قصة في مشهديْن بقلم زهير دعيم
تاريخ النشر: 04/01/20 | 10:11( المشهد الأوّل )
بيت جميل يتوسط حديقة فيحاء على اطراف بلدة جبلية .
الجوّ في الخارج عاصف وثائر ، والمطر غاضب يصفع وجه الارض صفعات قويّة، في حين كانت الشموع المضيئة في الداخل تلقي بظلالها على الحيطان الليلكية وعلى زجاجات الخمرة بأنواعها والوانها ، فمنها الاحمر والأصفر والشفّاف …كلّها للتذوّق والشمّ ، في حين راح القوم يرقصون ويتمايلون طربًا على وقع الموسيقى الهادئة حينًا والصاخبة أحيانًا أخرى.
حفلة حفلاء ، والضيوف من عليّة القوم والآهات تنفلت من هنا وهناك.
الفردوس هنا…الجنّة هنا …مَن قال أنّ هناك فردوسًا آخَر ؟!
دعونا نعيش حياتنا عريضة حمراء ، ساخنة ، راعشة وضاجّة.
نترك لكم فردوسكم الخامل ، الغافي ، الكسول حيث لا رقص ولا نشوة والاهمّ لا حواء !!!
وفي منتصف الليل والموسيقى الهادئة تأخذ بمجامع النفوس ، وتتلاحم وتعانق الخيالات الهائمة والانوار الخافتة وتمتزج مع هدير المطر الهاطل بغزارة موّشحًا زجاج النوافذ …في هذا الوقت بالذات قُرع الباب بلطف ، فصحا المحتفلون للحظة ، فتوجّه رب البيت نحو الباب ليرى مَن هذا الضيف الثقيل الذي جاء ليعكّر مزاج حفلتهم ويسرق منهم السعادة والنشوة؟
من هذا المُتطفل الذي يرضى ضميره ” الميت”أن يشوّش احلام قوم عشقواالرّاح والرقص والاحلام ؟.
وكم كانت دهشة المضيف كبيرة ، فالواقف على الباب شابّ غريب في الثلاثين من عمره ، يرتجف من البرد في حين راح المطر يقطر من جسمه وثيابه.
نظر الغريب الى المضيف نظرة ملأى بالحنان والتوسّل قائلا:
أرجوك…غريب أنا من ديار بعيدة ، لم ترحمني الطبيعة ، ولم أجد لي مكانًا الوذ به من هذا الطقس العاصف…دعني أدخل وأقبع في ركن ما حتى الصباح.
وقهقه المضيف عاليا : غريب … ها غريب .. ومن قال لك ان عندنا فندق للغرباء!!! أتعلم يا هذا انك عكّرت مزاجنا وقطعت حبل نشوتنا واغتصبت فرحتنا …
ودفعَه دفعة قوية أسقطته ارضًا .
فقام الشّاب الغريب والدموع تملأ عينيه ، قام يلملم ذاته ويتوارى عن الانظار.
( المشهد الثّاني )
( بعد مرور سنة بالتمام )
البيت عينه ، وتكاد تكون الليلة ذاتها ، فالمطر ينهمر بغزارة … لكن الامور تختلف كثيرًا …فكلّ شيء صامت ، ساكن الا الدموع تنزلق من كلّ عيون الجالسين المتحلّقين حول سرير شاب مريض ، سكنت الصُّفرة في حناياه وعاش الوهن في مفاصله وخبا وهج الأمل في عينيه .
لا أمل … قال الأطباء، فوقع هذا الكلام على اهله كما الصاعقة.
لا أمل…. وردّد الفضاء الآهات…. لا أمل.
لا أمل ولا ضرورة ان يبقى في المشفى …دعوه يقضي ساعاته الأخيرة بين أحبّائه…انها ساعات ، ساعات فحسب.
وتسيل الدّموع أنهارًا ، ويرفع ربّ البيت يديه وهو ساجد عند أقدام المصلوب ويصرخ : ” أرجوك يا أبي السّمائيّ ، أرجوك اشفه ، فأنا لا املك قدرة التحمّل مثلك !! شتّان ما بين وحيدي ووحيدك ومع هذا فهو فلذة كبدي .. ارجوك اني اموت حزنًا.
ارجوك ان تلتفت الى وحيدي لاجل المصلوب ؛ هذا الذي أنكرته كلّ أيام حياتي.
نعم لاجله مُدّ يدك الشافية يا ربّ ، فأنت الأمل الأخير ، بل الوحيد … أرجوك ان تنسى عقوقي و ترمي خطاياي خلفك وترحمني.
وسحّت الدموع حارّة ، لاهبة على وجنتيه .
ولم يقم الا على صوت دقات لطيفة تدقّ الباب في منتصف الليل والمطر في عنفوانه ، فإذا هو امام شابّ في الثلاثين من عمره … الشّابّ إياه ، يرتعش ويرتجف والمطر يقطر من ثيابه.
نظر الغريب بحنان الى ربّ البيت وقال : ” غريب أنا من ديار بعيدة ، لم ترحمني الطبيعة ، وليس مكان أسند اليه رأسي .. دعني أقضي بقية ليلتي عندكم.
وأومأ صاحب البيت برأسه والدموع لا تفارق عينيه ، أومأ وقال : ادخل .. على الرحب والسعة .. ادخل يا اخي رغم انك لم تأت في الوقت المناسب!!
وسرعان ما اصابته الدهشة فالغريب اختفى وكأن شيئًا لم يكن ولم يصح الا على صرا خ الزوجة : جميل … جميل ..ابننا يصحو ..ابننا يصحو…إنه يقوم ..