“رقصة الشحرور”
تاريخ النشر: 20/02/20 | 11:56شاركت يوم السبت 15.02.2020 في ندوة دار الفاروق النابلسيّة لمناقشة المجموعة القصصيّة “رقصة الشحرور” للكاتب مصطفى عبد الفتاح(ابن قرية كوكب أبو الهيجا الجليليّة؛ عضو مؤسّس في اتحاد الكتاب الفلسطينيّين/الكرمل وممّن سعوا للتوحيد ليصير اتحادًا واحدًا، يعمل أمين عام في مكتبة القرية، يكتب المقالة السياسيّة والأدبيّة، ناشط ثقافي فعّال، ويكتب أدب الأطفال)؛ تشمل 21 قصّة في 188 صفحة صادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” الأردنيّة بإدارة الأديب جعفر العقيلي، تدقيق لغوي: فتحي فوراني، لوحة الغلاف بريشة: زهير حسيب وتصميم الغلاف: محمد خضير.
قرأت للكاتب مصطفى عبد الفتاح رواية “عودة ستّي مدلّلة”؛ تركَت ستّي مدللة قريتها صفورية قسرًا، هُجّرت إلى لبنان وعادت متسلّلة لتسكن في قرية كفر- مندا الواقعة على مرمى حجر من صفوريّتها، تنتظر تحقيق حلمها بالعودة.
كان النزوح والتهجير والترحيل القسري إلى لبنان نصيبهم، قساوة الحياة ومرارتها حليفهم، هناك في مخيّمات الشتات اللبنانيّة وهنا في كفر مندا، رغم كونها على مرمى حجر، وكانت ستّي مدلّلة صامدة وشامخة وتحوّل بيتها إلى مضافة، تصير قِبلة جميع النساء، وينصفها كاتبنا، نصير المرأة.
ابتعد حلم العودة وخاب أملها وخذلها الجميع فهرِمت، أرادت أن تستنشق هواء بيتها وحديقتها … هواء صفورية. وصيّتها، وهي على فراش الموت، تسلّم مفتاح البيت الصفّوري لحفيدتها قائلة: “خذي يا صغيرتي هذا المفتاح، إنّه مفتاح بيتنا الكبير”، حالمة بأن تُدفن هناك، مثلما فعلت الجدّة رُقيّة (بطلة رواية الطنطوريّة لرضوى عاشور) حين التقت حفيدتها على الجانب اللبنانيّ من السلك الشائك، تناولتها من فوق الأسلاك، قبّلتها، قامت بنزع المفتاح من عنقها، مفتاح دارهم في الطّنطورة الذي ورثته عن أمّها لتعلّقه بدورها على رقبة الطفلة، وهي تصرخ بصوت عال: “مفتاح دارنا يا حسن. هديّتي إلى رقيّة الصغيرة”.
حين علم ابنها بوفاتها دخل صفوريّة، التي صارت تسيبوري، بإذن الحارس الذي دفّعه رسوم الدخول ليُحضر حفنة تراب صفّوريّ ليدفنها معها، وقنينة ماء بلاستيكيّة من نبع القسطل ليعمّدها بها.
قرأت له رواية “جدار في بيت القاطرات”؛ التي تعتبر قفزة نوعية كبيرة من حيث الشكل والمضمون، تتناول البيت/الوطن الذي تمّ تقسيمه، وشُلّت حركته الطبيعية، والذي بدلًا من حماية البيت يصير فاصلًا بين مساحاته المفتوحة وسكّانه، والقاطرات تمثّل الثبات والقيد والحصار؛ إنّه جدار من الوهم أقامه الاحتلال في النفوس “لتيئيس” أهلنا، يتناول الصراع على الأرض والوجود وصراع البقاء لأهلنا في الداخل الفلسطيني، لنبقى شوكة في حلق الكيان الصهيوني والحلقة الصعبة في المعادلة.
تشكّل مجموعته القصصيّة “رقصة الشحرور” مدماكًا آخر في مشروعه الكتابيّ، الوطنيّ والثقافي؛ لن أتناول الحبكة القصصيّة وفنيّة كتابة القصّة، فوِجهتي هي القراءة والكتابة الانطباعيّة.
بعد النكبة شاع مفهوم “الأدب الملتزم” ولكن تبيّن لاحقًا أن هذا المفهوم تم تجريده من جماليّة الكتابة لصالح الجانب التحريضي والشعاراتيّة وخطابة المنابر، ربّما تعويضًا عن الشعور بالهزيمة والاحباط والخيبات المتلاحقة وصار النضالُ، على أشكالِه، والمقاومةُ تربة خصبة لزراعة أمنياتنا وطموحاتنا وأحلامنا التي عجزنا عن تحقيقها موضوعيًّا.
