نظرية اجيال المستقبل العربي المحتمل داخل اسرائيل
تاريخ النشر: 16/02/20 | 10:27بقلم د. سلام قدسي
مؤسس منتدى مستقبل التربية في الطفولة المبكرة في المجتمع العربي
بوست دكتوراه في معهد موفيت في موضوع مستقبل التربية في الطفولة المبكرة
ما لم نأخذ مسؤولية على مستقبلنا اليوم فسياتي يوم قريب يداهمنا فيه مستقبل محتمل. تذكروا ان اليوم هو مستقبل محتمل كان يلوح في افق الماضي.
في ما يلي اطرح امامكم سيناريو جيل المستقبل كما تشير اليه توجهات الماضي والحاضر التي سأستعرضها امامكم، بالاعتماد على موديل استقراء المستقبل المحتمل في فهم المجتمعات معتمدا على نظرية الباحث المستقبلي هاوي (Hawe, 1991) والتي وصفها في كتابه أجيال (Generations).
كل جيل يشار اليه في مجال زمني قوامه عشرون عاما، أي توضع فئة عمرية واحدة لكل عشرين سنة يكون اكبرهم عمره عشرون عاما بينما اصغرهم عمره اشهر، لكنهم ابناء نفس الحقبة التاريخية وتجمعهم احداث وتحديات مجتمعية تشكل سلوكهم وتأثر على نظرتهم للحياة كما سنرى من خلال الامثلة اللاحقة. يتم وضع ملامح كل جيل ليس بحسب تاريخ ميلاده بل بحسب انماط سلوكية يتم رصدها عند بلوغه جيل الرشد، فمثلا مواليد العام ستين يتم وضع ملامح جيلهم فقط بعد العام ثمانين وما عايشوه في بلوغهم، مع ضرورة الاشارة الى الفترة الزمنية التي اكتسبوا خلالها تربيتهم من الاجيال السابقة في بيوتهم او مدارسهم.
تجدر الاشارة الى علم المستقبل ورصد معالم الاجيال عبر الازمان هي دراسة اثنوجرافية وتحتمل التأويلات والتحليلات وليست علما دقيقًا كعلوم الكيمياء او الفيزياء.
تقسيم الاجيال الى فئات عمرية ووضع ملامح كل فئة وصولا الى أجيال المستقبل:
مواليد 1901-1920
الجيل الطيب
“سقا الله ايام زمان”
جيل عايش وترعرع في ظل الحكم العثماني وكبر على وعد بلفور وثورة البراق وبداية الوجود الصهيوني على ارض فلسطين بعد الحرب العالمية الاولى. جيل قريب من الارض ومن قيم الكرامة والنخوة اكتفى بالقليل وعاش على البساطة وكان عالمه على قسوته تسوده الوداعة والطيابة. لم يشغل باله بقضايا التعليم والثقافة وكانت حياته تدور حول عائلته وقريته. غلب الطابع الديني على حياة الناس كجزء من طقوسهم دون تطرف ديني فعاش المسلمون والمسيحيون والدروز واليهود والشركس وغيرهم كعرب فلسطين يتكلمون اللغة العربية في ما بينهم وتكاد لا تميز بينهم الا في شعائرهم الدينية وطقوسهم الخاصة. في مدن يافا والقدس وحيفا وعكا والناصرة وغيرها برزت فيها ملامح غنى وثقافة وتجارة مختلفة عن بساطة وعالم السواد الاكبر من الناس في فلسطين آنذاك. لكنها لم تخرج عن المألوف وحافظت على انماط وسلوكيات المجموع. يضرب المثل بهذا الجيل وكان الاجداد يتغنون بمقولة سقا الله على ايام زمان، والله يرحم سنة الثلجة، والسفربرلك.
