قضية الشيخ رائد صلاح في لندن
تاريخ النشر: 06/10/11 | 5:58في ملف الشيخ رائد صلاح أمام المحاكم البريطانية لك أن تبدأ من أي مكان تريد، ملف كثير التشعبات، يبدأ في تل أبيب وحيفا. وأنت تسمع شاهد النيابة المركزي تتذكر الشاهد من حيفا، يسرائيلي من محكمة حيفا 2003، باختصار “شاهد ما شافش حاجة”، وهذا ليس للمبالغة.
لا يمكن أن تكون مجرد مستمع وأنت تسمع كلام ممثل النيابة، باختصار، بالنسبة له، ليست هناك أية مشكلة في الاعتقال والطرد، حتى وإن تخلل العملية الكثير من “الأخطاء”،فهذه مسألة تبقى تقنية فقط، حتى وإن لم تكن هناك أسباب مقنعة ومنطقية.
بحسب “الغارديان” الصادرة يوم 21 أيلول 2011 فإن وزارة الداخلية البريطانية أضاعت 6 فرص لإبلاغ الشيخ أنه ممنوع من الدخول إلى بريطانيا، وهناك موظف كبير في الداخلية أوصى بعدم طرد الشيخ رائد من بريطانيا، وحذر الوزيرة تيريز ماي من اتخاذ هذا الإجراء.
وبحسب “الجارديان” فإن بريدا الكترونيا حصلت عليه أكد أن الوزيرة كانت :” مصممة على إيجاد سبب لطرد الشيخ قبل التحقيق من الأدلة ضده”.
لم تحتج الوزيرة أكثر من 17 دقيقة لإصدار قرار بطرد الشيخ بناء على تقرير قدمه ميخائيل واين من منظمة “أمن المجتمع” وهي منظمة يهودية.
“هل هناك ما يمكن أن نفعله من أجل منعه من الحضور؟”(أي إلى البرلمان)/كما تساءل واين.
وتورد “الجارديان” توصية لموظفة في الداخلية :” ترى أن تاريخ صلاح الاستفزازي يحمل مخاطر إذا ظهر في البرلمان، ومن شأنه أن يترك انعكاسات متشددة على الجمهور”،هل هذه الحقيقة مهمة؟
بحسب التقرير فإن :” الشيخ رائد لم يعلم في مرة من المرات أنه ممنوع من دخول بريطانيا وأن شرطيا في مطار “هيثرو” الذي فحص جوازه لم يجد أية إشارات لذلك”.
هذا الادعاء غير مهم من أساسه، فالخطأ التقني الذي تحدثت عنه بعض الجهات والذي أدى إلى دخول الشيخ رائد، هو في أحسن الحالات نكتة، لا يمكن أن تنطلي على أحد.
الشاهد المركزي
الشاهد المركزي في ملف الشيخ كان مرتبكا للغاية، وفي الأسئلة التي وجهت إليه كان يبدو شاهدا من النوع الذي لم يشاهد شيئا، وهنا يكمن التشابه بين ما حصل في محكمة 2003 وبين المحكمة في برمنغهام.
أولا تنفذ الأمر(الاعتقال أو الطرد)، وبعد ذلك تبحث عن أدلة، وليس من المهم أية أدلة تسوقها، وليس من المهم إن كان يتخللها أخطاء ومغالطات.
“هل اطلعت على حيثيات الشيخ رائد صلاح قبل القرار بإبعاده”؟سأله المحامي
الشاهد أجاب بدون تردد : لا.
في الأسئلة التي تلتها تبين أن الشاهد لا يعرف الكثير عن الملف، أجوبته دارت بين :”يمكن” و”يحتمل”،و”من الوارد”.
وبحسب الشاهد فقد حصل على معلومات من جهات تؤكد خطورة الشيخ، ولا يهم الشاهد مسألة حرية التعبير مثلا والتي من المفروض أن تؤخذ بالاعتبار.
*المحامي سأل الشاهد:هناك من أوصى بعدم إصدار أمر بإبعاد الشيخ رائد، لماذا لم تأخذوا الأمر بالاعتبار؟
*الشاهد يرى أن هناك من أوصى بإبعاد الشيخ رائد، أيضا.
