الحياة والثأر .!
تاريخ النشر: 03/01/20 | 7:45كانت كلَّ ما اختلى ابنها بجده .. تقضي الأم هذا الزمن العصيب , تغالب دقات قلبها.. التي تضرب صفحات أحاسيسها , بقوة متسارعة , تجعلها لا تقوى على الوقوف أو الجلوس .
قتلوا أباه وهو ما زال جنيناً في بطنها .. كانت في الشهر الرابع من حملها ..
صاحت جدته وهي ” تلطم ” لطمات قتله :
” ان خلَّفت زوجته ولد , ما بنهدأ إلا ما يأخذ بثأره .!”.
مرّت من تحت نعشِّه أمام المشيعين , إعلاناً عن حملها .. كي تسكت “طعنات ” أهل البلد , التي كانت ” ستأكل” لحمها , لو لم تفعل .!
***********
و كان كلما خرج من جلسةِ من جلسات جده , تسرع إليه وتمطره بوابل من الأسئلة , محاولة إخفاء غليان لهفتها ..
كانت تسأله : ماذا تكلَّمتم .!؟ ماذا قلتم .!؟
وعندما تتأكد , أنهم لم يتحدَّثوا في موضوع قتل زوجها , تتنفَّس الصعداء , وتشعر أن أحدهم , ” كبَّ” على جسمها دلواً من الماء , فأخمد النار التي كانت تشتعل في داخلها ..
كان يسألها باستغراب شديد في مرات كثيرة :
لماذا تسأليني هذه الأسئلة , كلما اختلى بيَّ جدّي .!؟
فتجيب متهرِّبة : كي أتأكَّد من حبكما لبعض .!
فينسحب من أمامها حاملاً حيرته ودهشته ..
كان أبوه محامياً , ” نشل” شهادته من بين أسنان الفقر والعوز , وجدَّه فلاحاً بسيطاً , يكدح في الأرض , حتى”يُخْرج” منها لقيْمات , تسدُّ رمق بطون سبعة أولاد على ” المسطبة ” ..
ولما أرسل ابنه الى الجامعة , “أكلت “مصاريفها الأخضر واليابس .. فاضطر أن يقترض المال من منظَّمات الإجرام , التي تستغلُّ ضائقة المحتاجين , لتقرضهم بربّا فاحش بفائدة قاتلة , ولما لم يستطع سداد القروض وفوائدها , أجبروه على التنازل عن معظم أرضه .
ولما تخرَّج الابن من الجامعة , درس ملفات الأرض من الناحية القانونية , فوجد أنه يستطيع الطعن , في قانونية استيلاء المقرضين على أرض أبيه ..
فتوجه الى القضاء ..
فثارت ثائرة منظمات الإجرام ..
أبوه نصحه ,أن يبتعد عن هذا الموضوع .. ” إحنا مش قدهم يا ابني .!.. هذول مجرمين .!” .
ولكن الابن صمَّم أن يرجع الحق الى أصحابه , مهما كان الثمن ..واستمر َّ في مقاضاتهم ..
*************
تعرّف عليها في الباص , الذي كان يقلِّهم يومياً الى حيفا .. هو إلى الجامعة , وهي إلى معهد دار المعلمين ..
وتطورت العلاقة بينهما , الى ما بعد تخرجهما .. هو فتح له مكتباً في حيفا , وهي عينت معلِّمة في إحدى مدارس القرية .
فتزوَّجا في بيت بناه بجانب بيت أبيه ..
***********
حين جاء خبر مقتله .. كانت تقف أمام موقد الغاز تحضِّر الطعام .. كانت تنتظر أن يفتح الباب , ويدخل في كل لحظة ..
سمعت صراخاً يأتي من الخارج .. أطفأت شعلة الموقد, وأسرعت الى الخارج .. الى الحديقة..
فاصطدمت عيناها بحماتها تصرخ وتلطم ..
في البداية أجتاحها تجمُّد شلَّ كيانها ..غالبته وجرّت جسمها المهدوم الى أن وصلت الى حماتها ..
احتوتها في حضنها وهي تصيح :” قتلوه .. قتلوه المجرمين! ..قٌتلوا محمود ..! قتلوا محمود ..!
فلما سمعت اسم زوجها , سقطت على الأرض مغميَّاً عليها ..
***************
ربته في حضنها .. كرّست حياتها له ومن أجله ..
كانت لا تغمض عينيها لتستسلم للنوم , قبل تغرف من وجه ابنها الغارق في أحلامه الملائكية زاداً لليلتها , وتنتظر يقظته في الصباح , كي تأخذ قسطها اليوميّ من حبه لها ..
كانت تقسم لنفسها في كلِّ ليلة .. في كلِّ يوم .. أنها لن تفقده .. أنها ستبعده عن المجرمين ..لن تدعه يتعامل معهم .. لن تدعه يحاول أن يأخذ بثار أبيه .. ستقف في وجه كلِّ من يحاول أن يقحمه في هذا الأمر .. حتى لو كانوا أعمامه .. حتى لو كان جده .. حتى لو كانت عيون وهمسات المحيطين بهم في البلد .!
كانت تسمع أبيه يصرخ من عمق قبره :
” إبعديه – يا نادرة – عن هذا..!” ..إبعديه عن هذا !” ..
إننا أنجبناه ليعيش ! .. ولدناه للحياة .!