مواليد 1921-1940
جيل النكبة
“بعيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي”
جيل كبر وسط حديث عن مصير مجهول لفلسطين وحديث عن خيوط مؤمرة تاريخية وعلى احداث تاريخية متتابعة من ثورات واضرابات واغتيالات وتفجيرات. جيل سيشهد قيام دولة اسرائيل وهزيمة جيوش الانقاذ وسيخضع الى الحكم العسكري في شبابه ولا يعرف مصير غالبية بناء شعبه الذين رحلوا عن فلسطين ولم يعودوا اليها ابان العام 1948.
جيل حاول عايش صدمة الحرب دون أي علاج او تدخل نفسي وترك ليواجه مصيره بخوف وذعر. اعتمد في صراع بقائه على كل انظمة النفس في مواجهة حالات الخطر فغنى في استقلال اسرائيل:
” بعيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي
عمّت الفرحة البلدان حتّى السهل والوادي
والشعب يغنّي فرحان متهنّي
يحلاله الترتيل في عيد اسرائيل
دمتِ يا بلادي”
وكتب اميل حبيبي رواية المتشائل يمثل فيها الصراعات النفسية التي يمر بها الانسان الفلسطيني وتوظيف السخرية كحالة انفصام شخصية للبقاء ولو لأجل البقاء في اسرائيل مع غياب معالم الهوية.
مع كل ويلات النكبة حافظ جيلها على ضوابطه الاجتماعية وعلى طقوسه الدينية في ما تبقى له من ارض وناس. اتسمت حياته بالخوف والقهر والفقر والحسرة على تلك الايام الخوالي في الكروم والبيادر التي عاش بها جيل الاباء وعايشوها بأنفسهم أطفالا فصودرت منهم شبابا وحرموا من ميراث شرعي كانوا موعودين.
مواليد 1941-1960
جيل الصحوة
“كن حكيما ولا تكن على حق”
جيل تربى على الراديو الترنزيستور وسماع اصوات ام كلثوم وجمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ. جيل سيشهد احداث كبيرة في المنطقة من عدوان ثلاثي على مصر واحدث مجزرة كفرقاسم وحرب 1967 وحرب اوكتوبر الغفران فيتأرجح بين خيبة وأمل ويبدأ يعي ان وجوده في هذه البلاد مربوط بنفسه وليس بدول الجوار. يخرج من رومنسيات الحلم العربي. تظهر نخبة جديدة من السياسيين الوطنيين كصورة جديدة لبقائنا فظهر الحزب الشيوعي وحركة الارض وحقق هذا الجيل احداث يوم الارض. لكن هذه الصحوة اخافت الجمهور اليهودي فكانت النتيجة انقلاب عام 1977 باعتلاء اليمين الى دفة الحكم بعد ثلاثين عام من سيطرة حزب اليسار على زمام الدولة. من معالم الصحوة الانتباه اكثر الى التعليم والالتحاق اكثر بالجامعات في البلاد وفي الخارج. انخفاض نسبة الانجاب بين العرب الى معدل 4 اولاد بعد ان كانت 8 اولاد في الجيل السابق. حافظ هذا الجيل على قيمه المجتمعية الى ورثها عن ابائه لكنه بدوره كان جيلا اكثر تسامحا وتعامل مع ابنائه بطريقة اكثر ليبرالية مما سيعزز روح الشخصية الفردية في الاجيال القادمة ويخلق ازمة في المبنى الابوي والعائلي التقليدي.
مواليد 1961-1980
جيل الانا
“منتصب القامة امشي”
جيل شهد احداث لبنان الاولى ومجازر صبرا وشتيلا وحركات المقاومة الوطنية الفلسطينية، وتربى في بيوت يوم الارض وكسر حاجز الخوف. جيل متعطش لسماع تاريخه المغيب في مناهج التعليم في المدارس. جيل الحركات الطلابية الجامعية والعودة الى الذات واخذ دور مجتمعي. ارتفعت نسبة النجاح في البجروت وزاد عدد الطلاب الملتحقين بالجامعات. تحسنت ظروف المعيشة بعد سنوات طويلة من الصراع على لقمة العيش. لكن معدلات الفقر لا زالت عالية.
