العرب في إسرائيل والمقاطعة المستحيلة
تاريخ النشر: 10/01/20 | 12:33في اعقاب الهجوم الذي تعرّض له الفنان الأردني/الفلسطيني عزيز مرقة، بعد تقديم عرضه الفني في قرية كفر ياسيف الجليلية في السادس عشر من كانون اول/ ديسمبر المنصرم، وبعد اضطراره للاعتذار أمام مهاجميه من نشطاء ما يسمى “اللجنة الفلسطينية لمقاطعة اسرائيل من الداخل”(BDS 48) وغيرهم من أعضاء حركات المقاطعة – نشرت ابنة كفر ياسيف، الفنانة اللافتة أمل مرقص، على صفحتها تعقيبًا صاخبًا، أنهته بفقرة غاضبة ومغضبة فكتبت: “بكفي قرفتونا! مش هيك بتتحرر فلسطين! ما حدا علّم أبوي وإمي وستي من قبلهم كيف يكونوا وطنيين داخل وطنهم، ولا احتجناكم تشرحوا لنا معنى الصمود بالوطن، لأننا صمدنا أكثر منكم.. ولا احتجنا مشورتكم ليكتب ويبدع توفيق زياد واميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم وليرسم عبد عابدي وليبدع المخرج رياض مصاروه والآلاف غيرهم ..”
أحدثت صرخة هذا “الأمل/الوجع” تفاعلًا لافتًا على وسائل التواصل الاجتماعي، فأيّدها الكثيرون وهاجمها آخرون؛ ولكن مناكفات أكثرية مهاجمي ذلك الاعلان بقيت أسيرة لخلفيات المشاركين الحزبية والسياسية الضيقة، وبعيدة عن سبر روح ذلك الوجع ومناقشة أسبابه.
لا أنوي هنا طرح قضية “صراع الايديولوجيات” المحلي، رغم اهميتها وتأثيرها على حجب امكانيات خوض نقاش موضوعي ومثمر بين الفرقاء، لا سيما في قضايا خلافية هامة. فالمؤسف، في حالتنا، هو كيف تتناول مفاعيل مجتمعنا القيادية والنخبوية قضية حارقة، اختار لها بعضهم اسمًا مغالطًا حين اطلقوا عليها اسم الحركة “لمقاطعة اسرائيل من الداخل”.
ورغم الاضرار التي تُسبّبها بعض انشطة هذه المجموعات التي تدعو الى المقاطعة على انواعها، ما زالت مواجهتها أو مناقشتها أو تقييمها يجري باهمال واضح أو باستخفاف مستفز أو بمزايدات معهودة؛ فحملات مقاطعة الادباء والمبدعين والفنانين العرب والعالميين للنشاطات الثقافية بيننا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، تعدّت كل الحدود وتجاوزت المنطق؛ وباتت، في بعض تجلياتها، كالسيل .. ما أغشمه وما أضر منه !
على جميع الأحوال، فإنّ عزيز مرقة لم يأت إلى كفرياسيف مطبّعًا، بل على العكس تماما؛ فهو حين وقف على المسرح قرب ساحة السوق الكفرساوية الشهيرة وحيّا فلسطين، وهو يضم كوفيتها بعفوية ساحرة، روى حناجر الشباب بحماس وأسقاها حبًا أعاد إلى ربوع الجليل وعد أبائنا الصادق.
كان المشهد مؤثرًا ولن تنافسه نداءات المقاطعة ولا ضجيجها؛ فهناك، في بقعة الضوء الجليلية العصية على النسيان، وقفنا، طيلة أربع ليال عامرة، على أهداب النشيد، وتذكرنا سمرة الشاعر راشد حسين حين رفع قبضته/الجمرة، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، ودفعها نحو صدر الحاكم العسكري الاسرائيلي ورمى بعدها، على الملأ، وعد الاحرار وقال :” اليوم جئت وكلنا سجناء، فمتى أعود وكلنا طلقاء؟” .
