متنفَّس عبرَ القضبان (9)
تاريخ النشر: 26/02/20 | 10:11بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون؛ زرت أحمد وكميل وعاصم، باسم، حسام وسائد، كريم ووليد، ناصر ومروان، وائل وشادي، هيثم وسامر وغيرهم ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ كتب لي أحدهم: “الأستاذ حسن شكرًا لإنسانيّتك العالية؛ التي حملتها مسافات طويلة لتنبش ذاكرتي، بأجمل ما تحمل من صور وقصص رغم آلام الدرب في سنوات القيد الطويلة. تحياتي الحارة لك وللجميع حولك.. سجن النقب”. تواصل معي الكثيرون وشدّني ما كتبته الكاتبة نزهة الرملاوي: “تعجز الكلمات عن البوح في فضاء يصغر أمام إرادتهم”.
عقّب الدكتور الزعتريّ يوسف عراقي:”ما أجمل الكلمات الشعريّة عندما تكسر قيودها وتحلّق خارج الزمان والمكان في فضاء الحريّة الذي يزخر بنفوس مشتاقة لسماع صوت من هم خلف القضبان” .
أما أبو سهيل كروم فعقّب من مخيّمات الشتات: “أيها الحامل في مزودتك آلام الوطن وقضبان السجن وهموم الأسير، أيها الساعي وراء حقيقة مرارة الأسير، وظلم السجّان والباحث عن حقيقة ضياع فلسطين، إليك أقول: لا خير في أمّة تنسى أرضها ولا خير فينا إن نسينا أبطالنا خلف قضبان الزنازين. تحيّاتي لك وباقة ورد وودّ”.
تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت اللقاء وما يكتبونه متنفّسًا عبر القضبان.
“رجّعتني عشرين سنة لَوَرا”
تعرّفت على الأسير معتز محمد فخري عبد الله الهيموني عبر روايته “تحت عين القَمَر”، قرّرت لقائه ضمن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون، بناءً على توصية من صديقي الناشر خالد خندقجي(أبو يسار)، صاحب المكتبة الشعبيّة النابلسيّة، زرته هذا الصباح في سجن عسقلان .
تحدّثنا بداية عن روايته التي قرأتها، عن الكتابة من خلف القضبان وأهميّتها، إيصال الفكرة المسجونة والتعامل مع إحساس الفكرة وليس مجرّد كلمات، فكرة إقامة وتأسيس “ملتقى أكاديميّة الشعلة الفكريّة” في الخليل لتعزيز التعليم/التدريب/الثقافة ودعم الحركة الأسيرة وأدب الأسرى، مسار إعرف بلدك.
تحدّثنا عن أخلاق الإنسان الثائر/المناضل “مَش كيف كان..كيف لازم يكون”! عن انفعاله للقاء محامي يناقشه بنديّة و”مش بيع حكي”، على حدّ تعبيره، عمّا آلت إليه حالتنا فالناس “سكرانة”، أحد زملائه في الأسر يتساءل بسوداويّة: “هل نحن بحاجة لمجزرة يموت فيها الآلاف لنخرج من التخدير والخمول والسبات؟”، فالشعب في حالة هذيان ولكنّه يرى بصيص الأمل في بداية صحوة في الداخل الفلسطيني.
حدّثني عن مشروعه الأدبي المستقبليّ؛ “سراج عشق خالد” و”غابة عزازيل وسقوط القمر في الحب”، للقمر حضور في فكره وكتاباته، حدّة النور في العتمة والأمل رغم السواد.
تحدّثنا عن تعامل دور النشر مع كتابات الحركة الأسيرة ونشرها، أخبرته باهتمام صديقي الأديب فراس حاج محمد بأدب الأسرى واستعداده لتنقيح وتحرير كتاباتهم.
داهمنا الوقت ومرّت ساعتان بسرعة والحديث بأوّله… عيناه تشعّان أملًا بغدٍ أفضل.
حين ودّعته قال لي: “رجّعتني عشرين سنة لَوَرا”!!
“خُذني إلى حيفا”
التقيته ظُهر اليوم في سجن “هداريم”، بعد لقاء معتز في سجن عسقلان، قابلني بابتسامته البريئة التي ترافقني منذ اللقاء الأخير؛ عانقتُ الأسير ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور عبر الحاجز الزجاجيّ الباهت، أمسك كلٌّ منّا سمّاعته وقال معاتبًا: “طوّلت الغيبة”، وعاتبته بدَوري لماذا لم يبعث لي بقصيدته “خُذني إلى حيفا” التي كتبها إثر لقاء سابق بيننا وسمعت بأمرها من كلّ الأسرى الذين التقيتهم منذ شهر آب، وقلت له: “وحدِه بوحدِه”!