أنها تعيش من أجله .!
ولا حياة لها من بعده , إن حدث له مكروه .!
*********
كانت جالسة على السرير .. تاركة لأسماعها , كي تلتقط كل صوت يصدر في البيت ..
ليلتان خرج نسيم من البيت بعد منتصف الليل , محاولاً التسلل من دون أن تشعر به , كان يغلق الباب وراءه , دون أن يحدث صوت..
ولكنها كانت تسمع .. تسمع كلَّ صوت مهما كان خافتاً ..
لم يكن يخرج من البيت دون أن يعلمها ..
لماذا يغادره “متسللاً” في هذا الوقت الغريب من الليل دون أن يشعرها .!؟
لماذا خرج وتركها فريسة للخوف والقلق والوساوس .!؟
أين يذهب في هذا الوقت من الليل .!؟
ماذا يفعل .!؟
كانت تهاجمها أسئلة , لا تزيدها إلا ضياعاً وهمَّاً ..
انه يقتلها.!
خوفها من الموقف العصيب , جعلها تحجم عن مفاتحته بالأمر ..
حبها المجنون له , جعلها تشفق عليه , من أن تضعه وتضع نفسها , في هذا الموقف القاسي له ولها ..
فقررت أن تستطلع الأمر ..
لا بدَّ لها إلا أن تعرف أين يذهب .. وما سبب خروجه في هذه الساعات المتأخرة .!
انتظرت خروجه من البيت .. و لحقت به ..
أقنعت نفسها أنه لن يراها , ستنجز المهمة , وستعود الى البيت دون أن يشعر بها ..
مشى في طرق الحيِّ القديم , متستِّراً بأستار الليل البهيم , يتنقَّل من زقاق الى زقاق ..
وهي تسير وراءه , محاولة إخفاء نفسها عنه , بواسطة تعرجات الأزقة وزواياها .. مستعينة بالأضواء الضعيفة , التي تنبعث من نوافذ البيوت ..
الى أن خرج من الحيِّ القديم , الى منطقة حواكير البلد , التي تحتوي على مبان متفرِّقة تبعد عن بعضها .
بحق السماء الى أين هو ذاهب , في هذا الليل الدامس الظلام ..وفي هذا الخلاء الموحش ..!!؟
هاجمتها أسئلة زادتها دهشة واستغرابا وخوفاً.
سار في طريق واسعة بين بساتين أشجار الزيتون , قدرتها بمئتي متر , ثم انحرف الى اليمين, باتجاه بستانهم ,الذي بقي لهم بعد استيلاء المجرمين على البقية من أرضهم ..
فلحقت به ..
سار مسافة لا تقل عن التي قطعها ,عندما انحرف نحو اليمين , ومن ثم دخل أرضهم ..
فدخلت وراءه ..
رأت أنه جلس بجانب مجموعة من الأشباح , منعها سواد الليل من التأكد من عددهم , قدَّرت عددهم بين الثلاثة والخمسة ..
وجدت أمامها كومة من الصخور, تبعد عدة أمتار عنهم , فجلست وراءها تراقب الموقف , وتحاول الاستماع الى ما يقولونه ..
كان صوت جده .. الذي انطلق يمزِّق ستائر الظلمة :
” يا حبيبي تناول هذه الباروده .. وخلينا نشوف شطارتك .!”
كلماته كانت خناجر , طعنتها في كلِّ جارحة من جوارحها ..
” بنا نشوف إنَّك تعلمت الدروس , الي علمناك إيّاها .!”
لحقتها طعنات عمِّه ..
رأت أمامها ابنها يحمل البارودة , ويخطو باتجاهها مبتعداً عنهم ..
لم تعرف من أين أتتها هذه القوى ..
قامت من مكانها , وقفزت أمامه كأنها قدر من السماء..
مسكت البارودة , وصرخت به من قحف رأسها :
لن تطلق طلقة واحدة .!
أمي .!ّ! صاح كالمشدوه ..
في مكان واحد تستطيع أن تطلق رصاصة منها ..
في قلبي .!
أضافت صارخة .. وهي تشير الى صدرها..
نادرة .! صاح الجد .. من الذي أتى بك الى هنا !؟ أكمل كأنه يخرج من قلب صاعقة .
قلبي ..! قلب الأم يا عمّي .! صاحت متحدية ..
“ولكننا نريد أن ندرِّبه , كي يأخذ بثأر أبيه .!” قال جدة بصوت محموم ..
“ابني أنجبته للحياة ..لا أريد أن يعيش قاتلاً أو مهدداً بالقتل.!
” ولكنهم قتلوا أباه .!” صاح عمه الثاني بغضب مقهور .
” هم أرادوا الموت .. أنا وابني نريد الحياة .!”
ولكن أبني مدفون تحت التراب .! ” صرخ ألجد بصوت يصاحب انفجار بكاء مرير ..
” إن قتل الجناة لا يحيه يا عمّي .!” ردَّت بإصرار حزين .
كلّ هذا الحوار جرى , والابن جامد في مكانه , قابضاً بيده على مقبض البندقية , وأمه ممسكة بطرفها الآخر ..
ولم تجد مقاومة منه , عندما سحبت البندقية من يده , ومشت عائدة الى بيتهما .. تردد هنيهة وسار وراءها ..
يوسف جمّال – عرعرة