تاريخ سطره ضريح الحب قبر الرومية
تاريخ النشر: 05/03/20 | 8:25 قصتنا تداعب الخيال وتأخذه بعيدا بعيدا وتعيش به في أرض أحلام لم يرمقها بشر بعد فهي قصة حب فريدة جمعت بين ملكا مثقفا وسليلة أسرة فرعونية عريقة و سمات هذه النوعية من القصص أنها ربما تخلو من التفاصيل التي تشبع ظمأ القارئ إلا أنها تفتح شهية عقله لنسج الحكايات والروايات والقصص لمعرفة ما كان .
كانت هزيمة يوبا الأول النوميدي (نسبة إلى نوميديا ، هي مملكة امازيغية قديمة) أمام الرومان فاتحة خير لابنه يوبا الثاني والذي حمل أسيرا وكان لازال طفلا في الخامسة من عمره فتربي في كنف الإمبراطور غايوس أوكتافيوس ثورينوس والملقب بأغسطس وفي روما تعلم الفنون والآداب والعلوم ليصبح بعد ذلك مثالا للحاكم المثقف المستنير ناصر الفنون والعلوم والآداب ومقدما لها ومعليا من قيمتها على النزعة التوسعية والانفصالية التي سادت هذه العصور.
كان الطريق ممهدا أمام يوبا الثاني وقد شب عن الطوق فمنحه الإمبراطور أغسطس مملكة وملكة؟! فأما المملكة فكانت عرش موريطانيا القيصرية والتي امتدت من وسط الجزائر الحالية إلى الغرب إلى المحيط الأطلسي وتغطي شمال المغرب وجنوبًا إلى جبال الأطلس ودام حكمه ما يقرب من خمسين سنه حقق خلالها لشعبه طموحاته واستقراره وأسس لحكما ديموقراطيا نيابيا فكون مجلس بلدي يجري انتخاب أعضائه من المواطنين الأحرار فضلا عن أوج ثقافي ساد بلاده حيث قام ببناء مكتبة ضخمة في عاصمة مملكته شرشال وضمت كتب عديدة من تأليفه منها ليبيكا وموسوعة الموسيقى الضخمة وكتاب تاريخ روما وكتاب عن فن الرسم وتاريخ المسرح ورسالة صغيرة عن نبات أوفورب وتعتبر موسوعته أرابيكا هي أهم كتاباته حيث ترصد تاريخ الجزيرة العربية قبل الأسلام وقصة هذا الكتاب أن كايوس قيصر، حفيد أكتافيوس قد كلف يوبا الثاني برفع تقرير إليه عن الجزيرة العربية وقد عزم على غروها ، فأستفاض يوبا في الكتابة عنها فأخذ عمله الشكل الموسوعي وتسمت باسم “أرابيكا” أو عربيكا.
كانت البلاد العربية بحسب كتاب يوبا : الشام وشبه جزيرة سيناء والساحل المصري على البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية وقد أشار فيه إلى تعلق العرب بالخيول واستخراجهم للزيوت من الأسماك وزراعتهم للنخيل والتمور فضلا عن زراعة القطن وقد تحول الكتاب إلى مرجع بمرور الوقت حيث أشار إليه عالم الطبيعيات الروماني، بلنيوس الأكبر، في مؤلفه “التاريخ الطبيعي” . كما قام يوبا برحلات استكشافية إلى جزر كنارية ورحلة إلى جبال الأطلس للكشف عن منبع النيل ودعم نظريته بتماسيح جلبها معه! !وكانت عاصمته أيول أو شرشال وهو أسمها الحالي تزخر بمصانع مواد البناء وصناعة الأصباغ الأرجوانية وتجفيف الأسماك وصناعة الكاروم وهو مرق السمك وكان يستعمل عوضا عن التوابل في الطهي وصناعة السلاح وغيرها.
هذه عن المملكة فماذا عن الملكة؟
لقد أهدى أغسطس ليوبا زوجة ملكة كانت حب عمره كله وهي كليوباترا سيليني ابنة كليوباترا السابعة من زوجها القائد الروماني مارك انطونيو وكانت كليوباترا سيليني قد وقعت في الأسر بعد معركة أكتيوم البحرية الشهيرة والتي منى فيها والداها بالهزيمة أمام قوات القائد أوكتافيوس أو أغسطس لاحقا كما أشرنا آنفا.
أوكل أمر تربية كليوباترا سيليني إلى أوكتافيا أخت أوكتافيوس ليجمعها القدر بيوبا الثاني.. قيل أن أوكتافيا هي التي أشارت على أخيها أوكتافيوس بزواج يوبا وكليوباترا وفي الغالب أن الزواج قد وقع قبل تولية يوبا الثاني عرش مملكته. وبذلك اجتمعت لدى يوبا سمات فريدة بأصله النوميدي الأمازيغي، وتربيته الرومانية،علاوة على كونه بونيقي بما ورثه عن بني جلدته من حضارة قرطاج، وإغريقي بثقافته وولعه بالفنون، ومصري بزواجه من ابنة كليوباترة السابعة ملكة مصر.