أومن بأنّه لا يوجد كاتبًا ملتزمًا كما جاء في التظهير، بل هناك أدب ملتزم؛ ومصطفى عبد الفتاح يحمل النكبة والهمّ الفلسطيني، حاول الخروج من عباءة من سبقوه من الكتّاب، بطله “يُلملم ذكرياته على عَجل، يضعها في بقجته، يحني ظهره، وهو ينوء بحمله” متشبّثًا بتراب الوطن، “إن لم تمت هنا كريمًا فستقتلك الغربة هناك”!! وبدوري أقول له: آن الأوان يا مصطفى لتتحرّر من تلك القيود ،لتتحدّث (من الحداثة)، لتتحدّى كونك الضحيّة لأنّك فلسطيني بقي في أرضه وتنطلق بأدبك إلى قمم أعلى وآفاق أبعد كما فعلت في محاولتك الناجحة في قصّة “بداية جديدة” و”صور مبعثرة”.
في قصّة “المحطة والغول” يتحدّث عن محطة القطار رقم ثمانية وأربعين، المحطة السابعة والستين، الغول الذي حرق المحطة وأغلق الطريق ورغم ذلك سيولد “أمل” وسينتظر الغائب حتى يعود.. حتمًا سيعود.
في قصّة “سكاكين..سكاكيييين” يتناول بسخرية سوداويّة “انتفاضة السكاكين”: يتناول قصّة فلسطينيّة “أطلق جنود الاحتلال النار على فتاة من داخل الخط الأخضر في مدينة العفّولة أثناء محاولتها طعن أحد الجنود بالسكين”، وقصّة “شابًا يهوديًا في العشرين من عمره قام بمحاولة طعن شاب آخر يمرّ في المكان ظنَّ أنّه عربيّ”، كما فعل في قصّة “ظلّ الله في الأرض” وهجرة الأخوة السوريّين إلى إستانبول التركيّة التي نهبت الشرق العربي لتبني قصورها “لا شك أنّ هذه الكنوز وهذه المكوّنات، هي من أفقَر الشَّرق وقضى على ثقافته وتقدُّمه وازدهاره، إنّها مُلك أجدادنا وآبائنا الذين ما زالوا يعيشون تخلُّف الشرق، وغارقين في مستنقع الجهل” (ص.45)، وكذلك الأمر في قصّة “الساحر حسن” حين يسخر من جامعة الدول العربيّة وقراراتها.
حاول الكاتب اللجوء إلى الرمزيّة فجاءت رموزه واضحة المعالم وشفّافة، يفكّها كلّ مطلّع على مجريات الأمور وصاحب حسّ وطنيّ وعروبيّ، طبقيّ ووعي اجتماعي نيّر.
جاء اختياره لأسماء “أبطاله” موفّقًا وذي دلالة عميقة ومعبّرة؛ أبو سيف، حازم، سكينة، أبو حسن، أبو علي، يونس السوريّ الذي يتوق العودة لبلده، سليم، زينب، فاطمة في قصّة “عدالة السماء”، سامح في قصّة “الصندوق الأسود”…وطائر الشحرور والسمّن.
يتناول ازدواجيّة المعايير المقيتة في قصة “صورة مبعثرة” ووالد رباب، الوعي الطبقي والعمل النقابيّ وسحقه من المستعمِر الذي نهب الأرض ليستغلّ أبنائها في قطف البرتقال بأجر باخس ويصوّر بشاعة النظام الكولونيالي والرأسمالي، ينادي بمحاربة الجهل الذي كان سببًا في ضياع البلاد.
في إصداراته السابقة كثُرَت الأخطاء النحويّة والمطبعيّة ممّا ظلم مصطفى ورواياته وأشرت إلى ذلك في حينه، ولكن هنا نجده قد استعان بصديقي الأستاذ فتحي فوراني لتدقيق المجموعة، احتراما لذاته وللقارئ، فجاءت خطوة موفّقة وحبّذا لو يحذو حذوه كتّابّنا وناشرينا.
كاتبنا قارئ ومثقّف، جاءت لغته جميلة وسلسة دون ابتذال وتصنّع، (باستثناء قصّة “نسخة إضافيّة” التي جاءت بلغة حديديّة مغايرة) متبّلة بالمحكيّة مع استعماله المُوفّق للغة المحكيّة المحلّيّة لإيصال رسالته؛ واستعماله للأمثال الشعبيّة: “تُطعمنا بطيخًا في عز الشتاء”، “مِنحُط الحدّ على الزّعرورة”، “لا حيا ولا نيا ولا دخان جَلّة”،” بهيم اللّي فلت رسنو”، “قيم أخوي عنّي وخذ حبّاته منّي”، “المصاري بتعمي البصر والبصيرة” وغيرها.
أخيرًا؛ أشكر الأستاذ محمد البيتاوي والزملاء على هذه المبادرة التواصليّة بين جناحي الوطن، يناقشون المنتج الأدبي بجديّة ودون محاباة، يتعاملون مع النصوص لا الشخوص، وتعبيرًا عن تقديري لجهودهم المباركة قدّمت لهم لوحة صديقي الدكتور يوسف عراقي الأخيرة وعنوانها: “النكبة” كهديّة متواضعة لدار الفاروق.
حسن عبادي
(نابلس 15 شباط 2020)