*ليست هي المرة الأولى التي يزور فيها الشيخ رائد بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية.وفي السابق لم”يسبب الشيخ أية مشاكل”، إذاً لماذا يطرد؟
*”لأن قرارنا يبنى على توقعات ما سيحدث في المستقبل وليس فقط على ما قد حدث”، أجاب الشاهد.
*ولكن ما هو المتوقع أن يحدث في المستقبل؟يبدو أن ما حدث في الحقيقة كان في الماضي، وفي مكان آخر.
في هذا الملف يمكن بوضوح ملاحظة تدخل اللوبي الصهيوني، بشكل لا يقبل التأويل، هذا جانب لا ينكره حتى شاهد النيابة
أحد أهم الأمور هو توجه اللوبي الإسرائيلي بشكل واضح للحكومة “لتفعل أي شئ من أجل منعه من الظهور في البرلمان”.
الحرب على الشرعية والرأي العام
كان البرلمان هو نقطة الحرب الفاصلة على ما يبدو، في الحرب على الرأي العام في بريطانيا وفي غيرها، ففي الحرب على الشرعية، تكون الحرب أولا في البرلمان، بحسب الشاهد فإن الوزارة اتخذت قرارا بطرد الشيخ بعد أن استشارت:”وزارة الخارجية ووزارة المجتمعات المحلية ووزارة الداخلية” ، فيما لم يجر الاتصال بالجهات التي دعت الشيخ لإلقاء محاضرات، لتسمع منها مباشرة عما سيتحدث.
لا يعلم الشاهد لماذا جرى إبعاد الشيخ بعد وصوله إلى بريطانيا بيومين، ولا يدري عن القصيدة التي جرى الاستشهاد بها كمسوغ للطرد، بالنسبة للشاهد :”كان لدينا تقديرنا لهذه القصيدة وأن كلامه غامض”، الغموض الذي يكتنف القصيدة مثلا لا يكتنف الملف في كثير من تفاصيله، هذا الملف ليس ملفا شخصيا ، وإن كانت فيه جوانب شخصية ، كذلك لمحاولة نزع شرعية عن قائد سياسي، أولا، ودمغه والعمل الإسلامي بأشد صور التطرف الممكنة.
الحرب في الحقيقة واضحة للغاية، “من ينزع شرعيتنا سننزع شرعيته” كما عادت جهات إسرائيلية إلى التأكيد أكثر من مرة ، وهنا بالضبط يكمن أهم جانب في الملف.
أدلة قابلة للطعن
“إن الأدلة التي يجري الاستناد إليها هي عرضة للطعن القانوني” “وعليه فإن تقييمنا أن هذا الملف هو متوازن “، كما جاء في تقييم أحد موظفي الوزارة.
بعد أن وقعت وزارة الداخلية الأمر، كرر موظف آخر في الوزارة واسمه اندي سميث ، الاعتراض على طرد الشيخ، وادعى :” أن الأمر من شأنه أن يطيل بقاء الشيخ صلاح في بريطانيا، ويرفع من اسمه وأسهمه التي يملكها الآن”.
في حالة الشيخ رائد كان القرار مقلوبا، أولا قرار الإبعاد وبعد ذلك البحث عن أسباب مقنعة للطرد،في العادة هناك أسباب “مقنعة” ما قبل إصدار القرار.
هذا التلاعب هو الذي يكشف العلاقة بين أمر الطرد وبين جهات أخرى ضغطت لأجل إصدار أمر الطرد.
بعض التفاصيل التي كشفت حول هذا الملف ما بعد الاعتقال تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن أيدٍ أخرى كانت تلعب وتوجه وتقرر ،وهي التي كانت رتبت لهذا القرار،حتى يبدو أن الوزيرة ماي أخذت الأمور بشكل شخصي للغاية ،لكن هنا في بلاد مثل بريطانيا،من المفروض أنها مهد الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي،(وهي مسألة يأخذها الجميع على محمل من الجد)،ليست هناك أمور شخصية خالصة،هناك أيضا قضايا ذات طابع تآمري.
