اليابان، كوكب آخر
تاريخ النشر: 14/01/20 | 5:58كان البرد قارسا تلك الليلة، ليلة الرابع من كانون الثاني عام 2020 في غرناطة، احدى المدن التي ما زالت تشهد على مجد المسلمين قبل خمس مائة سنة واكثر. كنت انتظر مع مجموعتي عرضا للفلامنكو، وشاءت الصدف ان ينتظر معنا مجموعة من اليابانيين لا يقل عددهم عن الخمسة والثلاثين فردا معظمهم من الفتيان والصبايا. ربع ساعة بالتمام كان علينا ان ننتظر قبل الدخول الى قاعة العرض؛ فضجت مجموعتنا وتعالت الأصوات، فمِّنا مَن راحوا يطلقون التعليقات المضحكة ويقهقهون، وآخرون يلتقطون الصور أو يتذمرون من ازدحام المكان وتأخر العرض؛ وفي الجانب الآخر كان يلتف اليابانيون حول مرشدهم في الرحلة، مكونين كومة بشرية اتخذت لها مكان قصيا عن الممر الى قاعة العرض حتى لا تغلقه، صامتين لا يتكلمون واكتفوا بأن تصور اعينهم المشاهد، التي لربما استهجنوها او كانت دخيلة على ثقافتهم.
حان وقت العرض، فطُلب من اليابانيين ان يدخلوا اولا ليأخذوا اماكنهم في القاعة؛ فضجت مجموعتي معترضة، متخذة سلاح العنصرية لتبرر اعتراضها؛ لكنها لم تنجح ؛ حيث استمر اليابانيون بالدخول الى القاعة واحدا تلو الآخر بنظام وهدوء، دون ان ينبس أحدهم ببنت شفة؛ ولما لم يبق امام افراد مجموعتي الا الرضوخ لأمر المسئول الاسباني، دخلوا القاعة صامتين رغم ان الايجو عند كل منهم ظل متيقظا وابى ان يهدأ. دخل الجميع القاعة، فظننت انه حان الوقت ليتكلم اليابانيون فيما بينهم على الأقل، وقلت في نفسي: الآن لا بد ان ينبه أحدهم صديقه لمكان جلوسه او غيره؛ لكنه خاب ظني.
وبدأ عرض الفلامنكو فضجّت مجموعتي مشجعة الراقصين، وأنارت اضواء الهواتف الذكية المكان، في حين ان اليابانيين ظلوا جالسين في اماكنهم صامتين وقلة منهم فقط استعملت، على استحياء، الهواتف الذكية لتوثيق العرض، وكان مسموحا بذلك.
وبالطبع مثلما دخل اليابانيون العرض، خرجوا منه لا يتدافعون ولا يهتفون ولا يعلقون ولا يصطحبون معهم شيئا اللهم الا تلك الابتسامة الناعمة الهادئة التي زينت وجوههم والتي تدل على امارات رضاهم من العرض. انهم فعلا من كوكب آخر، فالانضباط والنشاط وحب العمل والكثير من الصفات المتميزة التي يتسم بها الشعب الياباني في كل مجالات الحياة، جعلت الكثيرين يؤكدون أن ذلك البلد يمثل كوكبا آخر غير الذي نعيش عليه. فهناك قواعد تربية الأطفال تتصدر اهتمامات اليابانيين وتلك القواعد هي التي جعلت هذا الشعب يتميز بتلك الصفات عن غيره من الشعوب، ويحقق ذلك التطور الإنساني العظيم قبل أن يحقق التطور العلمي والتكنولوجي.
المهم؛ يا بخت المعلمين في اليابان.
بقلم، جميلة شحادة، كاتبة وقاصة فلسطينية من الناصرة.
12.1.2020