يوبا وكليوباترا على العرش :
وبتولي يوبا العرش الموريطاني صعد نجم كليوباترا سيليني فاحتلت مكانة كبيرة وصارت شريكته في الحكم وليس هناك ما هو أدل على ذلك من وجودها على العملات الصادرة ببمملكة زوجها وهي بالعصبة الملكية التي تمثل الشعار الملكي إلى جانب رموز دينية مصرية وهو أبلغ رد على نظريات كثيرة تشكك في زيجة يوبا وكليوباترا سيليني باعتبار ذلك خرقا للاعراف الفرعونية والرومانية وأن المرأة الموجودة على العملات ليست لكيلوباترا بل لإحدى عشيقات يوبا!! فهل زواج يوبا بسليلة أسرة فرعونية عريقة يعتبر خرقا للتقاليد لا يمكن قبوله تاريخيا بينما وضع حاكم روماني مثقف لصورة إحدى محظياته على ظهر عملة نقدية رسمية هو أمر مستساغ لدى أصحاب هذه النظريات !!..
لقد كانت كليوباترا سيليني شديدة الأعتداد بمصريتها فنقلت الكثير من طقوس الحضارة المصرية القديمة إلى مملكة زوجها فكانت بمثابة السفيرة للحضارة المصرية العريقة فأتخذت لقب سيليني ويعني الهلال وهو من رموز إيزيس المعبودة المصرية القديمة وهو ما نجده على العملات القديمة التي تحمل صورتها.
ضريح على غرار الأهرامات :
توفيت الملكة كليوباترا سيليني في السنة الخامسة قبل الميلاد فحزن يوبا حزنا شديدا على زوجته وشريكته في الحكم. كما نعاها الأديب اليوناني كريناگوراس من ميتيلين بقوله :
القمر نفسه أصبح مظلماً، في ارتفاعه عند الغروب،
مغطياً معاناته في الليل،
لأنه شاهد سميته الجميلة، سيلينه،
متقطع الأنفاس، هابطاً إلى الظلمات،
فمعه الآن جمال ضيائها وضيائه,
واختلطت ظلمته وظلمة موتها.
قرر يوبا ان يخلد ذكراها بتحفة معمارية على غرار الأهرام في مصر فبني لها ضريحا ذو شكل هرمي مستدير تتزاوج فيه الهندسة الاغريقيةو المصرية والأمازيغية وهو الضريح الملكي الموريتاني أو قبر الرومية كما اسماه العامة ويقع الضريح بإقليم ولاية تيبازا على ربوة مرتفعة ويشرف على البحر من جهته الشمالية وعلى البساتين الممتدة على مد البصر بسهول المتيجة في الجزائر. ويعتبر أقدم نص تناول هذا الضريح وتاريخ انشائه هو نص المؤرخ الروماني ميلا بومبونيوس ويعود إلى العام 40 بعد الميلاد و يعود الفضل لعالم الآثار الفرنسي أدريان بيربروجر في اكتشاف مدخل الضريح تنفيذا لطلب نابليون الثالث عام 1865
على الرغم من الاستقلال الفكري والحضاري الذي تمتعت به مملكة يوبا إلا أنه كان تحت إمرة التكليفات العسكرية الرومانية بحكم تبعية بلاده وفي إحدى هذه الحملات إلى كابادوسيا بآسيا الصغرى مملكة أرخيلاوس وهناك تزوج غلافيرا لكن زواجهما لم يستمر طويلا فطلقها بعد ذلك..
ثم كان ترجل يوبا عن جواده للأبد حيث اختار أن يدفن بجوار زوجته الراحلة كليوباترا في الضريح الملكي وصدق الشاعر أبو تمام حينما قال :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنــــينه أبدا لأول منزل
الحب في موازين العلم :
ولا يمكننا أن نغادر هذه القصة دون أن نحكم العلم في تساؤلات عدة :كيف نفسر الحب ولماذا تستمر علاقة العلاقات الزوجية؟ وكما يولد الحب متأججا هل يستمر على نفس الوتيرة مهما مضى من عمر؟
أن الشعور الوليد بالحب وكل ما يصاحبه من لهفة ورغبة وخفقان قلب وارتعاش لليدين مسئول عنه هرمون الدوبامين أو هرمون السعادة وهو ناقل عصبي مسئول عن مركز السعادة في الجسم اما استمرار العلاقة الزوجية فمسئول عنه هرمون الأوكسيتوسين وهو إكسير الحب الذي يمنح الاحساس بالأمان والاستقرار بما يؤمن استمرار العلاقة الزوجية أما العمر الافتراضي للحب الرومانسي فهو لايدوم لأكثر من عام بحسب دراسة بجامعة بافيا فشرارة الحب الأولى مرتبطة بارتفاع بروتين بالمخ هو neurotrophinوالذي يعود إلى معدله الطبيعي بعد عام من العلاقة ويصبح الحب الرومانسي ذكريات بعد ذلك.
سبب تسميته بقبر الرومية :
يذهب البعض لسبب تسميته بقبر الرومية إلى وجود إطار بنقوش بارزة تشبه الصليب مما جعل البعض يعتقد أنه مبنى مسيحي ومنها جاءت كلمة الرومي بمعني الروماني أو البيزنطي
وقد جاء تصنيف الضريح ضمن التراث العالمي للإنسانية عام 1982 كما صنف ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة التربية والثقافة والعلم التابعة للأمم المتحدة (يونيسكو) بوصفه من الاضرحة الملكية الموريتانية والمواقع الجنائزية في فترة ما قبل الإسلام.
د. محمد فتحي عبد العال