مؤامرة؟
مثلا من أين لمراسل “الديلي ميل” التي قادت عملية التحريض على الشيخ رائد قبل وصوله إلى بريطانيا،من أين له بخبر اعتقال الشيخ قبل حدوث الاعتقال؟من الذي أعلم الصحيفة التي وصفت الشيخ بـ”واعظ الكراهية”،واعتبرت شرطة الهجرة “نكتة”؟
“يجب أن نمنعه بأي ثمن”،هي جملة مريبة، لأنها تشير إلى أن هناك من مُنع قبل الشيخ بـ”أي ثمن”, طرد أو اعتقال أو إبعاد أو حتى الوصول إلى سجن “غوانتينامو” أو التسليم لأجهزة أمن أخرى في دول خارج بريطانيا.
“يجب أن نمنعه بأي ثمن”، هي جملة أكثر من مريبة إذا علمنا أننا لا ندري كيف يجب أن “نمنع بأي ثمن”.
وهي في الجانب الأهم تكشّف لنا ما هو مهم في هذا الملف، بل قد يكون الأهم؛ ملف الشيخ رائد صلاح ليس ملفا شخصيا، هذا أولا، وهو لا يخص فلسطينيي 48 فقط، وهذا ثانيا, أما ثالثا ولعله أهم الأهم، فهو وضع المسلمين في أوروبا عامة وفي بريطانيا خاصة،وهو أكبر بكثير بحيث نشاهده من بعيد.
لنتنبه أن “التهم” الموجهة للشيخ رائد في تبرير طرده،ولمحاولة إثبات أنه “لا سامي”،تخص بالأساس حرية التعبير عن الرأي،قصيدة،وخطبة وادي الجوز،والأقصى وحماس،بدون أي تفكير،وبدون أي اعتبار لأمور أخرى،جرى الاستناد إلى قضايا لم تبت بها أصلا المحاكم الإسرائيلية،كي تعتبر سببا للطرد.
هذا هو أخطر ما في الأمر، فالإدانة بهذا المعنى في بريطانيا تعني إدانة في كل أوروبا، وأكثر من ذلك، الإدانة هنا تعني بالمعنى المعنوي إمكانية إدانة كل من له علاقة بالشيخ رائد،فكريا وتنظيميا،وفوق كل هذا ،كل عربي أو مسلم يمكن إدانته أو طرده بناء على طلب من جمعية “أمن المجتمع” ،التي استند الشاهد المركزي على “رأيها” في قضية الشيخ رائد صلاح.
ملف الشيخ رائد صلاح في بريطانيا هو ملف المسلمين هنا،وليس ملفهم فقط . الأهم من كل هذا هو أنه مواجهة مع اللوبي الإسرائيلي.لأول مرة يوجه انتقاد لجمعية “حماية أمن المجتمع”،إذا كنتم لا تصدقون،كما أنا لم أصدق ،فمرد ذلك إلى عدم فهم تأثير اللوبي الإسرائيلي على الحياة في بريطانيا.
تخيلوا مثلا أن رئيس الحكومة من حزب المحافظين دافيد كاميرون،و80 عضو برلمان آخرون هم أعضاء في “جمعية أصدقاء إسرائيل”.
الاستئناف على القرار الذي يشغل الرأي العام هنا بقدر لا يمكن التغاضي عنه،هو عمليا مهاجمة سياسة حكومة المحافظين.
الصورة هنا وحتى لا نضيع الطريق،ليست مواجهة بين حزب العمال المعارض من جهة،وبين المحافظين من الجهة المقابلة،لكن حزب المحافظين يتخذ خطوات متشددة للغاية بشأن قضايا الهجرة التي تخص المسلمين في بريطانيـا،وبشأن زيارات شخصية إسلامية إلى بريطانيا،ومرد ذلك ليس لاعتبارات سياسية فقط،هناك بعد إيديولوجي لدى المحافظين في بريطانيا كما لديهم في الولايات المتحدة،نزع شرعية العرب والمسلمين هي قضية في جوهر رؤيتهم الإيديولوجية وتحديدا منذ 11 أيلول.
ملف الشيخ رائد صلاح هو الملف الوحيد للشخصيات المهمة الذي ذهب إلى المحاكم،وهو ملف إسرائيلي بامتياز،لكنه من جهة أخرى،ملف المسلمين الآن،والأمور على أية حال نسبية.