لست متأكدًا كم من الحاضرين يعرفون مثلنا، نحن ابناء ذلك القلق، ماذا يعني فيض الفرح في ساحات البلد؟ ولست متأكدًا كم تعرف أجيال اليوم، مثلنا ومثل ما يعرفه كل من غنّى صغيرًا، كأمل مرقص وأترابها، على بيادر الحرية الحمراء وشرب العزة من عيون ماء تلك القرى الأبيّة، بأن بعض السواعد قد تلاطم المخارز ؛ لكنني، رغم قطيعة البعض مع ذلك الماضي، على قناعة بأن حضور عزيز مرقة وغناءه بين أهله في الجليل، بخلاف لو غنى في احتفال ترويجي لمؤسسة صهيونية مثلًا، لم يكن تطبيعًا مع الاحتلال؛ وبأنّ صوته بقي نقشًا على صفحة هوية جيل لا تخشى الهرطقات المستوردة ولا السفسطائية المراهقة.
لقد اعتذر عزيز مرقة أمام من هاجموه فأحزننا وأبكى النجوم في السماء؛ لأنها، ربما هو لا يعرف، شاهدة على مسيرة جيل يصحو ليقفو أثر جيل “عزيز”، وليغني كما غنى “السالم” “والسميح” “والمحمود” “والراشد”؛ ولتردد معهم الناس “يا كفرياسيف أردتِ لقاءنا، فتوافدت للقائك الشعراءُ” .. والمغنّون والفنانات والأدباء.
القضية لم تبدأ بزيارة عزيز مرقة ولن تنتهي عندها؛ وكما قلنا في السابق، فقد ادرك، فيما يبدو، من بادر الى اقامة لجنة المقاطعة المذكورة والناشطة تحديدًا داخل اسرائيل، وجود تعقيدات في خطابها ستمنع حتمًا ترجمته على أرض الواقع. فبعد أن أجازوا للناس العمل في ثلاثة ميادين ملتبسة، كما أوضحنا في مقالتنا السابقة، ورسموا لها حدودًا مائية، تساءلوا كيف يمكن، اذن، الاسهام في حملة المقاطعة داخل اسرائيل؟
أنصح القراء أن يراجعوا مجموعة المعايير التي نشرتها اللجنة وطالبت الناس الالتزام بها؛ فجميع ما ذكروا يثير، برأيي، ما لا يمكن حصره من التساؤلات والأسئلة في مقالة ولا في عشرة مقالات، ويستدعي، بالتالي، رفضه بشكل قاطع؛ وذلك، ببساطة، لأن محاولة اخضاع مجتمعنا في داخل اسرائيل لمفاهيم المقاطعة الثقافية هي محاولة عاقر لا يمكن أن تلد مخارج واقعية مقبولة، ولا أن تؤدي الى انجازات تصب في صالحنا، والى خسائر بحق اسرائيل.
لا يكفي أن يحظروا علينا كمواطنين في اسرائيل أن “نمثّل الدولة أو مؤسساتها الخاضعة للمقاطعة في المحافل الاقليمية والدولية”، بل عليهم أن يشرحوا لنا كيف يتّسق هذا الحظر ونضالنا للحصول على جميع حقوقنا المدنية وعلى نصيبنا من الوظائف في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها، وعلى حصصنا المتساوية في مقدرات الدولة ومصادر الدخل فيها؟
إن مجتمعنا يفاخر بتحصيل أبنائه العلمية، ويطالب، بحق، بأن تستوعب مؤسسات الدولة وأسواقها التشغيلية هؤلاء الرواد بأهلية كاملة وبما يليق مع كفاءاتهم العلمية والمهنية.
لقد بلغت نسبة الاكاديميين، بين المليون والنصف عربي في اسرائيل %12.1، وذلك حسب التقرير السنوي الصادر، في نهاية العام المنصرم عن “جمعية الجليل”. واذا توقفنا مليًا عند هذا المعطى، سنجد أن آلافًا من بين هؤلاء الأكاديميين يتبوّأون مناصب عليا في عشرات الشركات الكبرى والمعاهد العلمية العليا والمستشفيات والمصانع والمحاكم والمصارف.