جيل تربى حاول ان يعبر عن رأيه وخرج الى الشوارع في احداث اكتوبر 2000 . فما ما كان من الحكومة الى قمع هذا الجيل الجديد الغير متوقع. كيف لا وهو جيل الصحوة. لعل الفيلم الوثائقي التي انتجته قناة الجزيرة “غريب في بلادي” يمثل هذا الجيل خير تمثيل.
كان رد السلطات عنيفا وفوريا اضافة وضع خطط طويلة الامد لإيقاف هذه الصحوة. سيتم رصد نتاج هذه الخطط لاحقا كظواهر انتشار الاسلحة وكثرة الجرائم في المجتمع العربي دون معرفة الفاعلين في سنوات ما بعد العام 2010. وتوسيع الشرخ بين فئات الشعب الواحد وتقسيمه الى طوائف وملل وعائلات وتشجيع الفتن في داخله من خلال انتخابات لا تناسب مجتمع منقسم على ذاته في طور بناء نفسه. وهو دليل على ضرورة وضع خطط مستقبلية لتوجيه المجتمعات في مسارات للمدى البعيد سلبا او ايجابا.
هذا الجيل المتحرر نسبيا سيربي جيلا اكثر تحررا منه، لكنه سيخاف اكثر على اولاده ويحميهم من خلال ابعادهم عن حلبات السياسة والمجتمع.
مواليد 1981-2000
جيل ما بعد الحداثة
“غياب الاب والمعلم”
جيل كبر بعد احداث اكتوبر وازمة المجتمع العربي مع الدولة ومع المجتمع اليهودي. اعتزل السياسة وقرر التركيز على نستقبله التعليمي والمهني والركض وراء المادة. الثورة التكنلوجية العالمية ووصول الاجهزة الذكية من شبكات تواصل اجتماعي وشاشات ذكية وحواسيب جعلت منه جيلا يقضي اوقات اكثر امام الشاشات والابتعاد عن نبض الشارع والاحداث الاجتماعية. زادت نسبة التعليم بشكل ملحوظ وزاد عدد الأكاديميين في العديد من المهن عن المطلوب كمهنة المعلمين والمحامين. جيل عايش الربيع العربي والتدخل الامريكي في دول المنطقة وكثرة الحروب الاقليمية، فازداد نفوره من العالم العربي وانعزاله وبحثه عن هوية اكثر عالمية وأقل اشكالية. كما هو متوقع زادت نسبة العنف والجريمة في المجتمع العربي، مع غياب أي خطة استراتيجية حقيقية تضعها القيادات المحلية لتصور مجتمعي مستقبلي، مستسلمين الى مستقبل محتمل تضع دوما السلطة لمجتمعنا دون اخذنا شركاء حقيقيين لها. جيل لم يعد يؤمن بقيادته، ولا بوجود شخصية البطل في يومه.
على مستوى التعليم وعلى الرغم من ارتفاع استثمار الدولة في حقل التعليم في المجتمع العربي، الا ان الفجوات مع المجتمع اليهودي لازالت كبيرة. وأوضاع المدارس تعكس حال المجتمع. وبدل ان تصبح المدرسة رافعة ومؤثرة لتحسين احوال المجتمع، اكتفت بعكس صورة عن المجتمع فكما حال شوارعنا من قلة نظافة وجدنا ساحات مدارسنا قذرة، وكما تباع المشروبات المنشطة في الحارات تباع في اكشاك المدارس، نسبة الدخان بين الطلاب في ارتفاع نسبة العنف والتنمر في ازدياد. مع غياب خطط حقيقية لتغيير الوضع والاستسلام للمستقبل المحتمل.
المتمسك في الماضي يومه اشبه بماضيه بينما المتمسك بالمستقبل يومه افضل من ماضيه لا محالة.
