“نيرون مات، ولم تمت روما”
تاريخ النشر: 21/01/20 | 11:28بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون؛ زرت أحمد وكميل وعاصم، باسم، حسام وسائد، كريم ووليد، مروان، وائل وشادي وغيرهم ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تواصل معي الكثيرون وشدّني ما كتبَتهُ الصديقة العكيّة حنان بكير: “بمشروعك الرائع تفتح متنفّسًا لأسرانا الأبطال، وتطلق سراح أفكارهم”.
سمعت منهم وأسمعتهم الكثير، تبادلنا الأفكار وتثاقفنا، تحدّثنا إنسان لإنسان، بعيدًا عن الأسطرة والخرافات والبطولات، كلّ وحكايته؛ وفي طريق العودة إلى حيفا جاءتني أبيات من قصيدة “قصيدة عن إنسان” للراحل محمود درويش:
“يا دامي العينين والكفّين
إنّ الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات، ولم تمُت روما…
بعينيها تُقاتل
وحبوب سنبلة تجفّ
ستملأ الوادي سنابل…!”
نستمرأ الجهل ونجترّه
غادرت حيفا مع طلوع فجر 15.01.2020 واتجهت جنوبًا للقاء الأسير أحمد علي حسين أبو جابر في سجن نفحة الصحراوي، مشوار استغرق ثلاث ساعات ونصف، كلّها تفكير بأسرانا وحرمانهم من الحريّة وحين رأيته بابتسامته العريضة طارت مشقّة السفر وبدأنا حديثًا مشوّقًا ومثيرًا.
بدايةً، ولكسر جليد أوّل لقاء بيننا، سألته عن سرّ تسمية أولاده؛ مايا ومسلسل “سفينة الفضاء” في سبعينيّات القرن الفائت وقبائل المايا، جوَلان وعشقه للتجوال وسامر وأصوله البدويّة وحبّه للسمر والتسامر.
تحدّثنا عن حالة العنف المستشري في وسطنا والانفلات ومقالته الأخيرة “لا تُقتَل يا بنيّ”، تعلّمه في السجن من “فكّ الحرف” حتّى بحث الماجستير حول التفوّق الاستخباري كعامل أساسي للتفوّق العسكري، وأهميّة التعلّم والثقافة وأثرها عل التطوّر والتفوّق.
وجدته مثقّفًا متنوّرًا، ناقشنا كتاب “تكوين العقل العربي” للدكتور محمد الجابري وقال بحِرقة: “للأسف، ظلّينا هناك” وما زلنا نحمل حروب الردّة، كم نحن بحاجة لثورة ضدّ رجال الدين وتُجّار الوطنيّة الذين يعيقوا تقدّمنا بسب تفكير القولبة النمطيّ الذي يُفرَض علينا. كذلك نعاني من ازدواجية أخلاقيّة نعيشها، “نستمرأ الجهل ونجترّه!!”.
تحدّثا عن أدب السجون الحديث وتعريفي له، مشروعي “لكلّ أسير كتاب”، ومشروعه الأدبي؛ محاولاته الشعريّة، “فوز الأصايل” ورواية في مراحلها الأخيرة “عبق الصوار رغم الأسوار”.
مرّت الساعات مُهرولة، وأحمد يتحدّث بحماس منقطع النظير… وأملًا بحُريّة قريبة يحلّق في فضاء اللقاء.
لك عزيزي أحمد أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
أكلنا الثمار
التقيت صديقي حسام زهدي شاهين صباح اليوم في سجن نفحة الصحراوي، مباشرةً بعد لقائي بأحمد أبو جابر، مبتسمًا كعادته؛ كان اللقاء الأوّل يوم 20 حزيران في سجن الجلبوع، اللقاء الثاني يوم 16 آب في سجن “مجيدو”، وبعد عناق طويل عبر ذلك “الحاجز الزجاجيّ” الكريه، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وقال: “هيّاتك بسببي تعرّفت على جغرافية فلسطين مثل أهلي، كلّ زيارة بمحلّ آخر”.
