الدكتور طه حسين سارق النار
تاريخ النشر: 09/01/20 | 14:57بقلم : شاكر فريد حسن
تأتي قيمة عميد الادب العربي الدكتور طه حسين في حياتنا الثقافية والفكرية، ليس فقط من كونه مفكرًا ومثقفًا نقديًا ضرب بسهم وافر في إثراء ميادين الانسانيات بأعمال نقدية ومنجزات بحثية ودراسات موسوعية متنوعة النواحي، وإنما تتجلى هذه القيمة باعتباره داعية تنوير، وصاحب رسالة ثقافية وفكرية تروم وضع حياتنا الثقافية برمتها على المسار الصحيح. ومن هذه الزاوية ننظر إليه ونعتبره امتدادًا طبيعيًا أصيلًا ومنطقيًا لرواد التنوير الكبار، من امثال الطهطاوي والكواكبي والافغاني ومحمد عبده وفرح انطوان وشبلي شميل وسواهم.
وبديهي أن تنصرف هموم طه حسين وغيره من رسل التنوير بالدرجة الأولى نحو هدم ركام الابنية الفكرية الرجعية القديمة واشهار عجزها وافلاسها تمهيدًا لبناء دعائم الفكر النهضوي الجديد على أسس علمية معاصرة. وهذه المرحلة الهامة التي يطلق عليها طه حسين مرحلة ” هدم الهدم “.
ألف طه حسين عدة مصنفات غطت البعثة النبوية وعصر الراشدين، وقدم صورة واضحة لمسار حركة التاريخ الاسلامي مصفاة من أكداس الغيبيات والمعجزات والخوارق والأساطير التي تراكمت على مر الزمن، وطمست معالم الحقيقة طمسًا يكون تامًا.
ويتجلى الهدف التنويري لطه حسين بوضوح في كتابه ” على هامش السيرة ” الذي لا يعد تاريخًا بأي حال من الاحوال بل على حد قوله مجرد ” صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين لأني لم أرد بها إلى العلم ولم اقصد بها إلى التاريخ “.
وبهذا العمل والمنجز القيم استهل به بداية ذكية لمرحلة فكرية نضالية ضد الخرافة والتقليد والقداسة، مقدمًا وعارضًا أفكاره بنظرة المؤرخ والباحث الذي يجرد نفسه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف مهما اختلفت مظاهرها ومصادرها وغاياتها.
وبهذا المنهج طفر طه حسين بأصول البحث في التاريخ الاسلامي طفرة هائلة، وخرج به من نطاق القدسيات والمحظورات والمحرمات إلى موضوع يخضع للبحث والتحليل والاجتماع خضوع المادة لعلم الكيمياء.
خاض طه حسين معارك فكرية وثقافية وأدبية عديدة، دفاعًا عن حرية الفكر وحرية المرأة وحرية مصر واستقلالها، وتعرض ولا يزال حتى بعد موته يتعرض لهجوم شرس من الاصوليين والسلفيين والمتأسلمين، بسبب كتابه ” في الشعر الجاهلي ” الذي اعتمد به على العلم والعقل، وعلى نظرية الشك المنهجي، وأدى هذا الهجوم بالتالي إلى مصادرة كتابه ما اضطره إلى تعديله واصداره تحت عنوان ” في الأدب الجاهلي “.
أبقى طه حسين وراءه إرثًا أدبيًا ثقافيًا فكريًا ونقديًا هائلًا، وهذا الإرث الغني لا يتمثل فقط بالمنجزات والأعمال والدراسات النقدية والبحثية والروائية والسيرة الذاتية، وإنما بالفكر التقدمي الواعي والدعوة للعلم وحرية الفكر والاصلاح الاجتماعي والتنوير والاغتراف من معين تراثنا ونزعاته المادية.
ويمكن القول أن طه حسين استطاع تقديم صورة واضحة لحقيقة تاريخ صدر الاسلام قوامها الروايات المستقيمة من المنطق والعقل.
وفي الاجمال، طه حسين سارق النار، مفكر تنويري ومثقف نقدي تجديدي حداثي معاصر، وجد مناخًا مهيئ لاحتضان فكر التنوير والحداثة وفتح المجال أمام العقل العربي والإنساني للمغامرة والبحث والاكتشاف بحرية. وما احوج أمتنا العودة لتراثه العظيم، وغسل ما في عقولنا وأذهاننا ونفسياتنا من جهل وتخلف وادران وأمراض متأصلة فيها.