (ص149): في اعْتِكافِ الـمَسيحِ عَلى جَبَلٍ، في ضواحي أريحا”
مُتَناصًّا بذلِكَ مَعَ ما جاءَ في إنجيلِ لوقا عَنِ السّيّدِ الـمَسيحِ كَيْفَ أنَّهُ اعْتَكَفَ في جَبَلِ قُرنْطُلِ الـمُطِلِّ عَلى مَدينَةِ أريحا، مُدَّةً أَرْبَعينَ يَوْمًا، صائِمًا مُتَعَبِّدًا رافِضًا لإغْراءِ الشّيطانِ، لِيُقْبَلَ بَعْدَ ذلِكَ عَلى أداءِ رِسالَتِهِ الّتي انْتَهَتْ بِـمَوْتِهِ عَلى الصَّليبِ، ثمّ بِبَعْثِهِ حَيًّا. يَقولُ (ص110) مُخاطِبًا نَفْسَهُ: “ثُمَّ أَسْأَلُ نَفْسي إلى أَيْنَ تَـمْشينَ أَيَّتُها الـمُطْمَئِنَّةُ مِثْلَ النَّعامِةِ”؛ مُتَناصًّا بِذلِكَ مع الآيَةِ الّتي تُقالُ عِنْدَ مَوْتِ إنْسانٍ، مِن سورَةِ “الفَجْرِ”: “يأيَّتُها النَّفْسُ الـمُطْمَئِنَّةُ ارْجَعي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة”.
يَقولُ (ص110) وَهُوَ في حالةِ الضَّعْفِ والتَّسْليمِ أمام الـمَوْتِ: “إلهي إلهي لِـماذا تَخَلَّيْتَ عَنّي”؛ مُتَناصًّا بِذلِكَ مَعَ لَحْظَةِ الضَّعْفِ الإنْسانيّ الّذي اعترى الـمَسيحَ وَهُوَ عَلى الصَّليبِ، فَصاحَ: “إيلي إيلي لِـما شَبَقْتَاني” بِـمَعْنى: إلهي إلهي لِـماذا تَرَكْتَني”؛ كَما وردَ في إنجيلِ مَتّى، وَغيره.
وَكَأنَّ الشّاعِرَ يُعايِشْ مَوْتَهُ في كُلِّ لَحْظَةٍ مِن حَياتِهِ.. فَالحِسُّ الوُجودِيُّ هُوَ الـمُحَرِّكُ لِكُلِّ ما هُوَ مَوْجودٌ في هذا الدّيوانِ مِن رؤيَةٍ لِلحَياةِ بِعَبَثِيَّتِها، وَمُعاناةِ ما فيها مِن تَشاؤمٍ وَقَلَقٍ وُجودِيٍّ، وَتَوَتُّرٍ وَخَوْفٍ مِنَ الضَّعْفِ الجَسَدِيِّ والرّوحِيِّ، وَمِنْ ثَمَّ مِنَ الـمَوْت
جريس جبران خوري(حيفا)