قرار المحكمة بشأن الاعتقال،واعتبار أول يومين غير قانونيين،ويحق المطالبة بتعويضات مالية ومعنوية مقابلهما هو قرار مهم للغاية،هذا القرار قوبل بالارتياح والترحيب لدى جهات عديدة عربية وإسلامية .
“يوجد هنا انتصار سياسي أولا،قضائيا قد لا يكون القرار كاملا،لكن اعتراف المحكمة بعد شرعية الاعتقال هم أمر مهم،وهو انتصار سياسي كبير،لا يمكن التقليل من أهميته”،كما قال المحامي طيب.
نزع الشرعية
ولكن لماذا يثار الملف الآن،خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي يدخل فيها الشيخ بريطانيا،فيما زار أكثر من دولة أوروبية مؤخرا؟
البرلمان البريطاني ،على الأقل بالنسبة للبريطانيين يعتبر أكثر من مجرد رمز هام للديمقراطية،وحرية التعبير.فالبريطانيون يثقون للغاية بمؤسساتهم،بالبرلمان والحكومة والشرطة والقضاء،على الأقل فيما يخص موقف هذه المؤسسات من “الآخر”.
عندما قرر من قرر “منع الشيخ رائح بكل ثمن”،كان يقصد أولا منعه من أن يمنح”شرعية” من على منصة البرلمان البريطاني،صحيح أن فلسطين لن تحرر من خطاب أمام البرلمان،لكن صحيح أيضا أن البرلمان البريطاني هو الذي يمنح الآخر شرعية على أرضه.
الحرب على “نزع شرعية” الشيخ ليست جديدة،المؤسسة الإسرائيلية تخوض حربا شعواء منذ سنوات ضده (وضد غيره) وضد الحركة الإسلامية بالعموم،هنا بالذات في لندن لهذه المسألة أثر عالمي كبير، على المسلمين في بريطانيا وخارجها،صحيح أن نزع شرعية أية شخصية إسلامية قيادية هنا،ليست “قضية القرن”،لكنها على وجه التأكيد قضية أكثر من مزعجة بكثير.
يرى الدكتور داود العبد الله من منظمة الميمو(المرصد)،أن”قضية الشيخ رائد مهمة للغاية لأكثر من سبب”.
“أولها وأهمها أن الشيخ يحظى بإجماع وقبول لدى الفلسطينيين في الداخل والشتات،كما أنه يحظى بتقدير واحترام على المستوى العالمي بين المسلمين،وهو ما يجعل لظهوره وسط الجاليات هنا أهمية كبيرة”.
ويضيف:”هناك مسألة مهمة في ملف الشيخ رائد،وهي محاولة إسكات صوت فلسطينيي 48،بالإمكان هنا التحدث عن غزة والضفة الغربية وفلسطينيي الشتات،لكن هناك من لا يريد أن يتحدث أحد عن قضايا الفلسطينيين في الداخل،وبالذات في البرلمان،وتحديدا من شخص مثل الشيخ رائد صلاح”.
“علينا أن لا ننسى أيضا أن الشيخ أصبح شخصية وطنية ،وهو لا يمثل الحركة الإسلامية فقط،بالنسبة له يمكن أن تلاحظ ذلك من خلال الاهتمام الكبير الذي حظي به ملف الشيخ رائد وسط الجاليات العربية ،كذلك البيانات التي صدرت بعد اعتقاله واستنكرت الاعتقال،والاهتمام الكبير الذي حظي به في الصحافة البريطانية،وحتى ردود الفعل بين الناس العاديين من أبناء الجاليات هناك احترام وتقدير كبيران للشخص،وهذا أمر لا يمكن أن تجده في كل يوم”
17 دقيقة هذا ؛ كل ما احتاجته تريزا ماي لإصدار أمر بطرد الشيخ .وبحسب المحامي الطيب فإن أي وزير سيحتاج 17 ثانية في المستقبل بدون مقاومة الشيخ لأمر الطرد.
“فقط بريطانيا هي الخائفة على سلامة مواطنيها من الشيخ وعشرات الدول لم تر أن الشيخ يشكل خطرا على مواطنيها”،سأل المحامي.
من عبد الحكيم مفيد- لندن