تحدّثنا عن قراءته حول ما يُكتب عن النكبة، والدروز بالتحديد، ومقابلة تلفزيونيّة مع أستاذي د. نبيه القاسم، فحدّثته بدوري عن كتب صدرت في الآونة الأخيرة: “واقع الدروز في إسرائيل” للدكتور نبيه القاسم، “العرب الدروز في إسرائيل، مقارنات وقراءات نظريّة وسياسيّة ناقدة” تحرير الدكتور يسري خيزران، “العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتى ال-48” للأديب سعيد نفاع ووعدته بنسخ منها.
تحدّثنا حول لقائي بسميِّه حسام، ابن أخته، تفاعل قُرّائه مع كتاباته، زيارته حيفا مساء الأربعاء 30 أكتوبر للمشاركة بأمسية مناقشة روايته “زغرودة الفنجان” في منتدى الكتاب الحيفاويّ وقرأت على مسامعه ما كُتِب ونُشِر حول تلك الأمسية ورأي المشاركون بالرواية، كان سعيدًا جدًا لسماع ذلك وقال بانفعال: “شعرت أنّ الرواية تعمّدت حين نوقشت في حيفا!!!”
حدّثني عن مشروعه القمريّ ومشروعه البحثيّ حول صراع فلسطينيّي الداخل على مكانتهم القوميّة والمدنيّة، انعدام الجاذبيّة النضاليّة، حدّثته بدوري عن مشروعي “لكلّ أسير كتاب”.
ابتسم قائلًا: اللقاء الأوّل كان هزّ الشجرة والثاني قطف ثمارها، وها نحن نأكل تلك الثمار!!
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت ساعتان وعليّ زيارة أصدقاء في سجن “ريمون”.
لك عزيزي الحسام أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفا، بإطلالة قمرك وشمس الحريّة تسطع في سماء الوطن.
الجهة السابعة
ابتدأت رحلتي الصحراويّة بلقاء أحمد وحسام في سجن نفحة، ومنه إلى سجن “ريمون” الصحراوي للقاء الأسير كميل أبو حنيش للمرّة الثالثة (كان اللقاء الأوّل يوم 3 حزيران الفائت، واللقاء الثاني يوم 25 آب)؛ تعانقنا طويلًا طويلًا عبر الحاجز الزجاجيّ المقيت وباغتني بالسؤال بدايةً عن أحوال شادن، ديمة وسميرة، وأحفادي ماهر وليم.
تحدّثنا عن مشروعه الأدبيّ وشطحاته النقديّة في الفترة الأخيرة، أشعاره ودراساته، والعمل الروائي القادم، الجهة السابعة تحترق في فضاء اللقاء، شطحات وخيال ولجوئه لحاسّة الشمّ ليشمّ ريحة الماضي، كوكتيل من الحبّ والموت والانبعاث والفانتازيا بتَوليفة رائعة.
سألني عن لقائنا بعائلته في الغور؛ أعادني بأسئلته إلى زنازين المسكوبيّة ومحقّقي الشاباك في بداية ثمانينيّات القرن الماضي، طلب أن أصف له بالتفصيل المُمِل البيّارات بحمضيّاتها، نبع الماء، الخُضرة البلديّة وخضرة الدفيئات، طبخة أم كميل، وأحاديث أبو كميل، فلا تروح عليه شاردة أو واردة.
خلال اللقاء تبيّن أنّ الأسير عاهد يوسف موسى أبو غلمة قد “تبخّر”، كان من المفروض أن ألتقيه بموجب ترتيب مسبق، وفجأة “أرض انشقّت بلعته”، لم ينجح السجّان بالعثور عليه فثار كميل على سجّانه يوبّخه، دون جدوى.
حقًا، شتّان بين أن تطّلع على أدب السجون وبين لقاء أديب خلف القضبان!!!
لك عزيزي الكميل أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في حيفانا التي تحبّ ومنها نعرّج معًا إلى الجفتلك والغور.
حسن عبادي
حيفا 15 كانون ثاني 2020
***الأسير أحمد أبو جابر من مواليد 1960، أُعتقل يوم 8 تموز 1986 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد + 10 أعوام.
***الأسير حسام شاهين من مواليد 1972، أُعتقل يوم 28 كانون الثاني 2004 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن 27 عامًا.
*** الأسير كميل أبو حنيش من مواليد 1975، أُعتقل يوم 15 آذار 2004، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن تسعة مؤبدات.