وعليه، كيف يتوقع واضعو قواعد المقاطعة ان يتصرف العربي رئيس بنك لئومي – “البنك القومي الاسرائيلي” – الأكبر من بين مصارف اسرائيل، إزاء منصبه، خاصة وقد فاز به مؤخرا بعد منافسة شرسة مع عدة مرشحين يهود زاحموه على هذا المنصب؟ وكيف سيمتنع البروفيسور حسام حايك ان يمثّل المعهد التطبيقي للعلوم (التخنيون) في المحافل الدولية، والا يستعرض انجازات هذا الصرح العلمي الذي يقف بين طلائعيّيه بعض الاساتذة العرب البارعين؟ خاصة اذا عرفنا ان حسام حايك قد انتخب قبل ايام، بجدارة لا بواسطة تدخل مختار أو عقيد او وزير أو أمير، من قبل مجلس عام المعهد، كعميد عام لدراسات التأهيل (اللقب الاول) وهو منصب يتضمن المسؤولية على عشرة آلاف طالب وعلى 1500 محاضر .
وكيف كان المواطن العربي، ابن كفر ياسيف، البروفيسور ميخائيل كرينّي، الذي شغل منصب عميد كلية الحقوق في الجامعة العبرية مثلا، سيقاطع تمثيل جامعته الصهيونية في “أنشطة تنظمها وترعاها المؤسسات الصهيونية الدولية في اسرائيل أو في الخارج” ؟ وهو لم يكن العميد الوحيد في جامعات الدولة. أو هل يوفر، في رأي لجنة المقاطعة، القضاة العرب العاملون في سلك القضاء الاسرائيلي “غطاءً فلسطينيًا، أي “ورقة توت”، لمن يخالف معايير المقاطعة”؛ وهل ستطالبهم اللجنة بالاستقالة أم أنّ على اللجنة ملاحقتهم ومطالبتهم بأن يقسموا يمين الولاء لفلسطين أو لآل عثمان أو للشام أو لقطر؟
وكيف سيرفض عشرات رؤساء أقسام التطبيب العرب في مستشفيات الدولة ان يرأسوا أو “يشاركوا في وفود اسرائيلية (رسمية أو برعاية منظمات صهيونية عالمية) في زيارات دولية” وألا يستعرضوا منجزاتهم العلمية الرائدة في العالم ؟
لن استرسل في اعداد هذه القوائم، ففي كل مجال وميدان نضع إصبعنا عليه، سنجد ان الحديث عن “المقاطعة الثقافية” هو ضرب من باب التعجيز وممارسة رومانسية ستغرقنا بشعارات لا طائل تحتها وستخلق بيننا البلبلة وتدرع الفرقة .
وبحسب “جمعية الجليل”، فقد عبّر ٨٢،٥٪ من الأفراد المقيمين في البلدات العربية غير المختلطة عن درجة أعلى من الرضا عن حياتهم في الدولة ! واعتقد أن التمعن فيما يحمله هذا المعطى من مؤشرات سيمكّن القيادات والمسؤولين من رسم خرائط علاقاتنا المرجوّة، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، مع الدولة؛ وفي المقابل، مع حلفائنا ومع أعدائنا على حد سواء.
والى أن نصل ذلك الجسر بأمان، لن أقبل بوصلة إلا ما علمتنا اياه كفر ياسيف، التي آوى الى حضنها ، قبل عزيز مرقة، بعقود، العشاق والكادحون والمناضلون والشعراء، بعد أن أحسوا، كما عبّر بالنيابة عنهم حبيبها الدرويش في كتابه “حيرة العايد”، انها “البيت والطريق” وبعد أن دلّتهم في تلك الأيام: ” على بوصلة الشمال، على أوّل الوعي، وعلى أوّل الطريق وعلى أوّل الخطوات؛ على السجن الأوّل، وعلى حرياتنا الصغرى، وعلى طموحاتنا الأولى وعلى خياراتنا الصعبة، وعلى أوّل الكتابة، وعلى ما يدلّنا على أننا جزء من جماعة قومية، أيام كان انتماؤنا لمصلحة الشعب العامة، لا للعائلة أو القبيلة او الطائفة”.
فلا خوف، إذن، على ضياع من يدخلها آمنًا، لأنه سيبقى محصنًا وعصيًّا على اي “تطبيع”.
جواد بولس