تحدّثنا عن مشروعه الشعريّ، فهو يكتب السجن، يروي مصطلحاته، شعوره وأحاسيسه وموسيقاه حاضرة، يؤمن بالصورة والفكرة؛ أخبرته عن موافقة صديقي الأديب فراس على مراجعته لغويًا، وظافر بالنسبة للوحة الغلاف والناشر الذي ينتظره؛ مشروعه الروائي؛ تحدّثنا عن الشأن الفلسطيني وكأنّ الجميع في سبات جماعيّ وأُصبنا بفيروس من البلادة! كيف تصير القراءة فعلًا جبانًا من شحّ الخطاب؛ حدّثني عن علاقته بمزيونة التي تشكّل أجمل وجود نسائيّ في حياته وسيرورة وصيرورة تحوّلها من علاقة أم بابنها لعلاقة أب بابنته! وحيفا تحلّق في سماء الغرفة!!!
“خُذْني إلى حَيْفا سَأَلْتُكَ مَخْجولاً ودَفَنْتُ
رَأْسي
خُذْني إلى حَيْفا أستعيدُ ذاكِرَتي
وأَغْفِرُ لي حينَ
نَسيتُ
دُوارَ البَحْرِ
وَكَوْمةَ الصَخْرِ
وحينَ رَسَمْتُ على جداري مدينةً
تُشْبِهُها
شُلَّتْ يَدايَ
وَبِئْسَ الذاكِرين ”
ابن مزيونة
“ليلى وباسم”
التقيت الروائي الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي ظهر اليوم في سجن “هداريم” وابتسامته السرمديّة ما زالت تلازمه وكأنّها لم تفارقه منذ اللقاء الأوّل يوم 12 حزيران الفائت؛ هذا اللقاء الخامس به ومعه، تعانقنا عبر الزجاج، وفجأة انفتحت أساريره حين رأى أمامي وبين أوراقي صور ليلى وباسم، تسمرّ منفعلًا لدقائق طويلة، انقضّ على سمّاعته وقال: “عمِلها أديب؟ حكيت أنا وشادي قبل ما أطلع لعندك أنّه من المفروض بعد غدٍ!” أضاف أنّ هذه أحلى هديّة يستلمها منذ 2 تشرين الثاني 2004!!!
تحدّثنا عن مقالة “في تأمّل تجربة الكتابة، شيء عن أصدقائي الأسرى من الكتّاب” لصديقي الأديب الناقد فراس حج محمد الذي كتب: ” ومن خلال هذا الاقتراب من عالم باسم الإبداعي يتبين لي أن عالم باسم الأدبي مختلف وفيه من العبقرية ما يؤهله ليكون كاتبا ذا بصمة خاصة في مسيرة الأدب الفلسطيني وأدب الأسرى بشكل خاص”، قال أنّه يتابع كتاباته عبر صحيفة القدس ويراه كاتبًا مغايرًا، وبدَوري أخبرته بنيّة فراس إيصاله أعماله الأدبيّة قريبًا.
حدّثته عن حفل توقيع الشاعرة إيمان زياد، بمشاركة الأديبة ريتا طه، روايته “حسوف بدر الدين” في المغرب ومناقشتها هناك.
تحدّثنا عن كتاباته الأخيرة ومشروعة الأدبيّ، عن المُصادرة في الأدب والفانتازيا، عن “أنفاس امرأة مخذولة”، ناقشنا مقاربات الفلسطيني والآخر الصهيوني بعد أن قرأ نجاتي صدقي، ومشاريعه حين تحرّره قريبًا وزيارة حيفا المشتهاة.
كان الحديث مثيرًا ومثريًا، عاصفًا ذهنيًا، تشعّب إلى أمور عدّة، يشرد ويسرح بين الفينة والأخرى مع صور باسم وليلى آملًا باحتضانهم وعناقهم القريب.
رحلة شاقّة، لقاء مع معتز وناصر وباسم…ثلاثة عوالم، كلّ وبصماته مميّزة.
لكم أعزاءي معتز وناصر وباسم أحلى التحيّات، الحريّة لكم ولجميع رفاق دربكم من أسرى الحريّة على أمل لقاء قريب في حيفا كما تواعدنا.
حسن عبادي
19 شباط 2020
*** الأسير معتز الهيموني من مواليد 1981، أعتقل يوم 25 نيسان 2002، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن المؤبد 6 مرات وعشرون عامًا.
***الأسير ناصر أبو سرور من مواليد 1966، أُعتقل يوم 4 كانون الثاني 1993، حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.
***الأسير باسم خندقجي من مواليد 1983، أُعتقل يوم 2 تشرين الثاني 2004، حكمت محكمة سالم العسكريّة بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد ثلاث مرات.