مواليد 2001-2020
جيل الضياع
“الي ضربك اضربه”
هو وليد جيلين من الانفتاح اكثر على العالم والتواصل عبر شاشات وتطبيقات عبر شاشات ذكية. هو جيل ولد من اللحظة الاولى وفي يد ذويه شاشات ذكية ابعد ما تكون عن مجرد هاتف. سيتم اعطاءه الشاشة الذكية من جيل صغير ليشغل نفسه وستبدل تلك الشاشة امه وابيه وحاضنته وستصبح عالمه. ستواسيه في الصحية عندما ستقدم له الممرضة ابرة التطعيم. وسيودع الهاتف عند باب الحضانة وسيحصل عليه عند عودته الى البيت بل عند باب الحضانة سيتناوله من يد امه. وفي جيل البستان سيحصل على شاشته الذكية الخاصة وسيدمن الاستخدام ساعات متتالية تماما كافراد اسرته من حوله. جيل شهد تفكك الاسرة وانتهاء ادوار الامهات والاباء. ولا يوجد أي مكان للحديث عن كل ما شغل الاجيال السابقة له. جيل مفتون ومسحور بما تقدمه له الشاشات الذكية من بدع والعاب وتطبيقات. جيل كثرت لديه مشاكل التركيز وضبط المشاعر وغياب القيم. جيل لا يستطيع تأجيل رغباته امام ضعف الاهل وعدم قدرتهم على رفض طلبات الابناء اللحوحين.
جيل لا كبير له، متصل مع اصدقاءه 24 ساعة، لا يعرف للنوم مكان الا اذا نال منهم. هم الان على اعتاب الجامعات، نجحوا على الاغلب في البجروت دون ان يكتسبوا أي تجارب حقيقية في الحياة. لم يتطوعوا رغم انهم على الورق نفذوا اكثر من 150 ساعة تطوع للحصول على البجروت. لم يساهموا بنشاطات مجتمعية. معظم حياتهم تدور حول الكسب السريع وباقل جهد. سيدخلون الى الجامعات ويتخرجون عما قريب، هدفهم كسب المال لا يهمه الاخرين. لا هوية مجتمعية ولا هوية وطنية. لا يهمهم أي انتماء او أي هوية. لغتهم عالمية وتمسكهم بقيم المجتمع اخر همهم. جيل لا يشارك بتصويت لانتخابات فهي لن تفيدهم بشيء مباشر. جيل سيربي جيل لا علاقة له بارضه ووطنه وشعبه.
أجيال المستقبل:
مواليد 2021-2040
جيل الشتات
“مو ناقصنا يابي الا شوية كرامة”
جيل لم يولد بعد لكنهم ابناء جيل الضياع. لا هوية ولا وطن ولا انتماء. سينجحون على مستوى الافراد ويحققون انجازات واختراعات عالمية. اكثر غنى اكثر رفاهية اكثر ذكاء من أي جيل مضى. ستنشط فئات قليلة منهم تطالب بالعودة للذات دون مجيب. لم ترصد معالم سلوكيات هذا الجيل لكنها واضحة من توجهات المستقبل المحتمل.
مواليد 2041- 2060
جيل المستقبل المنشود
لا زال لدينا امل بإنقاذ هذا الجيل من المستقبل المحتمل. من خلال وضع خطة وطنية لإنقاذ هذا الجيل الذي يقع على عاتقه الحفاظ على وجودنا وهويتنا في هذه البلاد. تعالوا معا نضع ملامح هذا الجيل ونضع خطة عمل من اليوم لنعمل على تحقيقها معا. المستقبل قرار مشترك ما لم نحسمه فسيحسمه لنا غيرنا. تعالوا لنأخذ مسؤوليتنا تجاه مستقبل مجتمعنا. لنجلس معا ونناقش مستقبل احفادنا.
المستقبل المنشود خير من المستقبل المحتمل ويمكن التأثير عليه اذا تشاركنا وتعاونا على الخير.
د. سلام قدسي
مؤسس منتدى مستقبل التربية في الطفولة المبكرة في المجتمع العربي